متى نؤمن بالعربية؟
بقلم: الفقيه الرحالي الفاروق
مقالة نشرت سنة 1962 بجريدة الميثاق؛ العدد 12
منذ حل عهد الاستقلال، والناس يعقدون الآمال على المكلفين بتوجيه السياسة، وتدبير أمر السيادة، ويترقبون منهم أن يوثقوا عهد العروبة بأبنائها، ويوسعوا معاقل الثقافة الأولى في بلادها، مع إضافة ما يقيم ميزان المعرفة، ويرفع مستوى الدولة، مما يتقاضاه عصر النهضة واليقظة، وينتظرون كذلك أن تشد العزائم إلى إنارة القلوب بتربية الشريعة، وذلك هو قوام الحياة الاجتماعية، ودعامة الإصلاح والإنعاش، وأداة الاستقرار والازدهار، وحياة الضمائر، وقوة البصائر.
وإنه لشيء طبيعي في حياة الأمم المتحررة من سجن الاستعمار، أن تستشرف منافسة الشعوب المتقدمة، وتنصرف لغاياتها وأهدافها، بعد أن تحتفظ بمقومات الوجود الذاتي، وترتبط بأسباب المجد الماضي، وتستشعر شعار الوطنية والقومية.
ولكنه قد ترأى في الأفق ما يشير إلى المخاوف، وما يثير الشكوك في النفوس؛ فبدلا من أن نسرع في رد مكانة اللغة الضائعة بماكرة الاستعمار ومضايقته، ونرفع راية الإسلام التي وضعها الاستعمار اللئيم، وعوضا من أن نحول قوانين التعليم، ولغة الدراسة عما كانت عليه من الجور والشطط، ونتحرى في البرامج والمناهج وضعية البلاد، وحقوق التاريخ، ضربنا عن ذلك كله صفحا، وتتبعنا خطوات من كنا نلعنه بالأمس، ونجود في دفعه بالنفس، وأصبح المؤتمنون على حياة البلاد يتيهون باللغة المستعارة، وينافسون في تعليمها، ويجتهدون في تركيزها، متصورين أن مواصلة العمل بلغة آبائهم وأجدادهم، ولغة أمجادهم وأبطالهم، ولغة عقائدهم وتقاليدهم شيء عسير، ومتوهمين أن التعريب لا يتم ولا يتيسر إلا بعد مضي عدة أجيال.
ها هو التعليم الأصلي هو من صميم وجود الأمة العربية، والذي يتشخص فيه مجدها وفخارها، أخذت صورته الحقيقية تنمحي وتختفي عن الأبصار، تبعا لحكم المنطق الجديد، وللوضع الغريب، فينقص حينا بعد حين من معانيه، ومن أطرافه، ويصاب يوما بعد يوم بالشلل في أعضائه، ولم تعد برامجه ومناهجه قادرة على التقوية، ولا على التسوية.
وها هم أصحاب الكلمة المرفوعة يغلفون التعليم من جديد بغلاف أجنبي، ويوطدون أمر التعجيم في مدرسة المغرب العربي، ويجعلونه أمرا واقعا لا خلاص منه، ويجلبون من الخارج (طابور) أخر يعززون به ما عندهم من طوابير المعلمين والأساتذة الفرنسيين الذي ينعمون بين البؤساء في رخاء العيش، ويقهرون العربية بين أهلها على الرغم من ضعف إطارها، وضيق صدرها.
ولعل ذلك يكون تحديا للمشاعر العربية، وإيغالا في تشكيل القضية، واعترافا في تعسير أمرها، ولا جرم أن ذلك سيبلغ بالخطر منتهاه، وسيكشف عن الدساسين ولو تستروا خلف المصلحة، ووراء الضرورة، فإن الأصل الأصيل هو أن ذلك الشعب عربي صميم، لا يرضى بعروبة لسانه بدلا، ولا يصبر على هذه الطامة طويلا، وأن طريق التعريب واضح وصريح لمن آمن بالجد واعتصم بالحق.
على أن هذا السير المنحرف، والإجراء المنافي لرغبة الشعب، خلاف ما توحي به شخصية الاستقلال اللامعة، وخلاف ما تسمعه أمة العروبة من الأقوال الصاخبة.
فأما أن نؤمن بلغة الاستقلال، وبعقيدته وتاريخه، وأما أن نفقد التوازن في أصول الحياة، ونتفكك تفككا لا رجاء بعده، فتجتاحنا الفوضى الخلقية والمذهبية، وتغشانا موجة التعسف والإلحاد والعقوق.
والمغرب وإن كان في حاجة إلى أطر تقنية ومهنية، فهو أيضا في حاجة إلى أن تكون هذه الأطر بلغته الوطنية، ليهضمها الشعب ويمتصها امتصاصا، ولو يكون ذلك على سبيل التدريج الغائي، وفي حاجة أيضا إلى أطر دينية وثقافية، للنهوض بالأفكار والأخلاق الإسلامية.
منذ فاتحة ذلك العهد الباسم الطيب والناس يطرقون هذا الموضوع على اختلاف عبارتهم وأساليبهم وأهدافهم، ويتحزنون ويتوجعون، ويشرحون وينصحون، ويضعون الخطوط الإيجابية، باعتبار أن التعريب ركن من أركان الاستقلال العربي، وفصل من فصوله الذاتية، وباعتبار أن تعجيم الأطفال أثر من آثار الاستعمار، ورواسبه السيئة، ومصلحة خالصة من جملة ما خدم من مصالحه على حساب العربية.
