1-فلسفة الكادحين والعمال والفلاحين والمشرَّدين والمضطهَدين والمستضعَفين في القرن الحادي والعشرين.
ما سبب هذه الفوضى؟ لماذا كل هذا الكلام البعيد كل البعد عن هموم الناس وما هم في حاجة إليه؟ ما سر هذه العبثية المنتشرة في فكر وسلوك أبناء دول الجنوب؟ لماذا أصبحنا نعيش عدمية نيتشه وعزلة محيي الدين بن عربي في آن واحد؟ أهي إرادات لا نعرفها للتضليل وخلق الفتن وبلقنة كل شيء يجتمع عليه الناس؟ أهي فلسفة يراد لها أن تفارق الأرض لتعود إليها بالتفكيك والتمهيد للهيمنة؟ أهي فلسفة يراد من خلالها أن نفتقر، نحن شعوب الجنوب، إلى النظرية السديدة والممارسة العملية السديدة؟
أسئلة كثيرة لا بد لها من جواب. إنها أسئلة الشمال والجنوب معا. الشمال حيث تصنع الفوارق بشكل خفيف وتسود الرأسمالية المتوحشة مع تحقيق شيء من العدالة الاجتماعية المنقوصة، والجنوب حيث تصنع التبعية للأجنبي والفوارق الداخلية بالحديد والنار وتسود الرأسمالية المتوحشة بالإملاءات وإعادة إنتاج التخلف وأنماط الإنتاج التقليدية والبدائية. من هنا تبدأ فلسفة القرن الحادي والعشرين، ومن هنا تبدأ فلسفة الشعوب المستضعفة.
فأي فلسفة غير هذه يعشقها مثقفونا؟ وأي نقاش غير هذا النقاش تحقق فيه نخبنا الوجد المعرفي؟ أليست الفلسفة البعيدة عن همومنا مجرد مثالية تضعفنا ونحن نقاوم ونقف في وجه الاستكبار العالمي؟ ألا يمكن أن نعتبر كل فلسفة انحلالية وسائلة تقويضا لاتحادنا وصلابة أخلاقنا وقيمنا الجامعة؟ معركة حقيقية سنفتحها اليوم مع كل أولئك الذين أرادوا أن يتفلسفوا بعيدا عن آلامنا. فهم ينتشون بالألفاظ والأسئلة، ونحن نبتئس من قلة حيلتنا وضعفنا. هم يرتزقون بالنظر، ونحن نتضور جوعا بالكدح والاغتراب[1].
2-الفلسفة والممارسة العملية:
ألا يكون من الأجدر بنا أن نترك كل فلسفة مثالية ونبحث عن “العمل” في كل نص، فننبه الناس إليه؟ أليس من الواجب علينا فهم الواقع ودفع الناس إلى الحركة فيه بكل وسيلة؟ أليست الممارسة العملية هي التي تفرض الوسيلة؟ أليست فلسفتنا اليوم مطالبة بالبحث في كل ذلك، أي في: المنهج الناجع لتفسير الواقع، الإيديولوجيا، ما تطلبه الممارسة العملية؟ أليست هذه هي الفلسفة التي تخدمنا؟ ألسنا اليوم في حاجة إلى فلسفة تاريخية نقرأ من خلالها القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف وسير الفقهاء قراءة أخرى، قراءة همها تحريك الشعوب نحو الجدية والاستقامة والانضباط والعمل والتفكير المسؤول، قراءة أساسها: “الحكمة ضالة المؤمن، أينما وجدها فهو أحق بها”؟
أليس من واجبنا أن نمحو كل خلاف، ونقف عند أقوال من قبيل:
– قول الله تعالى في القرآن الكريم: “وقل اعملوا، فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون“.
– قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “قل آمنت بالله، ثم استقم“.
– قول علماء الكلام: “النظر فيما تحته عمل”.
– قول كارل ماركس: “الفلاسفة كلهم أرادوا أن يفسروا العالم، ولكن لا أحد منهم أراد تغييره”.
– قول محمد إقبال، فيما معناه: “قلت: أي رب، لم أفهم العالم. قال: إذن فغيره”.
