وعي حقيقي في عالم افتراضي
(الجزء الأول)
فاطمة محب محمد
مقدمة
“إن كل تغيير يصيب المجتمعات في الحقب الزمنية على مر التاريخ يرجع إلى شكل وسيلة الإعلام والاتصال التي تربط أفراد المجتمع بما حولهم”.
مارشال ماكلوهان
وإذا كان لوسيلة الاتصال هذا الأثر البالغ على نسيج المجتمع، فمن المسلَّم به أن لها الأثر ذاته على وحدة المجتمع (الفرد)، وفي حديثنا عن مرتادي العالم الافتراضي باعتباره أحد أهم وأشهر وسائل التواصل اليوم، هل يستحق عددهم الوقوف عنده؟
هل نجده من الضخامة بمكانة تثير التساؤلات والتخوفات أيضا نحو مستقبل (حقيقي) لمجتمع يتواصل أفراده – جل ما يتواصلون- (افتراضيًّا) ؟!
لتعلم يا صديقي أن عدد المشتركين بالعالم الافتراضي: 35500000 مشتركًا، يقوم ما يقرب من مليون ونصف المليون منهم بالدخول إليه شهريا[1]
لا أتحدث عن أرقام بالبورصة، ولا عن عدد طيور الحبارى المهاجرة من أواسط آسيا إلى غرب الهند، ولا عدد السيارات التي تعرض في مزادات متتالية لمهمل ومصادرات الجمارك. أتحدث عن مليون ونصف المليون إنسان.. مليون ونصف المليون عقل.. مليون ونصف المليون وعي.. مليون ونصف المليون لبنة في جُدُر مجتمعاتنا.
بم يتأثر هذا العدد المخيف يوميًّا؟ وكيف يتأثر؟
هل يعي ما يتعرض له عبر الاندماج في هذا العالم الافتراضي؟
وإذا وعى، هل يملك القدرة على الاختيار؟
في السطور القادمة نخوض معًا محاولات للفهم. ربما تلفتنا إلى ما غفلنا عنه، وربما ينبت الفهم زرعًا تنازع خضرته فينا زرقة التواصل الافتراضي.. ربما!
***العالم الافتراضي والوعي ***
#ما معنى الوعي واللاوعي؟ ومتى يكون الإنسان واعيًا؟
الوعي في علم النفس: هو شعور الكائن الحي بما في نفسه وبما يحيط به.
ويرى الفيلسوف الألماني “هيجل”: أن (الوعي) كخاصية إنسانية هو تلك (المعرفة) التي تكون بكل شخص بصدد وجوده وأفعاله وأفكاره، كأن يكون الشخص واعيًا ويتصرف طبقًا للمعرفة التي تحركه والعيش بوعي الوجود[2].
وأقول: أن يكون الإنسان (واعيًا) يعني أن يكون (يقظًا).
أما اللاوعي، فهو يعبر عن مجمل المشاعر والميول والعوامل النفسية الكامنة في باطن الإنسان، والتي لا يعيها الإنسان أي لا يدركها الوعي، وأن يكون الإنسان من دون وعي يعني أن يكون من دون انتباه بدرجة.
#المدخلات والوعي
“إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولًا” (الإسراء 36)
تتجلى في هذه الآية القرآنية الأدوات التي تشكل مصنع الوعي لدى الإنسان، وهي بمثابة فريق عمل متكامل، فالأذن والعين يكتسب بهما الإنسان المعطيات المتمثلة في الصور والأصوات، والعقل يحلل هذه المعطيات، فيرد الزائف منها، ويقبل ما اطمأن إلى صدقه، ويهذبه، حتى يكوّن بالنهاية وجهة نظره الخاصة التي تمثل وعيه الذي ليس بالضرورة أن يكون صحيحًا تمامًا، ولكنه بالضرورة يعبر عن صاحبه تمامًا.
#مواقع التواصل والوعي الفردي والوعي الجمعي
ألا يحدث أن يتصدر خبر زواج الفنانة “فلانة” من الفنان “فلان” مواقع التواصل الاجتماعي لتجد صفحتك الرئيسية مزدحمة به؟
ألا يحدث أن يزيح هذا الخبر خبر آخر عن حرائق غابات الأمازون ليصبح رقم 1 في الأخبار المتداولة اليوم التالي؟!
