إحياء للتنمية الأخلاقية

بسم الله الرحمن الرحيم

ما الخُلُق؟

لخّص الميدانيُ تعريف الخُلق بقوله[1]: “صفة مستقرة في النفس، فطرية أو مكتسبة، ذات آثار في السلوك محمودة أو مذمومة”.

وفي تعريف مسكويه[2]: “حال للنفس، داعية لها إلى أفعالها، من غير فكر ولا روية”.

فالخُلق حالٌ نفسي، وإنما يوصف بالحمد والذم من خلال قياس آثاره في سلوك الإنسان؛ فالصفة الخلقية المستقرة في النفس إذا كانت حميدة كانت آثارها حميدة، وإذا كانت ذميمة كانت آثارها ذميمة، وعلى قدر قيمة الخلق في النفس تكون بحسب العادة آثاره في السلوك، إلا أن توجد أسباب معوّقة أو صوارف صادَّة عن ظهور آثار الخلق في السلوك.

وذلك الحال لا يتولد بالضرورة من التفكير، ولا يلزم أن يمر بقناة العقل؛ بل الأصل فيه أن يكون من غير فكر ولا روية.

“وليست كل الصفات المستقرة في النفس من قبيل الأخلاق؛ بل منها غرائز ودوافع لا صلة لها بالخلق، ولكن الذي يفصل الأخلاق ويميزها عن جنس هذه الصفات؛ كونُ آثارها في السلوك قابلة للحمد أو للذم؛ فالغريزة المعتدلة ذات آثار في السلوك، إلا أن هذه الآثار ليست مما يُحمد الإنسان أو يُذم عليه؛ فالأكل عند الجوع بدافع الغريزة ليس مما يُحمد أو يُذمّ في باب السلوك الأخلاقي، لكن الشَّره الزائد عن حاجة الغريزة العضوية أمر مذموم؛ لأنه أثر وخلق في النفس مذموم هو الطبع المفرط، وعكس ذلك: أثرٌ لخلق في النفس محمود؛ هو القناعة.

والحذر من وقوع مكروه: أثر من آثار غريزة حب البقاء، وليس محلًّا للمدح أو الذم في باب السلوك الأخلاقي؛ لكن الخوف الزائد عن حاجات هذه الغريزة؛ هو أثرٌ بِخُلُقٍ في النفس مذموم؛ هو الجبن، أما الإقدام الذي لا يصل إلى حدّ التهور فهو أثر لخلق في النفس محمود هو الشجاعة”.

و”الأخلاق المحمودة” تنتمي عند جميع الأنبياء والحكماء والعلماء والمفكرين إلى جنس: “الخير”، وتُصَنف عند كلهم في صنف: “الجمال”.

وتنميتها في النفس من أهم أسباب تحقيق السعادة، والتحلي بآثارها في السلوك يعطي الإنسان صورة جميلة وسمعة حسنة ..

وقد سماها خاتم النبيين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: مكارم الأخلاق، وصالح الأخلاق، وحَسن الأخلاق.

مكارم الأخلاق:

لقد تطوّر مفهوم “مكارم الأخلاق” في الإدراك والسلوك الإنساني عبر تاريخ البشرية، ثم كانت البعثة المحمدية المحطة النهائية من محطات إنضاج ذلك المفهوم؛ كما يشير إلى ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق“. رواه البخاري في “الأدب المفرد”.

وفي رواية: «إن الله بعثني لتمام مكارم الأخلاق وكمال محاسن الأفعال» . رواها البغوي في “شرح السنة”.

ففي هذا الحديث النبوي إشارة إلى أن ما بلوره الأنبياء والفلاسفة في بناء مفهوم “مكارم الأخلاق”؛ بقي ناقصا حتى أكمله رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم؛ تنظيرا وممارسة[3]، وعظا وفلسفة.

إن الدارس لمواقف الأنبياء -عليهم السلام- في أوثق مصادرها: القصص القرآني؛ يقف على أن الرقي بالسلوك الإنساني في مدارج “مكارم الأخلاق”؛ كان من الأولويات في دعوتهم وسياستهم للناس ..

