كيف نشأت الفلسفة؟
تتطور الفلسفة، وبالتالي يتطور تعريفها. لا يمكن أن ينظر الإنسان إليها عند نشأتها كما ينظر إليها اليوم. فالإنسان المعاصر غير الإنسان القديم، وعصر العلم الدقيق ليس هو عصر الفلسفة الطبيعية.
لا شك أن الفلسفة كفعل كانت مع الإنسان منذ البداية؛ فقد تساءل الإنسان القديم عن مصيره كما يتساءل فلاسفة اليوم.
يخوض هؤلاء في الموضوع بأدوات معاصرة، في حين أن سابقيهم من القدماء رجحوا الخرافة في زمن الأسطورة (ما قبل 1500 قبل الميلاد).
لكل فلسفته في الحياة، إلا أن هذا اللفظ (لفظ “فلسفة”) لم يستعمل إلا بعد أن نضجت الظروف التاريخية لذلك.
وهنا نتساءل: كيف كان الفكر في اليونان القديمة؟
بإمكاننا أن نجيب عن هذا السؤال كالآتي:
– عرف العبيد في اليونان بالعمل (=اليد) منفصلا عن الفكر (=العقل)، فأصبح الفكر يعني تعالي الأسياد على العبيد.
فلسفة كان أغلبها مثاليا حقا، ولكنها بالرغم من ذلك فلسفة.
فلسفة تحدثت عن الواقع من بعيد، لأنه كان بالنسبة إليها مذموما يليق بالعبيد وحدهم. في الحضارة الرومانية لم تظهر أي فلسفة، وذلك لأن العبيد اشتغلوا بالفكر والشعر والكلام.
لم يجد العبيد في حياتهم المليئة بالعمل فراغا للتفكير الحر المسؤول المستمر، ما جعلهم غير قادرين على إنتاج فلسفة كما فعل أرستقراطيو اليونان.
لو كانت الفلسفة مفتقرة إلى أي أساس اجتماعي لاهتم بها العبيد في بلاد الإغريق كغيرهم من الأرستقراطيين، ولظهرت في بلاد الرومان كما ظهرت في بلاد الإغريق[1].
– قبل أن توجِّه اليونان قوتها ضد الشرق (ما بين 470-490 قبل الميلاد)، كانت تعيش صراعا بين أثينا وإسبارطة.
أثناء الحرب، ساهمت إسبارطة بالجيش، بينما ساهمت أثينا بأسطولها البحري الحربي. انتهت الحرب، فازدهرت أثينا وعادت إسبارطة إلى عزلتها الأولى.
يقول ول ديورانت: “وعندما انتهت الحرب، سرحت إسبارطة جيوشها، وقاست من المشاكل الاقتصادية الناجمة عن هذه العمليات العسكرية وتسريح الجيوش، بينما حولت أثينا أسطولها الحربي إلى اسطول تجاري، وأصبحت إحدى المدن التجارية العظيمة في العالم القديم. وعادت إسبارطة إلى عزلة زراعية. بينما تحولت أثينا إلى سوق كبيرة وميناء ومكان اجتماع للكثير من الرجال، من مختلف الأجناس والعادات والمذاهب”[2].
تحويل أسطول حربي إلى آخر تجاري، ازدهار أثينا، اجتماع التجار والرجال فيها من كل النواحي… إلخ، هي الأسباب الرئيسية (=البنيات التحتية) لانتشار النقاش الفكري والقول والرد.
يقول ول ديورانت ثانية: “وحملت خلافاتهم واتصالاتهم ومنافساتهم إلى أثينا التحليل والفكر والمقارنة، حيث تبارت التقاليد وتطاحنت العقائد في هذه المراكز ذات الاختلاط المختلف الكثير”[3].
هذه ومثيلاتها هي الظروف التي نشأت فيها الحكمة، ثم بعد حين محبة الحكمة (=الفلسفة).
ناقص عقل من يتجاهل البنيات التحتية ودورها الأساسي في نشأة الفلسفة أو أي فكر كيفما كان نوعه. هكذا حدث في فلورنسا القرن 14 م، حيث استجلبت العائلات الغنية الأدباء والمفكرين والفنانين لإحداث نقلة نوعية فيها (النهضة).
وهذا ما فسر به علي شريعتي زهد بوذا فارا من غناه، وحكمة كونفوشيوس فارا من فقره.