أليس من واجبنا أن نقف عند أقوال من هذا القبيل؟
3-العمل يراه الله.
يقول الله تعالى: “وقل اعملوا، فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون، وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون.” (سورة التوبة، الآية 105)
أيها القراء، قبل أن نشرع في تفسير هذه الآية وبيان معانيها، دعونا نطرح الأسئلة التالية:
كيف يرى الله تعالى عمل (المنافقين/ الذين لتوهم تابوا)؟
هل تستوي رؤية الله ورؤية رسوله والمؤمنين مثلا؟
ما سر تذكير الله تعالى (المنافقين/ الذين لتوهم تابوا) بالحساب في معرض أمرهم بالعمل الصالح؟
إن المؤمنين يرون، وإن الرسول يرى. ولكن الله يرى ما لا يراه كل أحد، فهو يعلم الغيب ويعلم السر وأخفى.
اعملوا ما شئتم، فالله رقيب عليكم.
قد تسول لكم أنفسكم إبداء الارتهان إلى الجماعة، وإخفاء الرغبة في التمرد عليها إذا أتيح لكم ذلك. ولكن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو السميع العليم. سمعه مطلق، وعلمه مطلق.
تناقش الأسماء والصفات عند علماء العقيدة من منطلق البحث في حقيقتها ومعانيها، ولكنها عند علماء الاجتماع تناقش من منطلق البحث في نتائج استحضارها وامتثال الإيمان بها. إنها، في الاجتماع، تجمع وتوحد وتضبط وتدفع وتراقب وتحث على فعل الخير. وتلك حقيقة اجتماعية وسياسية لا يمكن أن يتجاهلها الباحث.
أيها القراء، أتظنون أن الانضباط منزلة سهلة يسيرة؟ أتظنون أن الناس يفعلون الخير من غير ترهيب ولا ترغيب؟ أتعتقدون أن الاستثناء عادة ينزل بها كل أحد؟
– الترغيب هو مدخل الطاهر بن عاشور في تفسير الآية: (ترغيب المؤمنين الذين لتوهم تابوا)
يقول الطاهر بن عاشور مفسرا: “فوجب على المؤمن الراغب في الكمال بعد توبته أن يزيد من الأعمال الصالحة ليجبر ما فاته من الأوقات التي كانت حقيقة بأن يعمرها بالحسنات، فعمرها بالسيئات، فإذا وردت عليها التوبة زالت السيئات وأصبحت تلك المدة فارغة من العمل الصالح، فلذلك أمروا بالعمل عقب الإعلام بقبول توبتهم لأنهم لما قبلت توبتهم كان حقا عليهم أن يدلوا على صدق توبتهم وفرط رغبتهم في الارتقاء إلى مراتب الكمال حتى يلحقوا بالذين سبقوهم، فهذا هو المقصود”[2].
وكأن الآية تقول لهم: “قد نلتم منزلة عظيمة بالتوبة، والتحقتم بالجماعة بعد طول تمرد وعصيان واستكبار. ولكن لا تفرحوا كثيرا، فلا زلتم في بداية الطريق. وإذا أردتم بلوغ منازل الذين سبقوكم، فما عليكم إلا بالمزيد من العمل الصالح”.
بهذا سيحافظون على إيمانهم وانضباطهم واستقامتهم، وبه سيرتقون ويجتهدون أكثر لخدمة الجماعة والدولة ونيل رضوان الله تعالى.
– الترهيب هو مدخل محمد المكي الناصري في تفسير الآية: (ترهيب المنافقين)
يقول محمد المكي الناصري مفسرا: “فمهما كتمتم وسترتم، ومهما تآمرتم وأخفيتم، ومهما تقلبتم في البلاد، فإن الله ورسوله لكم بالمرصاد. أما الرسول عليه الصلاة والسلام فيطلع على نواياكم وطواياكم بواسطة مشعل الوحي الذي ينير له الطريق، ويعرفه بعناصر التخذيل والتعويق، وبذلك يرى عملكم ويعرف مرماه ومغزاه. وأما الحق سبحانه وتعالى فلا يغيب عن علمه من أمركم شيء، كبيرا كان ذلك الأمر أو صغيرا، جليلا أو حقيرا، بل هو يراكم على حقيقتكم، منافقين يبطنون الكفر ويظهرون الإيمان، لا عقيدة عندكم صحيحة ولا نية لكم صالحة”[3].