وهو ما تجلّى بشكل واضح ومفصل في أقوال وأفعال خاتمهم صلى الله عليه وسلم؛ الذي تمت دراسة سلوكه وسيرته وشمائله وتصرفاته ومواقفه؛ دراسةً فاحصة معمقة نُشِرت معطياتُها في مئات المؤلفات وآلاف المرويات، وأكدت نتائجُها: نضج وسمو وتفوق أخلاقه عليه الصلاة والسلام ..

وذلك كله يبقى هامشا أمام شهادة الخلاّق العليم تعالى؛ الذي قال عنه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]

كما أن سنته المباركة صلى الله عليه وسلم كانت وعاء لحمولة فلسفية وتربوية هائلة في موضوع الأخلاق؛ وقد أبرزت تلك الحمولة: مصنفاتُ المحدثين والمؤلفين الذين تتبعوها وجمعوها وتناولوها بالشرح والتحليل في العديد من الكتب والدراسات ..

ويمكن تلخيص تعريف “مكارم الأخلاق” في السنة النبوية فيما يلي: “ترجمة القِيَم القرآنية إلى سلوك مشخص وممارسة عملية”.

وقد التقطتُ إشارة هذا التعريف من قول السيدة عائشة رضي الله عنها حين سئلت عن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم: “كان خلقه القرآن“. رواه البخاري.

فمكارم الأخلاق هي الترجمة العملية لما أرشد إليه القرآن الكريم من: فعل الخير والإحسان، ولزوم الحق والعدل، والاتصاف بالبر والرحمة والصدق، وأداء الأمانة، والأمر بالمعروف والنهي عن الفحشاء والمنكر والخبث والنفاق والغدر …

علم الأخلاق:

لقد كانت نعمة العقل مدخلا هاما نحو بلورة وإنضاج “علم الأخلاق”؛ وتجلى ذلك فيما أفرزه العقل الإنساني من مخرجات فكر الحكماء والفلاسفة؛ والتي أشاد القرآن الكريم ببعضها (الفيلسوف لقمان نموذجا).

وعلم الأخلاق “هو العلم الذي يبحث فيما ينبغي أن يكون عليه الإنسان، ماذا ينبغي أن يعمل وبأي شكل يشكل حياته”.

وموضوعه هو “البحث في حال النفس، التي هي أشرف الموجودات المخلوقة بسبب جوهرها المجرد الذي يتناسب مع أنفس الملائكة من هذه الجهة”.

يقول عماد الهلالي[4]: “وقد أفاض الله المعلومات، والأسماء الدالة على المسميات على أول بشر خلقه من خلقه، وجعله خليفة في أرضه، ولم يعلمها ملائكته المقربين، لما في ذلك من عدم الضرورة الداعية إلى تعليمهم إياها، لتجردهم عن ماديات هذا العالم وكثافته، ولأنهم منزهون عن معنى المشاركة في المصالح الأرضية التي تستلزم المزاحمة، وهي بلا شك، تقتضي وجود صناعة ذات أصول، وقواعد لتربية الأنفس، بحيث تجعلها صالحة للبحث في أحوال الموجودات على وجه يضمن الاعتدال في الطلب، ويسير بكل نفس إلى ما أعدت له وتهيأت إليه.

هذه الصناعة التي حلّت في المحل الأول من الأنبياء “prophets” والحكماء ” sages”، ثم انعكست في سيرة الملوك العادلين والسلاطين الصالحين، كانت سببا لنظم المجتمعات البشرية وتدبير مصالح الخلق على اختلاف في الغايات، وتفاوت في المشارب، وتباعد في الاستعداد، وتباين في التهيؤ والقابلية، والتي تجعل العدل شعارا، والرحمة دثارا، لا يمكن أن يعبر عنها بغير صناعة الأخلاق.

