الأخلاق القرآنية في متن العلاّمة دراز وسياقه التاريخي
الجزء الثاني: من فكر العلامة دراز
أولا: منهج العلامة دراز في دراسة الظاهرة الدينية
1-تساؤلات أولية
سيتساءل كثيرون: “تهتم دراستنا بالأخلاق القرآنية في متن محمد عبد الله دراز، فما بالنا نفتتح هذه الدراسة بالحديث عن تفسيره للظاهرة الدينية؟”.
ونحن نجيب:
– لم يتحدث العلامة دراز عن “تصوره للأخلاق” في كتابه “دستور الأخلاق في القرآن” فحسب، ولكننا نجده يتحدث عنه في بعض كتبه الأخرى أيضا، ومنها كتابه–موضوع دراستنا هذه-“الدين: بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان”.
– ليس هناك انفصال مطلق بين مبحث الدين ومبحث الأخلاق. إنهما يتمايزان فيما بينهما، ولكن الترابط بينهما حاصل أيضا، وهذا ما أكده العلامة دراز نفسه في كتابه “الدين”.
– لا بد من معرفة “نظريات” العلامة دراز جميعها (الدين، الظاهرة القرآنية، الربا، الديانات السماوية من غير الإسلام، العبادات، البدعة والسنة… إلخ)، بهدف معرفة علاقتها ب”نظريته” في الأخلاق، وكذا للحكم على مدى انسجامها وترابطها في إطار وحدة نظرية ومنهجية.
– المرجعية المعتمدة لدى العلامة دراز، في تحديد “نظريته” الأخلاقية، هي القرآن باعتباره ظاهرة من الظواهر الدينية المتعددة. فلا بد إذن، من معرفة تفسير العلامة دراز لهذه الطواهر، قبل الخوض في “نظريته” الأخلاقية.
… إلخ.
وحدهم اللاجدليونهم الذين يفصلون بين الظواهر، فلا يتصورونها كما يجب، أجزاء وكلّا. ولذلك، فقد كان لزاما علينا، تفاديا للسقوط في خطأ هؤلاء، أن نناقش الظاهرة الأخلاقية في علاقتها بباقي الظواهر في متن العلامة دراز. فذلك هو السبيل الوحيد لمعرفة المنهج المعتمد لديه، وكذا لمعرفة مدى التزامه ذات المنهج في تفسيره لكل الظواهر التي يدرسها. وإذا كان تحديد علاقة الظاهرة الأأخلاقية –في متن العلامة دراز-بباقي الظواهر ذا أهمية، فإن تحديد علاقتها بالظاهرة الدينية أهم. وذلك لأن محمد عبد الله دراز يستمد نظريته الأخلاقية من القرآن، وهذا هو أساس الظاهرة الدينية الإسلامية.
لا بد إذن من تحديد تصور العلامة دراز الظاهرة الدينية، ولا بد من التمهيد لذلك بالأسئلة التالية:
كيف نشأ الدين في تصور محمد عبد الله دراز؟
ومن أين يستمد عراقته وخلوده في حياة الإنسان على الأرض؟
وما هو الدور التاريخي الذي لعبه الإسلام في تاريخ الأديان وتطور المجتمعات؟
وما هو وجه العلاقة بين الدين والأخلاق في تصور عبد الله دراز؟
… إلخ.
أسئلة وغيرها، سنحاول الإجابة عنها في هذا المقال.
2-الإسلام في زمن العالَم
لقد كان الإسلام–في نظر العلامة دراز-علامة فارقة في تاريخ الأديان والشعوب، وذلك لأنه:
– استفاد من تراث أوروبا الفلسفي أكثر مما استفادت هي منه، فأفادها مما لها بعدما عجزت عن استثمار الفلسفة اليونانية (وخاصة الأرسطية منها) والتراث الروماني المسيحي لصالحها.