إنها محاصرة، وأي محاصرة، تضربها الآية على المنافقين. يعلم الرسول أمرهم بالوحي، ويعلمه الله لأنه يعلم كل شيء مهما كان صغيرا أو كبيرا. ينزع المنافق إلى إبطان تمرده وعدم إخلاصه، فتأبى الآية إلا أن تدخل الرعب على قلبه.
وكأن الآية تقول للمنافق: “إياك أن تتوهم خيانتك للرسول دون علمه، فهو يعلم بالوحي ما لا يخطر لك على بال. إن أمرك مكشوف مهما حاولت التخفي، ومهما تظاهرت بنصرة الجماعة”.
يدخل المنافق بموجب هذا الخطاب في أزمة نفسية، فلا يرتاح حتى في نفسه. يظن أنه يخدع المؤمنين، وهم خادعوه. ألم تنظر في قول الله تعالى في “البقرة”: “يخادعون الله والذين آمنوا، وما يخادعون إلا أنفسهم وما يشعرون“؟
أليس هذا الخطاب وحده كافيا ليتراجع المنافق عن استكباره؟ فلا هو يواجه علنا ليتحقق بنشوة العناد، ولا هو يرتاح في باطنه بتحقيق لذة التخفي، ولا هو يفرح مع الجماعة إذا انتصرت وتطورت دولتها في المدينة، ولا هو يسعى إلى نيل رضوان الله وجنة الخلد… مشتت في الأرض، أراد أن يخرم الجماعة من داخلها، ولكن الخطاب القرآني حاصره وخوفه وأزّمه في نفسه.
خلاصة، نقول: إن الله يرى كل عمل، وإن العمل يطلب الوعي بالسياق التاريخي. لا تنفي العقيدة الرؤية التاريخية، ولا تحرم هذه الأخيرة المؤمن من خلوته ولجوئه إلى ربه.
4-الاستقامة: قيمة إنسانية ومطلب تاريخي.
حث الإسلام الناس على النظام والاستقامة، وكان ذلك مخرجا للإنسان من توحشه وحيوانيته وغابويته. واليوم، ترد علينا دعوات لا تعتبر في التاريخ إلا الأفراد. والحقيقة هي أن التاريخ لا يعتبر الفرد إلا إذا تحرك في جماعة.
العرب لم يتمكنوا من مقاومة تهديدات الفرس والروم والحبشة فرادى أو حتى قبائل، ولكنهم فعلوا ذلك وتجاوزوه لمّا توحدوا على كلمة جامعة (=التوحيد) وأسسوا دولة. فقويت دولتهم، وتوسعوا وانتشرت دعوتهم إلى أن بلغوا البقاع السحيقة. لم يكن ذلك ليتحقق لهم لو لم يأخذوا بسنن التاريخ، ولو لم يواجهوا ما يهددهم بما تفرضه عليهم الضرورة التاريخية. كان بإمكانهم أن يبقوا رسلا ودعاة وتقاة يتكلمون ويبكون ويخشعون ويفسرون الذكر الحكيم، ولكنهم لو فعلوا ذلك لكان التاريخ غير التاريخ الذي نقرأه اليوم.