ولما كان شرف العلم يرجع إلى شرف موضوعه؛ كان العلم الإلهي أشرف الموضوعات قاطبة، يليه في الرتبة الرياضيات ثم الطبيعيات، وعلى مستوى العلم الطبيعي ذاته تجد أن البحث في النفس الإنسانية أشرف من سائر الأبحاث  الأخرى”.

مسكويه وكتابه تهذيب الأخلاق:

يُعتبر أحمد بن محمد بن يعقوب مسكويه (320-421 هجرية / 932-1030م)؛ أول فيلسوف عالج “المسألة الأخلاقية” بشكل تخصصي مدقق، وجعلها علما وصناعة محددة المعالم والمواضيع، وكتب فيها مؤلفات بديعة الترتيب والتصنيف[5].

ويرى الدكتور عماد الهلالي أنه ينتمي إلى صنف العلماء الذين مزجوا في تناول المسألة الأخلاقية بين “العقل والفلسفة” من جهة و”الوعظ العاطفي” من جهة ثانية؛ حيث صنف علماء الأخلاق إلى ثلاثة أصناف:

الصنف الأول: الأخلاقيون الكلاسيكيون: مثل: ابن قتيبة وابن أبي الدنيا

الذين قدموا مكارم الأخلاق من خلال المواعظ والحكم

الصنف الثاني: الأخلاقيون العقلانيون: مثل: ابن رشد ويحيى بن عدي

الذين قدموا مكارم الأخلاق برؤية فلسفية عميقة

الصنف الثالث: مزج بين “العقل والفلسفة” و”الوعظ والعاطفة”

مثل: مسكويه والغزالي وابن القيم

وأهم كتب مسكويه: كتاب “تهذيب الأخلاق” الذي شرح فيه الأصول الشرعية والعقلية الفلسفية للأخلاق.

وله عنوان آخر: “الفوز الأكبر”؛ إشارة إلى أن السعادة الحقيقية هي التحلي بمكارم الأخلاق.

وله عنوان ثالث: “طهارة النفس”؛ إشارة إلى أن زكاة النفس هي المدخل نحو التحلي بمكارم الأخلاق.

ولهذا الكتاب أهمية بالغة في مجال: “فلسفة الأخلاق”، وهو خاتمة مسار مسكويه التي توج بها سنوات عديدة من القراءة والتأمل الفلسفي.

ومما يميز الكتاب: وجود مهارة تربوية (بيداغوجية)[6] كبيرة؛ فقد طبق مسكويه قواعد منهجية أرسطو (384/322 قبل الميلاد)، (أي: قواعد العرض الواضح والمنظم للأفكار)، مع مزجها بعلم النفس الأفلاطوني؛ مع دمجها بالنظرية الأخلاقية في الإسلام.

ومن بيداغوجيته: أنه نفذ إلى الجمهور من خلال الأمثلة المحسوسة المعاشة لدى العامة ..

فلسفة الأخلاق عند مسكويه:

في الوقت الذي اهتم كثير من الباحثين في فلسفة أفلاطون وأرسطو؛ بالمواضيع المرتبطة بالمنطق والطبيعيات والإلهيات؛ نجد مسكويه يهتم بجانب الأخلاق ويركز عليه ..

وقد جمع في تأسيسه لفلسفة أخلاقية متكاملة بين مرجعية “الشريعة الإلهية والسنة النبوية” و”مخرجات الفكر الإنساني”؛ ومزج في موضوع التربية والأخلاق بين: “دراسات الفلاسفة الإغريق”، و”التراث العربي والإسلامي”.

قال في الكتاب المنوَّه به: “والشريعة هي التي تُقَوّم الأحداث وتُعَوّدهم الأفعال المرضية، وتعد نفوسهم لقبول الحكمة وطلب الفضائل والبلوغ إلى السعادة الإنسية بالفكر الصحيح والقياس المستقيم.

وعلى الوالدين أخذهم بها وبسائر الآداب الجميلة…”.