بصرف النظر عن طبيعة الأخبار ومدى أهميتها، وإلى أي درجة تعبر عن همومك اليومية الحقيقية، ماذا يسمى هذا؟ ولماذا تفاجأ من نفسك بالحديث حول خبر –وإن كان حديثا عابرا- مع محيطك، على الرغم من أنه لولا وجود مواقع التواصل، ولولا إرادة القائمين عليها ما كنت لتعرف جل تلك الأخباروما تأثرت حياتك بذلك الجهل الذي لا يضر؟
أهلا بك في مصنع الوعي الجمعي..
يقول “جوستاف لوبون” –أحد مؤسسي علم النفس الاجتماعي- عن معنى الوعي الجمعي: إنه الاستجابة غير العقلانية لما تردده الجماعة. لذلك يبدو الوعي الجمعي في كثير من الأحيان مفتعلًا وموجهًا ومفتقدًا لكثير من القيم والمُثُل[3].
ونرى هنا يوميًّا في العالم الافتراضي عمومًا، وعلى صفحات مواقع التواصل الاجتماعي خصوصا، موقفا جمعيا تجاه قضية ما،يشاركه أحد المستخدمين، وينشره واحد تلو الآخر، حتى يستشري في ساعات معدودة ليتبناه الآلاف –وأزيد- متوهمين أنه نتاج مصنع الوعي الفردي لكل منهم.
أمر مخيف، أليس كذلك؟! يتأجج الخوف هنا إذ نعلم ترتيب ما يؤثر في الوعي الجمعي:
1-الصور أو الكلمات والعبارات والشعارات
2-الأوهام
3-التجارب السابقة
4-العقل
نعم يا صديقي، أول ما يؤثر في وعينا الجمعي هو عماد مواقع التواصل، وتتزيل عقولنا القائمة!
لكن، هل هذا دائمًا سيء؟ أعني أن ينصهر الوعي الفردي للمرء في بوتقة وعي جمعي. هل هذه العلاقة بين نوعيّ الوعي تأتينا دومًا بثيابها البالية المتسخة تلك؟!
نجد العلاقة بين الوعي الفردي والوعي الجمعي تتوقف غالبا على عدة عوامل، أبرزها: درجة صلاح الوعي الجمعي. فإن كان وعيًا يغلب عليه الصلاح صار التفاوت بينه وبين وعي الفرد هو مصدر التجديد الرئيس للحياة الاجتماعية قاطبة، وهي علاقة إيجابية متأنقة، أما إن غلب الفساد على الوعي الجمعي نشأت علاقة تضاد بينه وبين وعي الفرد، يقع الأخير فريسة سهلة لها، تُطمَس بعدها ملامحه وتُخلخَل ثوابته.
ويبقى السؤال يا صديقي لك: أي الصنفين من الوعي الجمعي تقابله يوميًّا على صفحتك الرئيسية بمواقع التواصل الاجتماعي؟ وهل ترضيك أناقة علاقة وعيك الفردي به؟ أم تراها رثة الثياب تثير بداخلك الشفقة عليها والحركة الجادة لعونها؟!
وماذا عن (لاوعيك) ؟ ذاك القابع داخلك حيث تُصنَع دوافع أعمالك كما وصف “لوبون” في كتابه ذاته؟ هل تنتبه إلى المدخلات التي تتناوب عليه كل ساعة خلال العالم الافتراضي؟
ولمن الكلمة الأخيرة ؟ تكوينك الحقيقي أم عالمهم الافتراضي؟
***العالم الافتراضي والعقل والمعرفة ***
#ماذا يعني العقل؟
إذا اطلعت على معنى كلمة (عقل) في أحد المعاجم، لوجدت لها مرادفات عدة، منها: ما يقابل الغريزة التي لا اختيار لها، ومايكون به التفكير والاستدلال، وما يتميز به الحسن من القبيح والحق من الباطل، وقد تجده يعني الحصن …إلخ
لكن ليس هذا مايهمني في هذا المقام. ما أود الوقوف عليه هنا هو مدلول كلمة (العقل). وللعقل كذلك أكثر من مدلول، ربما من أبرزها في التراث الإسلامي[4]:
1-الغريزة التي يتأتى بها فعل التعقل
2-المعارف (فطرية ضرورية – نظرية)
3-العمل بالعلم.
“وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير” (الملك 10)
فما علاقة العقل بالمعرفة إذًا؟!
إذا اعتبرنا الحواس هي (الناقل المعرفي) كما خلصنا في العنصر الأول من مقالنا (العالم الافتراضي والوعي)؛ فإن العقل بأي من مدلولاته المذكورة سالفًا هو (الحَكَم المعرفي).