العمال لا يقهرون الرأسمالية فرادى، ولكنهم يفعلون ذلك إذا اتحدوا في طبقة. ولذلك قال ماركس: “يا عمال العالم اتحدوا”. اتحدوا لتقدروا على الصراع، اتحدوا لتوافقوا “منطق التاريخ”. فتاريخ البشرية (بعد تشكل الطبقات وظهور الملكية الخاصة) هو تاريخ الصراع الطبقي والثورات الاجتماعية و”تحسين الحياة” بالارتقاء من الأسوأ إلى السيء، ومن الحسن إلى الأحسن…
هل تظنون أن الجماعة تجتمع بدون ضوابط؟
لن نجيب على هذا السؤال بما نحلم به ونطمح إليه، ولكن التاريخ قال كلمته في هذا الباب. فلم يسبق لدولة أن تأسست بمراعاة الأهواء، كما لم يسبق لمقاومة أن قاومت وصمدت بالكسل والتواكل. الحرية مطلب، ولكنها مقيدة بالضرورة. إذ ليس هناك حرية مطلقة على الأرض، وإلا فلتعش العدمية لينتهي كل فعل بشري جماعي، وليعش الأفراد دون أن يجتمعوا.
هذه هي الحيوانية، وهذه هي انتكاسة الإنسان. فهل يعقل أن يحطم الإنسان كل ما بنى وينتفض على كل ما وصل إليه من منجزات مادية وثقافية؟ أليس هذا هو الحمق بعينه؟
ليست هناك حرية مطلقة، وبالتالي لا تستقيم حياة جماعية بدون استقامة. قد يقول قائل: “وهل ننفي الفرد بالجماعة؟”. وهذا سؤال بليد، لأن الحياة الفردية من الحياة الجماعية، وهذه من تلك. هذا هو الجدل بين الفرد والجماعة: لا تستمر جماعة ولا تتطور بقمع كل طموحات ورغبات وتطلعات الأفراد، ولا يعيش الأفراد بتفكيك الجماعة والتخلص منها. ومن نفس المنطلق، نقول: لا تُحْفَظ الجماعة بسيولة الأفراد وعدميتهم وتفلتهم من كل معيار أو ضابط، ولا يرتقي الأفراد في ظل قمع الجماعة المبالغ فيه.
الاستقامة شرط لنبني ونقاوم، ولكن أعداءها ينظرون إليها بعيدا عن:
– مراحل تطور الإنسان وإنجازاته التاريخية، حيث تجاوز الإنسان حيوانيته لما عرف النظام والقانون والدين.
– حالنا نحن دول العالم الثالث، حيث جردتنا العولمة من كل انتماء جغرافي أو تاريخي أو ثقافي.
5-الجدل العقيم لا يجدي في الممارسة العملية.
يحكي علي الوردي في كتابه “مهزلة العقل البشري” أن الناس كانوا في سوق من أسواق العراق يتصارعون في الأفضلية بين أبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب.
واقعة فتحت شهية رجلين ذكيين كانا في حاجة إلى مهنة أو حرفة. فأخذا يأتيان كل صباح باكر إلى السوق، ليلهبوا حماس الناس ببابه مقابل المال. يذكر الأول خصال أبي بكر، فينفق عليه البكريون. ويذكر الثاني معاندا خصال علي، فينفق عليه العلويون. وبعد انتهاء الملحمة، يتقاسم الرجلان المال الذي جمعاه.
“مصائب قوم عند قوم فوائد”، هكذا يقول المثل. ونحن نقول: “معارك قوم عند قوم فوائد”. نقول هذا حتى لا يظن ظان أن الصراع ينشب لأجل العقائد والأفكار والمثل، فصراع من هذا النوع لا يعبر إلا عن رغبة فئة من الفئات، أو طبقة من الطبقات، في التعبير عن مطالبها الاجتماعية وحاجاتها الملحة. وما أكثر هذه الخلافات التي تجعلك تستغرب في الماضي والحاضر معا، ولكن حقيقتها تظهر بمجرد البحث في دوافعا وجذورها.
كل الصراعات بين الفرق لها جذور غير العقيدة. دعك من قول من يؤمن بلا بصيرة، دعك من ظن من يؤمن بالله تعالى خارج أرضنا وبعيدا عن تاريخنا. فهؤلاء لن يفحموك إلا في جزئيات ما يطفوا على السطح، ولن يقبلوا منك أي تفسير ينظر للخلاف في سياقه التاريخي.