وبعد صفحات يعبر مسكويه عن أسفه؛ لأنه لم يتلق في طفولته تربية ملائمة من هذا النوع، بل على العكس لقد اتبع طريقا مغايرا، طريق الفوز في هذه الدنيا ونيل ملذتها؛ يقول: “ومن لم يتفق له ذلك في مبدأ نشوئه، ثم ابتلي بأن يربيه والده على رواية الشعر الفاحش، وقبول أكاذيبه واستحسان ما يوجد فيه من ذكر القبائح ونيل اللذات، كما يوجد في شعر امرئ القيس والنابغة وأشباههما، ثم صار بعد ذلك إلى رؤساء يقربونه على روايتها وقول مثلها، ويجزلون له العطية، وامتحن بأقران يساعدونه على تناول اللذات الجسمانية، ومال طبعه إلى الاستكثار من المطاعم والملابس والمراكب والزينة .. كما اتفق لي مثل ذلك في بعض الأوقات، ثم انهمك فيها واشتغل بها عن السعادة التي هو أهل لها، فليعد ذلك شقاء لا نعيما، وخسرانا لا ربحا، وليجتهد على التدرج إلى فطام نفسه منها، وما أصعب ذلك؛ إلا أنه على كل حال خير من التمادي في الباطل”[7].

وقد كانت الأفلاطونية حاضرة في فلسفة مسكويه الخلقية؛ حيث التزم بجوهرية النفس وانفصالها عن الجسد، وسلم بالقسمة الثلاثية لقوى النفس، على غرار أفلاطون.

واعتبر أن لكل من هذه القوى فضيلته الخاصة:

فالحكمة هي فضيلة القوة الناطقة.

والعفة هي فضيلة القوة الشهوانية.

والشجاعة هي فضيلة القوة الغضبية.

أما رابع هذه الفضائل فهي العدالة؛ التي تنجم عن اعتدال القوى الأربع وتناغمها.

فكانت هذه الفضيلة أسس الفضائل جميعا.

إلا أنه لم يتوقف عند هذه الفضائل الأفلاطونية الأربعة؛ بل ألحق بها تحت تأثير الرواقية “stoicism”  والمشائية  “peripatetics”المتأخرة؛ طائفة من الفضائل الفرعية، تعتبر كل من الفضائل الأربعة الكبرى جذعا لها، وكانت هذه السمات من المميزات الرئيسية للفكر الأخلاقي العربي برمته، ولدى مسكويه خاصة”.

ومن الفلاسفة الذين رجع إليهم مسكويه ونقد بعض آرائهم بالإضافة إلى أفلاطون وأرسطو: سقراط وجالينوس وفيتاغوس.

الراغب الأصفهاني وكتابه الذريعة إلى مكارم الشريعة:

يمكن اعتبار الحسين بن محمد الشهير بالراغب الأصفهاني (توفي 502 هـ / 1108 م) من أبرز علماء وفلاسفة المسلمين الذين نظروا لفلسفة الأخلاق؛ وأثبتوا إمكان الارتقاء بالإنسان عن طريق العمل بمكارم الشريعة.

وقد شرح منهجه في ميدان الأخلاق، وأرسى قواعد المنهج وحلل المشكلة الأخلاقية، مقدما لها بتحليل مسهب للإنسان ومكانته بين المخلوقات، والغرض الذي من أجله خُلِق وبيان مصيره، وإمكان إصلاح أخلاقه وتوجيه الإرادة الإنسانية الوجهة الأفضل عن طريق بذل الجهد والعمل الدائب لرياضة النفس وتحسين الخلق.

ولعل كتابه “الذريعة إلى مكارم الشريعة” من أفضل كتب الأخلاق.

يقول عنه العلامة علال الفاسي[8]: “فيلسوف، وعالم ممتاز، لم يهتم بأمره الباحثون المحدثون، ولا كتب عنه كثيرا المترجمون السابقون، مع أنه من أعظم من أنجبتهم أمتنا ولغتنا؛ علما، وأدبا، وفكرا.

ومن كتبه النفيسة “الذريعة إلى مكارم الشريعة”.

