من مساوئ التأريخ للفلسفة بالأفكار
بقلم : محمد زاوي
هناك من يقرأ التاريخ بأفكاره، ونفس الشيء يفعله آخرون إذا هموا بقراءة تاريخ الفلسفة.
يبني كل أحد مملكته في عقله، ثم يقرأ من خلالها كل فكرة أو نظرية.
إن هذه القراءة المثالية لتاريخ الفلسفة هي التي تسقط أصحابها في الانتقاء العشوائي حسب أهوائهم ورغباتهم، وتجعلهم يرددون الكلام الغامض الذي يصعب فهمه، هذا إن لم يكن فهمه مستحيلا.
وعوض أن تكون الفلسفة استجابة لحاجة أو تحدّ ما، تصبح أصلا لكل شيء.
وعوض أن ينظر بعض الناظرين إلى الفكر كانعكاس لبناه التحتية (دون أن ينفي ذلك انعكاسه بالتأثير على بناه التحتية)، ينظرون إليه كدافع أصلي وكمحرك أول.
فأين كان الفكر قبل الحاجة؟
هذا هو السؤال الذي وجهه إنجلز لهيجل بصراحة. فبينما كان الأول يبحث عن الحاجة التي دفعت الإنسان إلى التفكير والتساؤل، كان الثاني يعيش بحبوحته في مملكة العقل المثالية.
ليس كل ما يقوله هيجل مرفوضا ولا قيمة له، ولكن المرفوض من فلسفته هو مثاليته المتعالية وتجريبيته الفجة[1].
أما منطقه الجدلي فهو زبدة إنتاجه، وهو أكثر قوة إذا نزل من العقل إلى الأرض.
المعركة إذن حامية الوطيس بين منهجين في التأريخ للفلسفات والأفكار: منهج يقرأ تاريخ الفلسفة بالرغبات والأفكار، ومنهج يقرأه بمنطقه (=تاريخ الفلسفة) الداخلي وقانون تطوره.
1-الغموض في التأريخ للفلسفة (كارل ياسبرز نموذجا):
كثيرا ما نقرأ نصوصا فلسفية أو أدبية لا نفهمها، فنعود باللوم على أنفسنا. فربما يكون ضعف مستوانا المعرفي هو سبب عجزنا عن الفهم، وربما يكون كاتب تلك النصوص من ذوي العقول الجبارة التي لا تُدْرَك مناهجها وحصائلها.
ليست تلك هي الحقيقة دائما، ولكن الغموض في التعبير كثيرا ما يعبر عن غموض آخر في التفكير والفهم.
هكذا حدث لي مع إيمانويل كانت أول مرة، فبمجرد أن فتحت “نقد العقل المحض” حتى أدهِشت وعزفت عن “كانت” إلى أن قرأت مقالة عبد السلام الموذن “ثورة ماركس في نظرية المعرفة”.
كثيرون هم الذين حدثونا عن “كانت” وفكره، ولكنهم لم يكونوا يزيدونه إلا غموضا فوق غموضه.
إنهم لم يفهموا “كانت”، وبالتالي كان كلامهم حوله غامضا.
الغموض إذن انعكاس لمن لم يفهم حقيقة ما يتحدث عنه، وهو في كل حالاته يخدم مصلحة من يريد للبس أن يستمر.
لقد كان “كانت” غامضا، وذلك بسبب عدم توصله لفكرة “وحدة التناقض”. أما تلامذته وقراؤه الذين كتبوا عنه فقد كانوا غامضين في إيضاح فكره ومقولاته، وذلك لأنهم لم يفهموا “كانت” ذاته[2].
يذكرنا كارل ياسبرز بأن لكل فلسفة واقعا وسياقا خاصين، ولكنه كثيرا ما يحدثنا عن منهجه في التأريخ للفلسفة بغموض ومثالية لا يمكن تقبلهما.
فنجده يقول مثلا: “ونحن نتمنى أيضا أن تكون لدينا القدرة الكافية على التحليق فوق قرون من التطور المتصل بحيث تتقلص في لحظات تبدو في مجموعها جهدا واحدا نشارك في كفاحه من أجل الوضوح والواقع والأبدية”[3].
كما نجده يقول: “ينبغي التفرقة بين العالمية المشتركة بين الجميع، والكل التاريخي الواحد الذي يشارك فيه كل منا. فالمعرفة الدقيقة الملزمة، وبعض القوانين والمطالب الأخلاقية، والقدرة على التفاهم المتبادل –أيا كان نوعه وكانت حدوده-كلها أمور عالمية. أما صور الإيمان وأساليبه، وفعل العلو، ورؤية ماهية الموجودات، فلا تتحقق إلا في الكل التاريخي أو من خلال التاريخ في كليته”[4].
