علم التوحيد والتزكية
بقلم: د. فريد الأنصاري
علم التوحيد والتزكية: هو الصنف الثالث المقصود من التكوين العلمي لطالب العالِمِيَّة، وهو في حقيقته غاية الغايات ونهاية المألات في الدين، وإغفالُه أو إهمالُه مهلكةٌ كبرى في العلم والعمل ! وليس عبئا أن شدد الباجي – رحمه الله – في وصيته لولديه کما رأيت على المعاني الإيمانية، والحقائق الأخلاقية؛ بما يجعلها أصلا من أجلِّ الأصول الضرورية، في تكوين العالم الرباني، الذي يُرجى من ورائه الخير لنفسه ولأمته.
إلا أن من أخطر المشكلات التي واجهها الناس اليوم -على المستوى المنهجي- في هذا الأمر التربوي الخطير- مشكلة- «المفهوم»، أعني مفهوم: «التوحيد» بما هو «تزكية» للنفس، لا بما هو مقولات كلامية وحسب؛ إذ إن «التوحيد» و«التزكية» إنها هما وجهان لعملة واحدة، وتجليان لحقيقة واحدة. وعدم فهم ذلك أدى ببعض الناس إلى كثير من الخلل في التعامل مع مفاهيم العقيدة الإسلامية.
ذلك أن العلماء قسموا حقائق التوحيد – بناءً على استقراء نصوص الكتاب والسنة -إلى قسمين: توحيد معرفة وإثبات، وتوحيد قصد وعبادة.[1]
فالأول: يؤول إلى توحيد الربوبية ومكملاته، والثاني: يؤول إلى توحيد الألوهية ومتمماته.
ومدار توحيد الربوبية: هو التعريف بالله جل جلاله ربّاً للعالمين، وما ينبغي له وما لا ينبغي من أسماء و صفات، مما يتعلق بشؤون ربوبيته تعالى.
ومدار توحيد الألوهية: هو تفریده تعالى – وحده دون سواه – بالتوجه إليه بالطاعات والعبادات؛ خوفاً ورجاءً، وهذا ما ضمَّنه القرآن في مفهوم (الإخلاص) بصيغ شتی، كما في قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ۚ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر 2، 3]، كما ضَمَّن القسمين المذكورين معا في شعار التوحيد: (لا إله إلا الله). هذا مجمل ما قرروه في كتب العقائد.
إلا أن الإشكال هو في المنهج الذي عُرِضت به هذه المعارف والعلوم؛ حيث غلب على الكتب التي درست التوحيد اعتماد المنهج الكلامي الجدلي. حتى ولو كانت على منهج العقيدة السلفية؛ إلا قليلاً! وذلك نظراً للجدل التاريخي الذي أحاط بموضوع العقائد، وما تخلَّلَه من فِرَقٍ و مذهبيات، تتأرجح بين الغلو والاعتدال، وتلك قضية أخرى.
لكن نتج عن هذا كله مشكل على المستوى المنهجي، ألا وهو غياب «المقاصد التربوية» من أغلب كتب العقائد، حيث فصَّلَت في بيان القسمين المذكورين معاً؛ لكن بمنهج نظري جدلي، لا بمنهج تربوي، قائم على «قصد تزكية الأنفس» الذي هو غاية تعريف العباد بالله رباًّ وإلهًا! وأُهمِل هذا المعنى العظيم، لتتولاه كتب أخرى وفنون أخرى، وُصفت أحيانا بكتب الرقاق، وأخرى بكتب الزهد، أو كتب السلوك، أو كتب التصوف.
وبغض النظر عن مشكلة التسمية وما تثيره من جدل؛ فإن غاية ما سَلِمَ من هذه المصنفات إنما هو تزكية الأنفس؛ لتتحقق من مفهوم (الإخلاص)، وذلك هو غاية التوحيد جملةً، وأساس توحيد الألوهية خاصةً. والناظر فيما صَفَا من هذه الكتب والمصنفات إنما يجدها تدور حول حقائق الإيمان بهذا المعنى.
ومن هنا لم تكن «التزكية» غير التربية على «التوحيد» بمعناه القرآني الشامل، وهو غاية وظائف الرسالة النبوية المذكورة في غير ما آية من كتاب الله، كما في قوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: ١٦٤]
وعليه؛ فقد وجب أن نستعيد المنهج القرآني في عرض المادة التوحيدية، أعني منهج التربية والتزكية؛ للبلوغ بالتوحيد إلى ثمرته المَرجوَّة ، ألا وهي: الإخلاص، ولا يكون ذلك إلا بعلم وعمل؛ فالعلم: إنها هو التلقي الصحيح والفهم السليم عن الله ورسوله، بناءً على ما جاء في القرآن الكريم وما صح في السنة النبوية، من أمور العقائد، وقواعد الإيمان، ولا عمل إلا بعلم، والتنكب عن سواء هذا المنهج الأصيل أدى ببعض أبناء العمل الإسلامي المعاصر، وبعض القيادات الإسلامية إلى الارتماء في مستنقع البدع العقدية، والانحرافات التعبدية، وإلى التيه في ظلمات الضلال والخرافات! وإنما السبب في ذلك إهمال أصل العلم في طريق معرفة الله تعالى.
وليس عبثاً أن ترجم الإمام البخاري في «كتاب العلم» – من صحيحه – للمقولة الجامعة المانعة في الدين، ألا وهي: (باب العلم قبل القول والعمل!). وما هلكت الأمة إلا بعد انحرافها عن هذا الأصل المتين! وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما وصف به حال المسلمين زمن الفتن – مما سبق ذكره؛ حيث قال عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمِ انْتِزاعًا يَنْتَزِعُهُ مِن الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاء حَتَّى إِذا لم يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا فسُئِلوا، فأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» [2]؛ ولذلك كانت أولى خطوات تجديد الدين إنما هي تجديد العلم بالله.