ويعتقد كاتب ترجمة الراغب، في دائرة المعارف الإسلامية، أنه هو كتاب الأخلاق.

أما الزركلي؛ فقد ذكر الأخلاق، أو أخلاق الراغب، كتابا مستقلا عن الذريعة، وذلك ما يقتضيه صنيع صاحب كشف الظنون، حيث ذكر كتاب أخلاق الراغب في مادة الألف والخاء، وذكر في حرف الذال والراء كتاب الذريعة.

فدل ذلك على أنهما كتابان مستقلان.

وقد ذكروا في ترجمة الغزالي، أنه كان معجبا إلى حد كبير بكتاب الذريعة، حتى أنه كان لا يفارقه، وإذا سافر جعله في كمه، ولا يحمل غيره معه.

وحُقّ له ذلك؛ وقد استفدت منه أثناء تأليفي لكتاب “مقاصد الشريعة ومكارمها” إذ نقلت عنه فقرات مفيدة.

وله كتاب مماثل اسمه: “تفصيل النشأتين، وتحصيل السعادتين“، قال عنه الزركلي، أنه في  الحكمة وعلم النفس.

وهو في الحقيقة في جملة الموجودات، ومكان الإنسان منها، ومبدئها، ومنشئها، ومنتهاها، وما جعل له من السعادة في الدارين، باكتساب الإنسانية، وكيفية التطرق إليها”.

فلسفة الأخلاق عند الغربيين[9]:

مذاهب الفلسفة الأخلاقية الغربية ترجع إلى مذهبين عامين:

1 مذاهب غائية:

وهي التي تحكم على الفعل الخلقي بالاستناد إلى آثاره أو نتائجه؛ وأشهرها: مذهب اللذة عند إبيقور (epicurus) (270-343 ق.م)، وجيرمي بنتام (Jeremy Bentham) (1748 – 1823م)؛ وهو أول فيلسوف إنكليزي أبرز مذهب اللذة في القرن التاسع عشر الميلادي، وذلك في كتابه: “مقدمة لأصول الأخلاق والتشريع“.

وقبله قال الفيلسوف الإنكليزي جون لوك (John Locke) (1632 – 1704م) بأن فكرة الخير يجب أن تُعرّف بأنها هي نفسها كلمة اللذة أو على الأقل تعرف تعريفاً يردها إلى اللذة.

وجعل جون ستيوارت ميل (John Stuart Mill) (1806 – 1873م)  مذهب اللذة هو مذهب المنفعة.

أما أرسطو (aristotle) فيرى أن السعادة هي الخير الأقصى الذي يمكن أن يصل إليه الإنسان في هذه الحياة.

وهو واضع المذهب الأخلاقي المستند إلى فكرة السعادة، والذي شرحه في مقدمة كتابه “الأخلاق النيقوماخية”[10].

أما الرواقيون[11] فرأوا انحصار السعادة في (ضبط النفس) و(الاكتفاء بالذات) و(الحكمة) أي أنه تحرر من الانفعال والتخلص من الهوى.

2 المذاهب الموضوعية:

التي تحكم على الفعل الخلقي في ذاته لا بالنظر إلى نتائجه.

وأبرز معالم الاتجاه الموضوعي يظهر في مذهب إيمانويل كانط  (Immanuel Kant) (1724-1804) صاحب فكرة (قانون الواجب) الذي يحكم على الفعل الخلقي في ذاته، لا بالنظر إلى آثاره ونتائجه.

وفي مذهبه الأخلاقي استبعد مذهب السعادة الشخصية، لأنه يرد الخير إلى اللذة والمنفعة، ولا يضع تمييزًا بين بواعث الرذيلة، ولم يوافق على مذهب العاطفة الأخلاقية مع اعترافه بالفضيلة أولًا وبالذات.