– دشّن عهدا جديدا من تدوين تاريخ الأديان ووصفها، انطلاقا من استقراء مصادرها الأصلية، وليس انطلاقا من الأهواء والأوهام الرائجة حولها.[1]
هل هذا صحيح؟ ألم يتحيز العلامة دراز هنا لدينه على حساب باقي الأديان؟ ألم يستفد الإسلام نفسه من باقي الحضارات كما استفادت منه أوروبا؟ أليس في نسبة كتب، من قبيل “الملل والنحل” للشهرستاني، إلى علم الأديان تجنّ على هذا العلم؟
****
لم يستفد الرومان من فلسفة الإغريق، من أهم ما فيها بالضبط (فلسفة أرسطو/ أبيقور/ السفسطائيين)، فاكتفوا بالجانب العملي من الفلسفة الرواقية. ولم تكن هذه الفلسفة لتجد لها صدى في أوروبا لولا مجهودات ابن رشد في ترجمة وتأويل أرسطو، ولولا الفتوحات الإسلامية التي حملت معها إلى الغرب: “علوم الإسلام وآدابه وتشريعاته، علوم اليونان وفلسفتهم، ما اكتشفه المسلمون في رحلاتهم من علوم الشرق وآدابه، ما أفادوه من تجارب جديدة… إلخ”.[2]
يقول العلامة دراز: “ولكن الأمانة التي عجزت عن أدائها الحضارتان اليونانية والرومانية في جميع عصورهما نهضت بها حضارة الإسلام في لغته العربية، واستقلت بحملها قرونا متوالية، من القرن الثامن إلى القرن الثالثعشر أو يزيد”.[3]
ليس هناك أي تحيز للعلامة دراز في هذه القضية الأولى، بل إنه يعترف باستفادة المسلمين من غيرهم كما يقول باستفادة الغرب الأوروبي من تراثهم وتجاربهم وخبراتهم. وهذه هي الحقيقة التي يخفيها كثير من الدارسين للفلسفة والتاريخ الغربيين، ومنهم ول ديورانت الذي أهمل فلسفة ابن رشد في كتابه “قصة الفلسفة”، بالرغم من الدور الذي لعبته هذه الفلسفة في تطوير الفكر الغربي بفلسفة أرسطو وفقه الإسلام. وعلى العكس من كل المتحاملين على فقهاء الإسلام، فقد أنصفهم مفكرون لا يُحسبون على المدرسة “الإسلامية”، من أمثال عبد السلام الموذن في كتابه “الطبقة العاملة الحديثة والنظرية الماركسية”، ومحمد عابد الجابري في كتابه “المثقفون في الحضارة العربية”. وبهذا، فإن العلامة دراز لا يقول إلا بما يشهد به كل منصف يحكم على الفلسفات والإيديولوجيات في سياقها التاريخي.
****
وفي القضية الثانية، يظهر تحيز العلامة دراز. ولا عيب في التحيز، شريطة أن يكون تحيزا موضوعيا. فهل كان تحيز العلامة دراز موضوعيا أم وجدانيا؟ فلنعرض إذن تصورَ محمد عبد الله دراز لعلوم الأديان، حتى نتمكن من الإجابة على هذا السؤال.
يمكن تلخيص تصور العلامة دراز لعلوم الأديان في العناصر التالية:
– ما قبل نشأة هذه العلوم، كان: التأثر بالأهواء والخيالات، محاولات التوفيق بين مختلف الأديان كما حدث في عهد الفراعنة، لا أدرية تلاميذ أفلاطون من غير أرسطو، التطرف للرواقية أو الأبيقورية كما حدث بعد وفاة أرسطو، الانحلال وعدم الركون إلى أي دين كما حدث في فترات من عهد الرومان، اضطهاد الدعاة إلى الدين المسيحي من قبل أباطرة الرومان قبل قسطنطين، تحيز كل ذل عقيدة لعقيدته ضد العقائد الأخرى… إلخ. كل هذا لم يكن ليوفر الأجواء المناسبة لنشأة علوم الأديان.
– لا ينشأ علم الأديان إلا باستقلاله عن سائر العلوم والفنون بتدوينه ومناهجه، فلا تدل عليه هذه العلوم إلا وفق ما يؤكد نتائجه الداخلية. وكما أن لها (العلوم الأخرى) مناهج خاصة به، فكذلك يجب أن المناهج والتجارب الخاصة بعلوم الأديان. إن هذا الاستقلال الذي يميز علوم الأديان، هو ما تأسس على يد علماء الإسلام من أمثال أبي الحسن الأشعري وابن حزم الأندلسي والشهرستاني… وغيرهم.
– علوم الأديان هي العلوم التي تستمد أوصاف كل ديانة من مصادرها الموثوقة، وليس من أهواء وخيالات والشؤون اليومية للمعبرين عنها.