ونحن نسائل هؤلاء جميعا: ما تكون العقيدة إن لم تكن تلك الفكرة التي تحمل آلام الناس وآهاتهم وتطلعاتهم؟ وأي عقيدة سنتمسك بها دون أن تنتشلنا مما نحن فيه من بؤس؟ وكيف سنتمسك بها دون أن نستحضرها في معاركنا التاريخية ومواقفنا الجريئة؟
لو نسينا الخلافات بالعمل، لما سقطنا فيما نحن فيه من تشتت وتمزق وطائفية وفتنة. ولكنها لن تنسى بسهولة، ولن تنتهي بهذه البساطة. لن يحدث ذلك، ما دام هناك من يصنعها وينفخ فيها الروح.
يستفيد التدخل الأجنبي من الفتنة، ويوسع نفوذه باستثمارها أحسن استثمار. ينظر إلى الضحايا، فيجدهم محرومين تعوزهم العقائد الفاسدة التي يخرجون باعتناقها على الجماعة. فيُظْهِر لهم عقائد دون عقيدتهم الأصل، ويزين لهم مذاهب دون مذهبهم المعتمد. إنها الطريقة الوحيدة التي يتمكن من خلالها من تفكيك العقيدة الجامعة المعبرة عن الوطن الواحد والمجتمع الواحد، فتتعالى الأصوات بالحرية وكأن الدولة المستهدفة ليست في حاجة إلى أجهزتها الثقافية والإيديولوجية كغيرها من الدول.
جمعيات حقوقية ومراكز أبحاث ودور ثقافية ومدارس تأويلية… إلخ. كلها مؤسسات تتأسس بالضغط وتمول بالدولار والأورو، ويُصْرَف عليها فائض الإنتاج الذي راكمه الاستعمار قديمه وجديده في بلداننا. عملية نهب حقيقية، عملية نهب منا وإلينا. فائض إنتاج راكمه الاستعمار العسكري، ليباشر تفكيكنا في حلته الجديدة (=الاستعمار الجديد).
درس تعلمناه من التاريخ: ليس هناك تقويض بريء، وليس هناك تفكيك حسن النية. قد يحصل ذلك عند العميان في بلداننا، ولكن من يؤجج الصراع وينفخ الروح “فيما ليس تحته عمل” حتما يحسن مخاطبة الحرمان واستغلاله في المساومة والضغط.
ولا يظنن أحد أن كل هذا ضرب للعقائد السليمة، فليس الأمر كذلك. فالعقائد السليمة مخبرة بالحقائق الغيبية، ولا ينفي ذلك عنها استيعابها لآلام الناس وفاعليتها في معاركهم التاريخية، سياسية كانت أو اجتماعية.
6-لا خير في فلسفة مثالية.
أيها القراء، دعوني أكلمكم عن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم قليلا.
رسول كريم يحسن البلاغ.
يقول بالقول، فيحفظه الصحابة من سماع واحد (كما قالت عائشة بنت الصديق)[4].
يجادل كل مخالف بالتي هي أحسن، فيفحم كل أحد من المخالفين على حدة.
إفحام يشهده المؤيد والمعارض معا. يشهده المؤيد ليتعزز انتماؤه ويتقوى إيمانه، ويشهده المعارض ليرى انهزام قادته أمام عينيه.
رسول شجاع لا يتوانى في قمع من خرج على الدولة بجهاز الدولة. يكره العنف، ولكنه يمارسه بالدولة إذا اقتضى الحال (ممارسته العنف في حق اليهود المعتدين).
ينزل للميدان في بدر، فيوجه الصحابة في ساحة المعركة ويطمئنهم بالدعاء إلى أن يسقط البرد من على كتفيه. وينزل إليه (الميدان) في أحد، فينال من الخسارة والهزيمة ما ناله أصحابه. وينزل إليه في الخندق، فيأخذ بقول سلمان الفارسي قابلا بمشورته ومنفتحا على خبرة لم تكن لديه. وينزل إليه في حنين بعد تراجع، فيشجع صحابته بقوله: “أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب“…
يتراجع في صلح الحديبية ليكسب المعركة فيما بعد، ويواجه في ذلك كبار الصحابة وفيهم عمر، وما أدراك ما عمر. يتنازل عن كل شيء عزيز ليكسب ما هو أعز، ويحقق ما هو أقدر على حماية الدعوة والحفاظ على الحركة التجديدية.