وتعد المدرسة الاجتماعية الأخلاقية في العصر الحديث من أهم المدارس التي أسهمت بآراء روادها في دراسة الأخلاق منذ كانط وإميل دوركايم  (Émile Durkheim)؛ اللذان أرادا تطبيق منهج البحث في العلوم التجريبية على دراسة الظواهر الاجتماعية من تاريخ واقتصاد وأخلاق ولغة وغير ذلك.

ويأتي فلاسفة الوضعية المنطقية فينكرون القضايا الأخلاقية لأن الفلسفة الأخلاقية في رأيهم لا تنطوي على أي بحث في الواقع، ويذهبون في غلوهم الإنكاري إلى القول بأنها قضايا زائفة لا تعبر عن أي شيء قابل للتحقيق تجريبيا.

وفي ضوء هذا الإنكار يرون في الأحكام الأخلاقية مجرد “توصيات” أو “رغبات” أو “عبارات تعجب”.

أما أساطين الفلسفة الوجودية أمثال كيركجار وجبرييل مارسيل وسارتر؛ فبدافع رفضهم إخضاع الفرد للحتمية الاجتماعية أو الموضوعية العلمية، وتقديسهم للحرية باعتبارها مصدر الإلزام، أسقطوا جميع القيم من حسابهم.

فلسفتهم في الحقيقة تُمَثل ضربة قاصمة للقيم والفضائل الخلقية، وقد هوتْ بالحياة الإنسانية إلى مشاعر القلق والعبث والغربة والضياع والفراغ واليأس.

مما دفع بأحد الباحثين إلى التساؤل: هل نحن أمام فلسفة أخلاقية أم تدهور أخلاقي؟

في رأي بارودي أن الأزمة المعنوية التي تكافح فيها المدنية الغربية منذ ثلاثة قرون إنما هي أزمة خلقية، معللا إياها بالانفصال الذي حدث بين الأخلاق والوحي الديني؛ ومن ثم فإن الحاجة أصبحت ماسة من جديد إلى سلطة ما، وإلى قاعدة خارجية وإلى مبادئ موضوعية[12].

وأمام هذا التردي في المذاهب الأخلاقية هناك، هل يصعب علينا استقراء المغزى؟

إن الأزمة الحقيقية للفلسفة الغربية في الأخلاق نابعة من تصورات الإنسان للقيم الخلقية، أو اللهث وراء البحث عن اللذة أو المنفعة، وخطأ تصوراته عن الهدف والمرمى من الحياة، وبحثه عن أهداف كالسراب، مع افتقاد النظرة الصحيحة للقيم الثابتة التي نستمدها نحن المسلمين من عقيدتنا، ومن خبرة الأجيال تلو الأجيال.

في الحاجة إلى تنمية أخلاقية:

حسب الباحثة بانا ضمراوي ترجع الأصول الأولى لفكرة التنمية؛ إلى التجارب المبكّرة التي قام بها الإنسان الأوّل لإدراك التغيرات التي تحصل من حوله، وقد ارتبط ذلك بالتجارب الحية والتأمل في الاختلافات التي تحصل في الموجودات؛ كفصول العام، والنبات، والإنسان، والحيوان.

فقد أكّدت تلك التغيّرات أنّ هذا العالم في حركة غير متوقفة وفي تغيّر مستمر، وقد أدت هذه الملاحظات والتأملات إلى ظهور نقاش فلسفي حول ماهية الأشياء، وطبيعة المتغيّرات التي تحدث فيها، وألهمت الإنسان فكرة السعي للارتقاء بالمجتمع والانتقال به من الوضع الثابت إلى وضع أعلى وأفضل.

وهذا هو أصل مفهوم التنمية التي تُعرَّف بأنّها عملية تغيير اجتماعي مخطّط، يقوم بها الإنسان للانتقال بالمجتمع إلى وضع أفضل، وبما يتوافق مع احتياجاته وإمكانيّاته الاقتصادية والاجتماعية والفكريّة.

لقد أدت هيمنة الفلسفة الوجودية في الغرب إلى انتشار قناعاتها بشأن المسألة الأخلاقية؛ الشيء الذي رسّخ “التدني الأخلاقي” وأفشى تمظهراته وما أفرزه من سلوكيات ملأت الحياة بأنواع الشرور والجرائم ..