– لا تستقيم علوم الأديان إلا بتناول مادتها مجتمعة، وليس مشتتة كما فعل المتخصصون الغربيون في هذه العلوم. لا بد إذن من جمع ما بين الأديان من مبادئ عامة، بهدف التوصل إلى طبيعة الدين. وكل عمل غير هذا، كل عمل يغرق في التفاصيل والجزئيات دون جمع شتاتها، فهو عمل لا يبحث عن طبيعة الدين، وإنما عن شيء آخر.[4]
ليس ما يقوله المجرّب عن نفسه هو العلم، بل لا بد من تفسير تجربته تفسيرا علميا. فأن يكون علماء الإسلام هم الذين أطلقوا حركة تدوين علوم الأديان، أن يكونوا مساهمين في تأسيس تاريخ الأديان المقارن؛ فذلك شيء، وجعل ما دوّنه هؤلاء حاكما على غيرهم شيء آخر. وكما أن الدارس مطالب باعتبار التجربة الذاتية للمتدين أثناء دراسته، فهو أيضا مطالب بإخضاعها للدراسة السيكولوجية والفيزيولوجية والتاريخية والسوسيولوجية… إلخ، بغرض تفسيرها. والبحث عن القاسم المشترك بين الأديان لا يعفينا من البحث في تفاصيلها في النفس والمجتمع، فالتفاصيل جزء من الحقيقة. وهكذا نقول: إن التدين في العقل تصور، وفي الوجدان عقيدة، ولكنه في النفس والمجتمع والتاريخ ظاهرة يجب دراستها. وعليه، فما يعتبره العلامة دراز ابتعادا عن معرفة طبيعة الدين، هو عينه الاقتراب من ذلك.[5]
3-“التفسير الدرازي” للظاهرة الدينية: قراءة ومراجعة
بإمكاننا تلخيص تفسير العلامة دراز للظاهرة الدينية في الآتي:
– التعريف اللغوي للظاهرة الدينية:
كل المعاني اللغوية لكلمة “دين” تصب في معنى الخضوع والتعظيم، ولذلك يقول العلامة دراز:
“وجملة القول في هذه المعاني اللغوية أن كلمة الدين عند العرب تشير إلى علاقة بين طرفين يعظم أحدهما الآخر ويخضع له”.[6]
– تعريف الظاهرة الدينية في حقيقتها:
في حقيقته النفسية، الدين هو “الاعتقاد بوجود ذات –أو ذوات-غيبية، علوية، لها شعور واختيار، ولها تصرف وتدبير للشؤون التي تعني الإنسان، اعتقاد من شأنه أن يبعث على مناجاة تلك الذات السامية في رغبة ورهبة، وفي خضوع وتمجيد”.[7]
وفي حقيقته الخارجية، هو “جملة النواميس النظرية التي تحدد صفات تلك القوة الإلهية، وجملة القواعد العملية التي ترسم طريقة عبادتها”.[8]
– تعريف الظاهرة الدينية في علاقتها بالفلسفة وسائر العلوم
في تمييز الدين عن الفلسفة، يقول العلامة دراز: “غاية الفلسفة نظرية حتى في قسمها العملي، وغاية الدين عملية حتى في جانبه النظري”، ويقول: “فأقصى مطالب الفلسفة أن تعرفنا الحق والخير ما هما؟ وأين هما؟ ولا يعنيها بعد ذلك موقفنا من الحق الذي تعرفه، والخير الذي تحدده. أما الدين فيعرفنا أن الحق لا لنعرفه فحسب، بل لنؤمن به ونحبه ونمجده، ويعرفنا الواجب لنؤديه ونوفيه ونكمل نفوسنا حقيقة”.[9]
وفي علاقة الدين بسائر العلوم، فإن العلامة دراز يؤكد: أنه ليس بالضرورة أن يباشر رجل العلم التجربة الدينية (وليس بالضرورة أن يحدث العكس أيضا)، وأن تصادق نتائج العلم والدين ضرورة وإلا فإن أحدهما هو الباطل والضلال.[10]
– الدين في تاريخ الإنسان
الدين أصيل وعريق في حياة الإنسان، والتدين لا دليل على تأخره عن نشأة الإنسان، وليس هناك ما يدل على أن “فكرة التدين ستزول عن الأرض قبل أن يزول الإنسان”. هذا هو تصور العلامة دراز للدين في تاريخ الإنسان، وهذا ما تناوله بمزيد من التفصيل في كتابه.[11]
– الدين في النفس والمجتمع