تعريف الفلسفة في سياقه التاريخي:
قلت: تتطور الفلسفة عبر التاريخ، فيتطور معها تعريفها. ففلسفة بلاد اليونان ليست هي فلسفة المتدينين (المسيحيين والمسلمين)، وفلسفة هؤلاء ليست هي فلسفة العلوم الدقيقة.
دائما ما يحدث صراع فكري/ نظري/ فلسفي بين الماديين والمثاليين، المستقرئين والمستنبطين، الواقعيين والحالمين… إلخ.
إلا أن فلسفة عصر ليست هي فلسفة العصر الذي يليه، وهكذا.
ربما هذا ما قصده هيجل بقوله: “الفيلسوف لا يستطيع أن يخرج عن عصره”.
مهما تظاهر بذلك، ومهما بلغ عنان السماء، فهو طائر يحلق تحت سقف واقعه.
يحتاج فيفكر، وحاجته بنت واقعه وحيرة عصره.
لقد كان ذلك واضحا في عقل هيجل، حتى أنه شبه الفلسفة بالأكل قائلا: “لا نستطيع أن نفكر عوضا عن الآخرين كما لا نستطيع أن نأكل لهم وعوضا عنهم”.
تختلف الحاجة من عصر لعصر، فيختلف النظر.
يختلف النظر، فتُعَرَّف الفلسفة بتعاريف مختلفة.
يقول سليم دولة: “كل فيلسوف يعرِّف الفلسفة حسب سياقه التاريخي”[4].
في اليونان حيث تنتشر الآلهة وتُقَدَّر الروح، عرفت الفلسفة بأنها “تشبه بالآلهة ودربة على الموت” (أفلاطون).
في أوروبا المسيحية وبلاد المسلمين حيث الاعتداد بالعقل والنقل معا، عُرِّفت الفلسفة بأنها “الخادمة الطيعة للشريعة” (ابن رشد) و”المدافعة عن البيان بالبرهان” (بتعبير محمد عابد الجابري).
في عصر العلم الدقيق حيث “التجريد الرياضي للتجربة والقياس الدقيقين” (هشام غصيب)، أصبحت الفلسفة تعني التأمل التجريدي فيما توصلت إليه المعرفة الحديثة بمختلف تخصصاتها[5].
يقول سليم دولة ملخِّصا كل هذا: “لقد كانت الفلسفة في العصر اليوناني تمثل الخطاب الشمولي وتُعْتَبَر النظام المرجعي الأساس: “الفلسفة أم العلوم”.
وإذا تراجعت الفلسفة في المرحلة القروسطية أمام هيمنة الخطاب الديني وسقطت الممارسة الفلسفية تحت وصاية الدين، وإذا كانت قد استعادت مكانتها ضمن التعابير الثقافية الأخرى وبالتحديد مع ديكارت، فإن استقلال العلوم المختلفة وانعتاقها من ربقة الفلسفة سيجعل الخطاب الفلسفي يتراجع أمام العلم وسيمثل أوغيست كونت هذا الموقف”[6].
يلاحظ من خلال ما سبق أن الفلسفة تأخذ تعريفها حسب السياق التاريخي الذي يحكمها، فأرسطو ليس هو توما الأكويني أو ابن رشد، وابن رشد ليس هو ديكارت، وهذا ليس هو أوغيست كونت.
فلسفة الإغريق ليست هي الفلسفة الهيلينية، ولا هذه هي الفلسفة الإسلامية، ولا هذه هي فلسفة عصر النهضة والعلوم الدقيقة.
لكل عصر حاجة تخصه، وبالتالي لكل عصر سؤال يحير مفكريه وفلاسفته.
السؤال هو ما تفرضه الحاجة، والسؤال هو ما تنتعش به الفلسفة وتستمر.
[1] سلسلة محاضرات بعنوان: “الماركسية”، للدكتور هشام غصيب.
[2] ول ديورانت، قصة الفلسفة، ترجمة فتح الله محمد المشعشع، منشورات مكتبة المعارف، الطبعة السادسة، 1988، ص 6.
[3] نفسه، ص 6.
[4] سليم دولة، ما الفلسفة؟ ص 26.
[5] نفسه، من الصفحة 26 إلى الصفحة 55.
[6] نفسه، ص 66-67.