إلا أنه مع الأسف الشديد تبين الحس والجس أن المكلفين بالأمر لم يستطيعوا أن يجعلوا حدا لسياسية الاستعجام التي آلفها إطار الحكم، وناصرها الجهاز الرسمي، ولا أن يجبروا أحدا على الخضوع للتعريب، والشروع في أسبابه، وإن كانت متابعة هذه السياسة تتناقض مع مفهوم الاستقلال الذي هو عدم التبعية والانحياز، والذي هو السعي الحثيث إلى استرداد ما تدخره، وتتنافى مع مقررات اللجان الوطنية التي كانت قد أعدت للنظر في إصلاح التعليم بإرشاد من جلالة الملك الراحل المغفور له، وبتأييد من خلفه البار جلالة الملك الحسن الثاني.
وفي مقدمة هذه المقررات: التعريب والتوحيد، فاغتنمت وزارة التربية الوطنية الفرصة فتمسكت بالتوحيد، وتشككت في التعريب، وفاتها أن توحيد التعليم مربوط بتوحيد اللغة، ولا تكون إلا لغة البلاد الأصلية، ولا يتأتى التوحيد إلا على أساس وجودها، وبالتالي تتخالف مع الاتفاقات العربية الناتجة عن المشاورات والمؤتمرات.
فهل ستتعطل هذه الحقائق كلها نتيجة أهواء سياسية، وعواطف أقلية؟
وإن كان ذلك فهي خيبة أمل، وحزة ألم.
وعلى أي حال فإن مراجعة الأصل، ومعالجة الوضع؛ من ضروريات الاستقلال، ومن أهم مقتضيات الحال.
سلمنا أن اللغة العربية عثرت في الطريق، وفترت فتورا منذ أن استعمرها العجم من الاستعمار التركي إلى الاستعمار الأوروبي، حتى تأخرت عن مسايرة الحياة، ومجاوبة التطور.
أفليس من مصلحة الشعوب العربية المتحررة، والتي تتحرر بفضل قوة إيمانها أن تهتز إلى إنجاد لغتها، وتخليص لسانها من الجراثيم الملصقة به؟
حتى تعود فتؤدي مهمتها بين اللغات السامية، فإن فتورها وتأخرها لم يكن من ذنبها، ولا من طبيعتها، وإنما هو شيء طارئ عليها، كما تطرأ الآفات على حياة الكائنات، وما هو إلا طبيعة من طبائع الاستعمار المارد.
والآن وقد خف إلى الزوال، وأسرع إلى الفناء، وخلفه في الشرق والغرب روح قوية في الاستقلال، وريح عاتية في التحرر، فلا تنخدع هذه الشعوب باسم الاستقلال السياسي، وتغفل عن الاستعمار اللغوي والفكري، الجاثم على صدورها، المتحكم في ظاهرها وباطنها، حتى أنها لا تقدم إلا ما قدمه، ولا تؤخر إلا ما أخره.
أما الشرق العربي، فقد عمل في هذا الميدان بعد خلاصه ونجاته من الشر، ما يذكر ويشكر، فألف المجالس، وجمع العلماء للنظر في مستقبل الحياة العربية، والمعطيات اللغوية، بعد أن استبدل لغته باللغة الخارجية، وبرزت مجلات ومؤلفات التعريب، وظهرت مجامع العلم واللغة، فكانت لهم بذلك تجربة موفقة، وهداية سابقة.
وكان من حق الغرب العربي أن يلتقي مع الشرق العربي والإسلامي في الأهداف والغايات، كما التقى معه في المبادئ والعقائد، ويأخذ من تجاربه وتجولاته ولا سيما في الدفاع عن اللغة والعقيدة، فإنه المدره الأول، والمكره الأغلب: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].
وقد يكون من مظاهر التخلف والتأخر عدم الموازنة بين الأقوال والأعمال، وقلة الالتفات والمبالاة، بمخالفة الأوضاع الصحيحة، والحقائق الصريحة، والإضراب والإعراض عن الاستفادة من ذوي المراقبة والمناظرة، وأصحاب الخبرة والتجربة، ظنا من أولئك الذين سنحت لهم الفرصة أن الرأي العام غافل أو جاهل لا يعي ما يروج بجانبه، ولا ما يعقد في شأنه، ولا يميز بين السياسة والمجاملة، ولا بين التصريحات القائمة والتمويهات الباطلة، وهذا خطأ كثيرا ما يقع فيه أولئك المستهترون بالمغاني، السالكون سبيل أنفسهم تطولا واستكبارا.
وبعد؛ فإن الحق ظاهر أبلج، وإن ميزان الأقوال هو الأعمال، فإن طابقه القول صدق صاحبه، وإلا قامت الحجة عليه من قوله وعمله، وأن الإيمان بحق الوطن يفرض الاستمساك بمصلحته الظاهرة ماديا ومعنويا، والإخلاص في فهمها وأدائها، فلا قيمة لقول لا يردفه عمل، ولا ثقة بحكم لا يسير بإخلاص {وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب}.