في النفس: “فطرة، وتطلع، وشوق غريزي إلى الأزلي الأبدي، وطلب حثيث للكلي اللانهائي”. وفي هذا دلالة للإنسان: “على مطلوبه كدلالة الأثر على صانعه، وعلى أن فيه عنصرا نبيلا سماويا خُلِق للبقاء والخلود”.[12]
وفي المجتمع، فإن الدين “أكثر قوة تكفل احترام القانون في الأرض وتضمن تماسك المجتمع واستقرار نظامه والتئام أسباب الراحة والطمأنينة فيه”. وهو أكثر قدرة على التأثر في الحياة بالفكر والضمير، عكس ما يقول به كارل ماركس (وهذه في الحقيقة قراءة خاطئة للماركسية، وهي فهم للماركسية على أنها “اقتصادوية”).[13]
– الدين وآيات الألوهية
وهنا يؤكد العلامة دراز أنه لا ينبغي لمن سلك طريقا إلى الألوهية أنْ يستنكر على غيره بقية الطرق، فآيات الألوهية مبثوثة في كل شيء، في الآفاق والأنفس جميعها، كما أن الطرق إلى الألوهية متعددة (مشاهد الطبيعة، تجارب عالم الأرواح، العقل، القوانين الأخلاقية، التلقي عن طريق التعاليم الدينية… إلخ).[14]
هكذا إذن، تنشأ عقيدة الألوهية في نظر العلامة دراز. إنها تمثل جوهر تدين الإنسان، وخاصة إذا تمّ تسديدها وتوجيهها الاتجاه الصحيح نحو الله الواحد الذي تدل عليه الآفاق والأنفس.
****
هذا هو تفسير العلامة دراز للظاهرة الدينية، وهذا تعليقنا عليه:
– التعاريف اللغوية ليست إلا الظاهرة كما أحس بها العرب، فعبروا عنها بألسنتهم. وبقدر ما هي تفيد في معرفة تصورات العرب لأنفسهم وأفعالهم، فإنها غير كافية لتحديد ظاهرة ما علميا. وما ينطبق على كل الظواهر في هذا الباب، ينطبق على الدين أيضا.
– للدين حقيقته في النفس، وما صوّره العلامة دراز هو جزء من الحقيقة النفسية، أو لنقل هو الحقيقة النفسية السطحية.
أما ما يعتمل في الأعماق، فهو العجز الذي يدفع الإنسان إلى البحث عن المطلق. وهكذا، لا يبحث الإنسان عن العزاء إلا حيث كان الفقد أو التخوف منه، ولا يبحث عن الاطمئنان إلا حيث كان الاضطراب أو التخوف من الوقوع فيه، ولا يبحث عن الخلود إلا حيث كان الموت والعجز عن تقبله، ولا يبحث عن قوته في المعارك الصغرى والكبرى إلا حيث افتقر إلى معين يثبّته فيها ويقتل الخوف في نفسه إذا حانت واحتدمت… إلخ.
إن البحث عن المطلق لتجاوز العجز والقصور، هو عمق ما يحكي عنه العلامة دراز من فطرة ومضمون للاعتقاد.
– لم يدخِل العلامة دراز في حقيقة الدين الخارجية إلا ما يمَكّن من تحديد: صفات المعبود، وطريقة عبادته. وتحت كل هذا أعماق أخرى لم يلتفت إليها العلامة دراز كما يجب، بل إنه يخرجها مما تُعنى به علوم الأديان. كيف نشأت تلك الصفات في المجتمع البشري؟ وكيف تطورت وتطور نقاشها عبر التاريخ؟ وكيف انتقل الإنسان من عبادة “القوى السارية في الطبيعة” إلى عبادة “آلهة مشخصة”، إلى عبادة “الإله الواحد المتعالي الذي لا يشبهه أحد أو شيء”[15]؟ وكيف انتقل من عبادة آلهة متعددة إلى التفريد، إلى التوحيد؟ كيف أثر الدين في المجتمعات البشرية، وكيف تأثر بها؟ ما الفرق بين الدين والإيديولوجيات الدينية؟ لماذا يستمر الدين في حياة الإنسان بالرغم من تنبؤ كثيرين بنهايته؟… إلى غير ذلك من الأسئلة التي لا يتكبد العلامة دراز الإجابة عنها، بل إنه يعمل على استبعاد العلوم الكفيلة بتلك المهمة، من قبيل سيكولوجيا الأديان وأنثروبولوجيا الأديان وسوسيولوجيا الأديان واللسانيات والفيلولوجيا بمعناها القديم (دراسة النصوص القديمة والتراثية)… إلخ.