وهو ما يؤكد الحاجة الماسة إلى “تنمية أخلاقية” تنتشل المجتمعات الإنسانية من أوحال تلك الشرور وترتقي بها نحو وضع أعلى وأفضل.

إن أزمات مجتمعاتنا الإسلامية وإخفاقات مشاريعها الإصلاحية والنهضوية؛ ترجع أسبابها –بقدر كبير- إلى مشكل “التدني الأخلاقي” الحاد الذي انعكس على السلوك والتعامل في كافة المجالات، وأضحى العنوان الأبرز لكثير من العلاقات.

وقد عمّق هذا التدني: الفشلُ الكبير الذي يلازم مشاريع التربية والتكوين، وهزال مناهج وبرامج التعليم، وتفاهة المضمون الإعلامي والثقافي، وجنوح الذوق الأدبي والفني –بشكل مفرط- نحو السفاسف والمجون ..

وأمام هذا الوضع؛ لا يستطيع الباحث أن يستبعد فرضية كون الفشل في الميدان الأخلاقي؛ سببا رئيسا في فشل مشاريع التنمية في الميدان الاقتصادي أو السياسي أو الاجتماعي، أو الميادين الفرعية؛ كالتنمية الصناعيّة، أو التنمية الزراعية .. إلـخ.

إن التنمية في تلك المجالات قد تبقى محكومة بالفشل؛ ما لم تنجح التنمية في مجال الأخلاق ..

بل إن الفشل الأخلاقي يسبب الفشل في مجال الدين نفسه؛ فقد وصف النبيُ صلى الله عليه وسلم الأخلاق السيئة بالحالقة؛ أي: تحلق الدين وتمحو آثاره الإصلاحية:

عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصدقة والصلاة»؟ قلنا: بلى.

قال: «إصلاح ذات البين؛ وفساد ذات البين هي الحالقة». رواه أبو داود والترمذي وقال: “هذا حديث صحيح”.

وعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “والذي نفسي بيده؛ لا تدخلوا الجنة حتى تسلموا، ولا تسلموا حتى تحابوا، وأفشوا السلام تحابوا، وإياكم والبغضة؛ فإنها هي الحالقة، لا أقول لكم: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين“. رواه البخاري في الأدب المفرد.

ولقد تنبأ النبي صلى الله عليه وسلم بأن المجتمعات الإسلامية سيتفشى فيها “داء الحالقة”:

عن الزبير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دب إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء؛ هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر؛ ولكن تحلق الدين» . رواه أحمد والترمذي.

إن “داء الحالقة” يفرغ الوعاء الديني من حمولته الإصلاحية والتهذيبية، ويشوش على الصورة الجميلة للدين الحنيف؛ ويظهرها للبعض قبيحة منفرة؛ وهو ما يؤكد الحاجة إلى تنمية أخلاقية تسهم في علاج ذلك الداء وشفاء الإنسان المتدين من أعراضه الوخيمة، وترتقي به في معراج “مكارم الأخلاق” ..

منصة إحياء:

من هنا أسّس منتدى إحياء للتنمية الأخلاقية والفكرية: منصة إحياء للتنمية الأخلاقية؛ بهدف الإسهام في توفير مادة علمية وفكرية للباحثين والتربويين وعموم القراء؛ تساعدهم على توسيع ثقافتهم وشحذ فكرهم في المسألة الأخلاقية؛ بما يعزز العملية التربوية ويحقق تنمية أخلاقية تساعد على نجاح مشاريع النهضة والإصلاح.

ونعتقد في المنتدى بأن المدخل الأساسي نحو علاج فعّال لداء “التدني الأخلاقي”؛ هو: تزكية النفس وتهذيب الأخلاق في إطار المنهاج الإسلامي المؤسَّسِ على هدايات الوحي الإلهي، والمنفتحِ على مخرجات الفكر الإنساني ..