لا تهمه الأشكال والرموز كبعض أتباعه اليوم، فيترك لقبا وكتابة ليتوسع ويعلو شأن دعوته بعد حين.
ينتصر، فيعفو عن كل من اعتدى عليه وقرر أن يدخل في السلم والطاعة بعد الفتح.
يدعو للسلام بعد أن هزم خصمه، ودفع عدوانه.
ينصر السلام ويعاتب على سعد بن عبادة (بعد فتح مكة) قوله: “اليوم يوم الملحمة، اليوم يوم أذل الله فيه قريشا”، ثم يقول: “اليوم يوم المرحمة، اليوم يوم أعز الله فيه قريشا“.
يتغلب، ثم يعفو ليبني دولة الوحدة التي ستنشر الدعوة وتتوسع في الأرض متجاوزة كل تحدياتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية[5].
ما تكون الفلسفة إن لم تكن: موقفا من الكون والحياة والإنسان، وفهما للواقع والسياق التاريخي، ورؤية واضحة للعمل، وخطة محكمة للتنفيذ، وعقيدة دافعة للحركة والتضحية والبذل والعطاء وتجاوز التحديات؟ أي فلسفة مثالية تريدون أن تقنعونا بها غير هذه الفلسفة؟ أي كلام تريدوننا أن نتعلق به من غير ممارسة عملية؟
7-النظرية والممارسة العملية: رؤية جدلية.
يقول بعضهم: “كفانا من النظر، فالواقع أولى بالاهتمام منه”، ويقول آخرون: “لا خير في العمل، فلنفهم ولنفك رموز هذه الحياة أولا”.
كلا الرأيين محكومان بردة الفعل.
الأول سئم من الفلسفة المثالية التي لا تلتفت لهموم الناس وآلامهم، ولذلك ارتبط عنده النظر بكل مجرد لا واقع له. والحقيقة هي أن النظرية تنطلق من الواقع وتعود إليه، أي تجريد للواقع واختبار فيه كل مرة.
أما الثاني فقد أعياه العمل اليومي، وأرقته الجزئيات التي لا يربط بينها رابط منهجي أو منطقي. لقد ظل فترة من عمره يستقبل المعطيات والإحصائيات والأحداث اليومية دون تحليل أو تفسير، فاضطر إلى معانقة فلسفة مثالية ظنها الفلسفة الوحيدة على الأرض.
الموقف التاريخي الذي أثبت جدارته في التحليل هو الموقف الجدلي، حيث لا يستغني الواقع عن نظرية، ولا تستغني هذه عن واقعها.
في الإسلام إشارة إلى ذلك: إذ يدعونا الله إلى العلم، وبعدها يدعونا إلى العمل معه.
يقول الله عز وجل في سورة “العصر”: “والعصر، إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا، وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر.”
تؤمن بما تعلم، فتعمل به، وتدعو الناس إليه، وتصبر على الأذى في ذلك. هكذا فسر محمد الحسن ولد الددو هذه السورة مستلهما تفسيرها من “الإمام الشافعي”.
الماركسيون أنفسهم وجدوا في هذا الجدل بين النظرية والممارسة العملية ضالتهم المنهجية، فقال لينين في “ما العمل؟”: “لا ممارسة ثورية بدون نظرية ثورية، ولا نظرية ثورية بدون ممارسة ثورية”.
لا يمكنك أن تشرع في الممارسة العملية وأنت أعمى لا تفقه شيئا ولا تفهم واقعا، كما لا يمكنك أن تجرد دون أن تختبر في الواقع ما توصل إليه تجريدك (=النظرية).
هذا هو الجدل الذي أشار إليه الإسلام، وطوره المفكرون الجدليون في التاريخ والواقع.