ويقول أيضا: “من أجل هذا كله تتعذر كتابة تاريخ الفلسفة من وجهة نظر محددة، فليست الفلسفة عبر تاريخها كالوجه الإنساني الذي يمكننا رؤيته ووصف ملامحه بنظرة واحدة: من حيث مراحل تطوره الموضوعي، وظروفه وشروطه الاجتماعية والنفسية والبشرية… إلخ. (فكل هذه مناهج بحث مفيدة تتصل بوقائع وظواهر وجوانب جزئية مختلفة، دون أن تمس ماهية الفلسفة نفسها). وليس من سبيل إلى الفلسفة إلا بالتفلسف نفسه ومن داخله: قد يستطيع الإنسان أن ينفذ إليه، ولكنه لا يستطيع أن يحيط به إحاطة شاملة”[5].
أراد كارل ياسبرز أن يقنعنا بأربع “خصائص أساسية لتصور تاريخ الفلسفة”، وهي أن يكون تاريخ الفلسفة عالميا، عيانيا (حدسيا)، بسيطا، وفلسفةً. (انظر كتابه المذكور في الهوامش)
يظهر من نص كارل ياسبرز أنه يتحدث عن تاريخ لا يعرف منطقه الحقيقي ومحركاته الأصلية، فما وجدنا عنده إلا مثالية لا علاقة لها بالسياق الذي نشأت فيه كل فلسفة على حدة. إنها نفسها المثالية التي تستحيل غموضا لا يدرك، غموضا لا يدرك لأنه غير ملموس بكل بساطة.
يراهن ياسبرز على فلسفته العالمية لتوحد الجميع أفرادا وجماعات، وكأن توحيد العالمين مهمة فلسفة أو فكرة.
يتكلم عنا جميعا، وكأن الوضوح هدف للظالم والمظلوم معا.
يركز على تأثير الفلسفة، دون أن يقف مليا عند بناها التحتية.
غموض لا يطاق يخلفه ياسبرز في نصوصه، الشيء الذي يجعله مطالبا بالإجابة عن الأسئلة التالية لرفع اللبس الواقع على قرائه:
كيف نحلق فوق تاريخ تطور الفلسفة؟
وكيف يسعى الجميع إلى الوضوح والواقع والأبدية؟
وما الفرق بين العالمية المشتركة والكل التاريخي الواحد؟ (وهنا نريد تمييزا واضحا لا يجعلنا نفقد عقولنا في التعابير والأشعار)
وكيف ينفذ الإنسان إلى التفلسف دون أن يحيط به؟
وما علاقة كل هذا بالتأريخ للفلسفة؟
أسئلة كثيرة تجعلنا نحكم على نص كارل ياسبرز بالغموض، وتجعلنا نقول له ما قالته روزا لوكسمبورغ لأولئك الذين أرادوا أن يعرفوا “علم الاقتصاد السياسي” دون أن يتصوروه بوضوح:
“أي شخص يفكر بوضوح، ويسيطر تماما على أقواله، يمكنه أن يعبر عن نفسه بوضوح وبشكل مفهوم، أما الشخص الذي يعبر عن نفسه بشكل غامض ومدع، فإنه مجرد شخص غير قادر على أن يرى بوضوح، بحيث يكون لديه ألف سبب وسبب يدفعه لتجنب الوضوح”. (ص 12 بتصرف)[6]
إن ما وقع فيه كارل ياسبرز هو عينه ما يقع فيه فلاسفة كثيرون بسبب فرارهم من الواقع إلى الشعور، فيصبح كل ما هو عيانيّ حدسيا بالنسبة إليهم (حدسيا، أي “كمحتويات شعورية” بتعبير إسماعيل المهدوي)[7].
هكذا يعود ياسبرز إلى شعوره أكثر من عودته إلى واقع الفلسفة، وهكذا يضيع تاريخ الفلسفة بين الألفاظ ورغبات بعض مؤرخيها.
2-المثالية في التأريخ للفلسفة (محمد إقبال نموذجا):
في كتابه “تطور الفكر الفلسفي في إيران”، لا يتجاوز محمد إقبال المقارنة بين المذاهب والأفكار إلى البحث عن جذورها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
نعم، يشير إقبال بين الفينة والأخرى إلى بعض الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تعد سياقا لبعض الأفكار والمذاهب (الصراع بين البدويين والمزارعين زمن “زرادشت”، الفتح السياسي الإسلامي لبلاد فارس ودوره في إغناء الفلسفة الإيرانية بالتوحيد، تولي العباسيين للحكم ودوره في انتشار النشاط الفكري). ولكن ذلك لا يأتي إلا بصفة عرضية ينسيها استغراق إقبال في الاختلافات السائدة بين الآراء.
إن منهج إقبال هذا هو ما جعله يسقط في الأخطاء التالية:
– الحديث عن الاختلافات بين الأفكار دون تمييز بين معطى فكري جوهري وآخر عرضي.
– ذكر الخلافات بين المدارس الفكرية والفلسفية على أساس أنها خلافات فكرية محضة.
– المماثلة بين ما انتهت إليه بعض الفلسفات الغربية وبين ما انتهت إليه أخرى شرقية.