بالتالي، عند إفساد الأداة العقلية تفسد عملية اكتساب المعارف وتسكينها وعقلها والعمل بها.
مثال: نقلت لك حاسة البصر صورة. يحكم عقلك حينها إما بصحتها أو بعدم صحتها أو يلزم موقف المشكك المتسائل…إلخ. إذا كانت مدخلات العقل التي يحكم بها فاسدة، فسد حكمه، ففسدت هذه العملية المعرفية ولم ينتفع بما نقله البصر له، إما برد المقبول أو قبول المردود، أو بإنتاج أسئلة مغالِطَة قد لا يجد الإنسان جوابًا معرفيًا لها، فينتج إما التشتت والتيه، أو الاهتداء إلى الرجوع للضرورات الفطرية التي قد يحسن الاستهداء بها أو يسيؤه.
لكن هل ثبت أن التعامل مع العالم الافتراضي يضر بوظائف العقل بشكل مباشر؟!
ذكر البعض أن شبكة الإنترنت تقوم بتغيير أسس عمل الدماغ، إذ تجعلنا نحصل على كم أكبر من المعلومات لكن بشكل سطحي، مما يحد من قدرتنا على التركيز وتقلص قدرات الإدراك والوعي.
حذر من هذا “نيكولاس كار”[5]، واتفقت مع هذا الرأي “بيتسي سبارو” من جامعة كولومبيا بالولايات المتحدة الأمريكية، حيث قالت في حديثها عن مستخدمي الإنترنت عامةً و google خاصةً: إنهم يعتمدون إذن على الذاكرة الخارجية لتعويض ذاكرتهم[6].
والآن أطلب منك يا صديقي أن تعيد قراءة تعليق “سبارو” ثانيةً.
أعدتَ قراءته؟
حسنًا. نبه أحدهم يومًا إلى خطر ما قائلًا: “سيتوقفون عن استخدام ذاكرتهم، وسيصبحون كثيري النسيان”[7].
ترى من القائل؟ كاتب أو باحث معاصر نضم اسمه إلى من ذكرنا؟ وترى عمّ يتحدث؟ عن خطر الإنترنت؟ عن الانفتاح المعلوماتي في عصرنا الرقمي هذا؟
حقيقةً، نقف هنا على وصل تاريخي يشعرنا وكأنه مهما طفت على السطح اختلافات هائلة بين العصور، يظل المشترك بينها مطويًّا في جانب من صدر هذا الكون، يطبق عليه لايكاد يفلته!
تعود العبارة الأخيرة إلى ماقبل ثلاثة آلاف عام، على لسان “آمون” الملك الفرعوني، الذي نقلها عنه “أرسطو” في حواره مع “أفلاطون” عندما خشي الأول قديمًا أن وسيلة كتابة العلم ستتسبب بالنسيان للذين يطلبون العلم!
في السياق ذاته، نجد بعض الآراء التي عارضت اتهام الإنترنت بجعل الإنسان غبيًّا أو قليل التركيز أو ضعيف الذاكرة، مثل “ستوي بويد” الباحث والكاتب في مجال البرمجيات، وغيره.
هكذا قدمتُ عرضا سريعًا لعلاقة وسائل التواصل الافتراضي بكل من: الوعي، والعقل والمعرفة.. حسنا.. فلنكتفِ بتصفح وسائل التواصل لمعرفة الأخبار ونقصر دورها على هذا الشأن الإعلامي الملائم لطبيعة يومنا في هذا العصر من حيث السرعة والسهولة، ما رأيك؟
نناقش هذا في الجزء الثاني من مقالنا بإذن الله لنرى إن كان الأمر ملائما فعلا أم لأصول الإعلام كلمة أخرى؟
[1] كتاب “شباب الفيس بوك والعالم الافتراضي” – علي محمد عبد الله.
[2] هيجل – دراسة وتحليل في الفلسفة المعاصرة – جزء – 51 / سلسلة أعلام الفلاسفة
[3] سيكولوجية الجماهير – جوستاف لوبون.
[4] العقل (بين الفرق الإسلامية – قديما وحديثا) – أحمد محمود محمد عابد.
[5] السطحيات: ماذا تفعل الإنترنت بأدمغتنا؟ – نيكولاس كار.
[6] مقال مترجم بعنوان ” كيف تؤثر التكنولوجيا على الدماغ؟ ” بتاريخ 2 ديسمبر 2015 – شبكة زدني للتعليم
[7] كتاب “الإعلام وضبط المجتمع .. صناعة الواقع” – منظمة الجواد العربي.