– “عراقة الدين في حياة الإنسان”فكرة مهمة للعلامة دراز، وتثبتها الدراسات المعاصرة. فبالدين كان الإنسان، وبالدين اتسعت دائرة النظافة وخرج الإنسان من مرحلة “الهمجية والغابوية”، فيه يتكاثف العقل واللغة والتطور الفيزيولوجي للإنسان، وهو معبّر مبكر عن “الآدمية”. والملاحظ هو أن العلامة دراز لا يميز بين “الدين” و”الإيديولوجيا” الدينية، ولذلك تراه يتكلم عن “الدين” في زمن “الإيديولوجيات الدينية”، دون اهتمام بالتحول الاجتماعي والتاريخي الذي أدى إلى الانتقال من الأول إلى الثانية، والذي هو ظهور الطبقات الاجتماعية وتناقضاتها، ومن ثم ظهور الدول باعتبارها الأجهزة السياسية لسيطرة طبقات على أخرى[16].
– الدين هو الشكل الجنيني للقانون كما هو مدون اليوم في المدونات القانونية والدساتير. وبالتالي، فليس الدين هو الدافع الأقوى إلى التزام القانون فحسب (كما يؤكد العلامة دراز)، بل إنه القانون الأول أيضا، كما أن الكتب الدينية (ومنها القرآن) تعَدّ خزانا خالدا للمثل الخالدة والأخلاق السامية والقيم الفاضلة والمطلوبة التي يرقى إليها القانون الوضعي.
4-الدين والأخلاق: اتصال وانفصال
تتحدد علاقة الدين بالأخلاق، في كتاب “الدين” للعلامة دراز، بالمحددات التالية:
– الدين ذو طابع إيماني تعرفي، والأخلاق ذات طابع عملي لا تعتمد الدين إلا كوسيلة، وليس كجزء متمم لحقيقتها.[17]
– الدين “مبعث قوي لتهذيب السلوك، وتصحيح المعاملة، وتطبيق قواعد العدل، ومقاومة الفوضى والفساد، والربط بين القلوب برباط المحبة والتراحم”.[18]
تارة، يميز دراز بين الفلسفة والدين، باعتبار الأولى نظرية حتى في جوانبها العملية، وباعتبار الثاني عمليا حتى في جوانبه النظرية. وتارة أخرى، يميز بين الأخلاق والدين، باعتبار الأولى ذات طابع عملي، وباعتبار الثاني ذا طابع إيماني تعرفي. وهذا من التناقضات المنطقة الناتجة عن رغبة في الفصل بين المترابط، حيث لا يستقيم ذلك. فالأخلاق ليس خارجة عن حقيقة الدين، بل إن الدين ما كان إلا لتكون، إذ هو يحددها ويدعو إليها ويدل عليها ويرتب الجزاءاتالأخروية والدنيوية على مخالتها. إن عقيدة التوحيد، باعتبارها من الدين، تكتنز كمّا لا يستهان به من الأخلاق وضوابط الأعمال. وبالتالي، فإخراج هذه من حقيقتها أمر لا يستقيم.
الملاحظ منذ بداية دراستنا هذه، هو أن تصور العلامة دراز للأخلاق يتطلب المزيد من التأمل ومحاولة الفهم. وذلك لأنه يميزها عن الدين تارة، ويؤسس لها انطلاقا منه تارة أخرى. وذلك ما نأمل أن نجد له مسوغا للاستيعاب في بقية هذه الدراسة، وإلا فالترابط والتداخل بين الدين والأخلاق، وتحول هذا الكلّ عبر التاريخ، هو ما نراه عين حقيقة الأخلاق في علاقتها بدين الإنسان وتدينه.
1-محمد عبد الله دراز، الدين: بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان، دار القلم، ص 19-22.
5-في محاضرة له عن “سيرة الرسول العظيم”، قال عبد الصمد بلكبير بأننا نعرف عن الدين اليوم أكثر مما كان يعرفه سابقونا. وذلك لأنه كلما تقدم العلم، كلما تقدمت معرفتنا بالدين.
15-انظر “دين الإنسان”، فراس سواح.
16-هذا ما يؤكد عبد الصمد بلكبير، وهو يوافق في ذلك فراس سواح في كتابه “دين الإنسان”.