لهذا السبب جعلنا دستورنا الأسمى في المنتدى؛ قول ربنا تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24]

إيمانا منا بأن “حقيقة الإحياء” تتأسس على ركيزة: “الاستجابة لدعوة الوحي الإلهي”؛ وفي مقدمتها: الدعوة لتزكية النفس ب”تهذيب الأخلاق”، وتنميتها ب”مكارم الأخلاق”، وما يستلزمه ذلك من إجهاد الفكر لاستنباط “فلسفة الأخلاق”.

ومن هنا: تبدأ النهضة.

أرجو أن تُقَدّم هذه المنصة مادةً ثقافية نافعة ومتميزة للقراء الكرام، وأن تُجلّي أقلامُها وأطروحاتها جوانب هامة من إسهام التراث الإسلامي وفكر العلماء المسلمين في بناء منظومة معرفية متكاملة لفلسفة الأخلاق، كما أرجو أن تقدم مقترحات حلول واقعية للمشكلة الأخلاقية، وأفكارا فعالة لدعم التنمية الأخلاقية بصفتها مكونا أساسيا في الحركة الإصلاحية والمشاريع النهضوية ..

ولا يفوتني في الختام؛ أن أتوجه بجزيل الشكر وموفور التقدير؛ إلى فريق عمل المنصة المثابر، وكُتّابها الكرام، وكل من أسهم في إعدادها وإخراجها في هذه الحُلّةِ الجميلة ..

 

حمّاد القبّاج

المدير المؤسس

لمنتدى إحياء للتنمية الأخلاقية والفكرية

ihyae1440@gmail.com

 

[1]  في كتاب: “الأخلاق الإسلامية وأسسها” (ج 1 / ص 10).

[2]  في كتاب: “تهذيب الأخلاق” (ص 265).

[3]  قوله عليه السلام: “مكارم الأخلاق” يشير إلى القول والتنظير، وقوله: “محاسن الأفعال” يشير إلى الفعل والسلوك.

[4]  علم الأخلاق (ص 12-13).

[5]  ألّف يحيى بن عدي التكريتي كتيبا صغيرا سماه: “تهذيب الأخلاق”؛ وهو فيلسوف ومنطقي ومترجم نصراني؛ ولد عام (280هـ، 894م بتكريت، وتوفي عام 364هـ، 965م ببغداد)، وهو تلميذ الفارابي وأستاذ مسكويه.

وكان أحد أبرز المترجمين للتراث الفلسفي، وخاصة عن السريانية إلى العربية.

[6]  البيداغوجية: علم التربية؛ يُعنى بتنمية ملكات الفرد وتكوين شخصيته وتقويم سلوكه؛ بحيث يصير عضوا نافعا في مجتمعه.

[7]  تهذيب الأخلاق ص (283).

[8]  كتاب: أحاديث في الفلسفة والتاريخ والاجتماع لعلال الفاسي (ص 52 / 53).

[9]  للتوسع: راجع كتاب: “مناهج البحث في العلوم الإنسانية”؛ للدكتور مصطفى حلمي.

[10]  علم الأخلاق إلى نيقوماخوس؛ لأرسطو (ص 189). (الترجمة العربية).

[11]  الرواقية: مذهب فلسفي، ويعد واحدا من الفلسفات المستجدة في الحضارة الهلنستية، أنشأه الفيلسوف اليوناني زينون السيشومي الذي يقول: “إن العالم كل عضوي، تتخلله قوة الله الفاعلة، وإن رأس الحكمة معرفة هذا الكل، مع التأكيد أن الإنسان لا يستطيع أن يلتمس هذه المعرفة إلا إذا كبح جماح عواطفه، وتحرر من الانفعال”.

[12]  د. بارودي: المشكلة الأخلاقية والفكر (ص 3)، ترجمة د. محمد غلاب ومراجعة د. إبراهيم بيومي مدكور – ط. الأنجلو 1958م.

للتواصل معنا:

13 + 6 =