إن ما يجب على الباحث معرفته هو الآتي:
– المعطيات الفكرية ليست شيئا واحدا. فمنها معطيات جوهرية تعبر عن حاجة مجتمع أو جماعة، ومنها معطيات عرضية تعبر عن حاجة الفيلسوف إلى الفرح بنفسه والانتشاء بواسطة إشغال التركيب والتحليل في أفكار سابقيه أو معاصريه. لا يستطيع المثالي أن يميز بين الجوهري والعرضي في المعطيات، وذلك لأنه ببساطة غير قادر على تحديد الجوهر في الواقع (التناقض الرئيس في الواقع، بتعبير ماو تسي تونغ).
– التناقضات الرئيسية على مستوى البنى التحتية (علاقات الإنتاج) هي الأصل، وما الأفكار والإيديولوجيات والفلسفات والتفاسير إلا انعكاس لها. وبالتالي، فالخلاف لا يكون فكريا محضا، وإنما هو انعكاس لتناقضات اجتماعية على المستوى الجماعي أو انعكاس لتناقضات نفسية بين المفكرين الأعيان.
– تاريخ الغرب ليس هو تاريخ الشرق، والماضي ليس هو الحاضر، وتناقض أمس ليس هو تناقض اليوم. وبالتالي، فكل فكرتين تنتميان إلى سياقين تاريخيين مختلفين، لا يمكن المماثلة بينهما إلا من باب إغفال الشروط التاريخية التي حكمت كل فكرة منهما.
يقول محمد إقبال: “وفي التاريخ الأوروبي مثلا نجد “فيختة” في القرن الثامن عشر الميلادي يبدأ بحثه المتشكك عن حقيقة المادة، ثم يجد ملجأه الأخير في وحدة الوجود، و”شلايرماخر” يتشبث بالإيمان كمضاد للعقل و”جاكوبي” يوجه الأنظار إلى مصدر للمعرفة أرقى من العقل، بينما نجد “أوجست كونت” يعرض تماما عن كافة البحوث الميتافيزيقية ويقصر المعرفة على تلك التي تكتسب عن طريق الإدراك الحسي. أما “دي ماستر” و”شليجل” فإنهما خلافا لهؤلاء جميعا يجدان الملجأ الأخير في القبول بسلطة أو حجية البابا المعصوم من كل خطأ. ودعاة مذهب الإمامة الإسماعيليون كانوا يفكرون بالأسلوب نفسه الذي فكر به “دي ماستر” و”شليجل”، غير أنه مما يثير فضول الباحث أن الإسماعيلية الذين اتخذوا سلطة الإمام المعصوم مذهبا وأساسا لمؤسسة الدعوة سمحوا لكافة ألوان الفكر أن تمارس نشاطها الحر”[8].
إن محمد إقبال يجري هنا مقارنات سطحية، وهي في الغالب مقارنات لا تلتفت إلى الأسباب الحقيقية للاختلاف بين الأفكار والمواقف. ولذلك لا نجده يهتم بظروف كل أولئك الذين ذكرهم: فيختة، شلايرماخر، جاكوبي، أوجست كونت، دي ماستر، شليجل…
نفس الطريقة يعتمدها إقبال وهو يبين الاختلافات الظاهرة بين أفكار فلاسفة فارس قبل الإسلام، وكذا بين أفكار فلاسفتها بعد الفتح الإسلامي.
إنه لا يميز بذلك بين الجوهري والعرضي في الأفكار الفلسفية، ولا يلتفت إلى البنى التحتية للأفكار إلا بشكل باهت، ولا يميز بين سياق تاريخي غربي وآخر شرقي.
قد يبدو هذا الحكم قاسيا في حق محمد إقبال، ولكن طريقته في عرض أفكار الفلاسفة تؤكد ذات الحكم.
[1] عبد الله العروي، مفهوم الدولة، المركز الثقافي العربي، الطبعة السابعة، 2001، ص 37.
[2] عبد السلام الموذن، الطبقة العاملة الحديثة والنظرية الماركسية، عيون المقالات، الطبعة الأولى، 1990، ص 114.
[3] كارل ياسبرز، تاريخ الفلسفة بنظرة عالمية، دار التنوير، 2007، ص 66. (ترجمة عبد الغفار مكاوي).
[4] نفسه، ص 72.
[5] نفسه، ص 83.
[6] روزا لوكسمبورغ، ما هو الاقتصاد السياسي؟ دار ابن خلدون، الطبعة الأولى، 1975، ص 12. (ترجمة إبراهيم العريس)
[7] من ملاحظات إسماعيل المهدوي على الكتاب الذي ترجمه لجورج بوليتزير، المادية والمثالية، منشورات الملتقى، الطبعة الثانية، 2006، ص 183.
[8] محمد إقبال، تطور الفكر الفلسفي في إيران (إسهام في تاريخ الفلسفة الإسلامية)، الدار الفنية، الطبعة الأولى، 1989، ص 54. (ترجمة: حسن محمد الشافعي، ومحمد السعيد جمال الدين).