إن الأمر أشبه “بدورة” تتكرر، وينتج عنها ارتقاء المعرفة والعمل معا كما يؤكد على ذلك ماو تسي تونغ قائلا:
“اكتشاف الحقيقة عن طريق الممارسة العملية، وإثبات وتطوير الحقيقة عن طريق الممارسة العملية ثانية. الانطلاق من المعرفة الحسية وتطويرها بصورة فعالة إلى المعرفة العقلية، ثم الانطلاق من المعرفة العقلية لتوجيه الممارسة العملية الثورية بصورة فعالة في سبيل تغيير العالم الذاتي والعالم الموضوعي. الممارسة العملية، ثم المعرفة، والعودة إلى الممارسة العملية ثانية، ثم المعرفة أيضا، وهكذا تتكرر العملية إلى ما لا نهاية له، ومع كل دورة يرتفع مضمون الممارسة العملية والمعرفة إلى مستوى أعلى”[6].
8-ضد المثالية مرة أخرى.
أليس العمل هو مدخل كل فلسفة؟ أليس العمل هو مدخل فلسفتنا اليوم؟
هموم كثيرة تختلج “المثقف العضوي” وهو ينظر إلى هموم الناس، وخاصة المستضعفين منهم. مثاليون في التقليد، الواقع عندهم صفر. ومثاليون في الحداثة، المجتمع وتاريخه عندهم صفر. نخب طائشة متعالية تبني بنيانها النظري بناء ذاتيا لا يرتهن للواقع الموضوعي، الفكر عندها مجال من الانتعاش خارج الموضوع. حرص على المواقف مهما أظهر الواقع الموضوعي تخلفها، وإهمال لعامل الهيمنة مهما كانت أوضاعنا مختلفة عن أوروبا عصر النهضة. سقوط كبير ومهول تعيشه الثقافة العربية اليوم، سقوط تنحى فيه التاريخ فيما أقبل علينا فقهاء ووعاظ ومفكرون وفلاسفة وسياسيون لا يرون في الحقيقة إلا محطتها الأخيرة. الفلسفة شيء، والفقه والوعظ والسياسة أشياء أخرى. إلا أن ما اكتوت بناره الفلسفة اكتوى به غيرها، وما اكتوى به غيرها اكتوت به. ولا تحسبن ذلك صدفة، وإنما هي فوضى الاقتصاد الرأسمالي المعاصر تنتج فوضى المثالية في الفقه والوعظ والفكر والفلسفة والسياسة…
[1] “تاريخ الإنسان هو تاريخ اغترابه”، هكذا عبر هيجل. الاغتراب مفهوم لفيورباخ في الأصل، نقد من خلاله التعاليم الكنسية التي كانت تحول بين الإنسان وبين طبيعته ومحيطه. وقد اعتمد ماركس نفس المفهوم للتعبير عن الاستغلال الذي يعيشه العمال في مصانع الرأسماليين، حيث يغترب العامل عن نفسه بفقدان قوته الإبداعية وعن عمله بعدم حصوله على حقه من الربح.
[2] محمد الطاهر بن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، الجزء الحادي عشر، ص 25.
[3] محمد المكي الناصري، التيسير في أحاديث التفسير، دار الغرب الإسلامي، 1985 م، ص 11-12.
[4] من رسالة “في فقه الحوار”، لصاحبها سعد الدين العثماني، منشورات الفرقان.
[5] للمزيد من التوسع في هذه الأحداث المذكورة والتأمل فيها، راجع المراجع التي قرأناها لتتبلور عندنا هذه الرؤية، وهي كالتالي: “روضة الأنوار في سيرة النبي المختار” لصفي الرحمان المباركفوري، “السيرة النبوية، دروس وعبر” لمصطفى السباعي، “فقه السيرة” لسعيد رمضان البوطي، “روحانية الداعية” لعبد الله ناصح علوان، “محمد صلى الله عليه وسلم، رسول السلام” لأحمد بوعود”، مقالة “النبي محمد والدولة القومية العربية” لعبد السلام الموذن. لقد استحضرت مقاطع بعينها مما قرأته في هذه المراجع، فجاء التركيب كما هو مبين أعلاه.
[6] ماو تسي تونغ، في التناقض والممارسة العملية، منشورات الملتقى، الطبعة الأولى، 2007، ص 28.