وأما العمل: فإنها هو مجاهدة النفس في الله -في ضوء ذلك العلم- حتی تسلك بالعبد مدارجَ السالكين، ومنازلَ السائرين إلى رب العالمين، عبر التخلق بأخلاق الخشية والورع، والتحلي بتباريح الشوق والمحبة، والتخلي عن كل ما يخرم أدبها مع الله، ويثلم إخلاصها له وحده دون سواه؛ فيتحقق لها التوحيد خُلُقاً حيّاً ينطق به العمل؛ لا مقولات ميتةً، يُرمى بها في مجالس التناظر والجدل.
والعلم الكفيل بتحقيق ذلك للنفس إنما هو علم والتزكية؛ إذ هو الجانب التطبيقي للتوحيد، والترجمان العملي للإخلاص، ولكن ها هنا إشكال: فنظراً لاضطراب المفاهيم والتصورات؛ وقف الناس إزاء هذا العلم بين إفراط وتفريط.
فبما هو علمٌ لابَسَه -من حيث التسمية- مصطلح آخر هو «التصوف»، وبما كان حول هذا المصطلح من جدل في تاريخ الأمة، امتد إلى زماننا هذا؛ لأسباب شتى، ليس هذا محل ذكرها [3]؛ فقد ضل في طريقه فريقان: فريق أنكر كل ما فيه؛ فأنكر كثيرا من المعلوم من الدين بالضرورة من حيث لا يدري! وفريق أخذ بكل ما فيه؛ فأخذ بكثير من الباطل والخرافات! وإنما الحق أخذ التربية بقواعد العلم ومناهجه، ولا يكون ذلك إلا بالتأصيل العلمي لكل مقولات التصوف وقواعده، وهذا أمر صنعه غير واحد من العلماء الربانيين؛ فأصاب بذلك خيراً كثيراً، واهتدى بكتبه وعلى يديه خلقٌ كثير منهم الشيخ عبد القادر الجيلاني البغدادي، والإمام أبو إسحاق الشاطبي الأندلسي، والشيخ أحمد زروق المالكي المغربي، والإمام ابن القيم الحنبلي، وغيرهم كثير.
ولا خير في الغلو كيفما كان يستوي في ذلك أهل التصوف وأعداؤه! وقد كتبنا تعليقا على نص لابن القيم في مثل هذا السياق، من كتابنا “جمالية الدين”، نورد هنا بعضه، وذلك قولنا: (رحم الله ابن القيم العالم المحقق، والناقد لمذاهبهم – أعني المتصوفة – البصير بمثالبها وبركاتها.)
قال في هذا كلمات حقها أن تكتب بماء الذهب: “هذه الشطحات أوجبت فتنة على طائفتين من الناس:
إحداهما: حُجِبَت بها عن محاسن هذه الطائفة، ولطف نفوسهم، وصدق معاملتهم، فأهدروها لأجل هذه الشطحات، وأنكروها غاية الإنكار، وأساؤوا الظن بهم مطلقاً! وهذا عدوان وإسراف ! فلو كان كل من أخطأ، أو غلط؛ تُرِكَ جملةً، وأُهْدِرَت محاسنُه؛ لفسدت العلوم والصناعات والحِكَم، وتعطلت معالمها.
والطائفة الثانية: حُجِبوا بها رأوه من محاسن القوم، وصفاء قلوبهم، وصحة عزائمهم، وحسن معاملتهم – عن رؤية شطحاتهم، ونقصها، فسحبوا عليها ذيل المحاسن، وأجروا حكم القبول والانتصار لها، واستظهروا بها في سلوكهم، وهؤلاء أيضا معتدون مفرطون.
والطائفة الثالثة: – وهم أهل الإنصاف – الذين أعطوا كل ذي حق حقه، وأنزلوا كل ذي منزلة منزلته!” [4]
والأساس من هذا كله فيما نحن فيه أن كثيراً من طلبة العلوم الشرعية بما أعرضوا عن التربية الروحية تخليةً وتحليةً؛ ساءت أخلاقهم، وفسدت نياتهم، وانحرفت أعمالهم؛ فما صلحوا لا لأنفسهم ولا لغيرهم! وإنما الغاية من طلب العلم نیل رضا الله جل علاه، فإذا أخطأه العبد فقد خاب وخسر! وكفى بقول الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] ضابطاً لقصد الشارع من العلم والتعلم.. وقد فسر أهل العلم (العلماء) هنا بأنهم العلماء بالله وبأمره.
فما عالمٌ ليست له خلوات بجوف الليل الآخر يتبتل فيها إلى الله ويدعوه رغباً ورهباً ، وما عالمٌ ليست له أوقات مع ربه يذكره فيها ويستغفره ويسبحه، وما عالمٌ ليست له أشواق ولا أذواق، ولا حياة لوجدانه بمسالك المحبة الإيمانية، ولا معرفة لقلبه بمدارج الخوف والرجاء – ماذا يرجى من ورائه لهذه الأمة؟ وماذا يمكن أن يفيد في تربية الخلق وفاقد الشيء لا يعطيه؟!
والعالم الذي ليس له عمق روحي لا يمكن أن يفيد الأمة بشيء – دعوةً وتربيةً – إذ الدعوة إلى الله إنما هي قائمة على سقي ذَوْبِ الروح للعطشى والمحرومين، ونثر مواجيد الرحمة والمحبة للحيارى والمحزونين، فأَنَّى لمن تخَشَّبَ قلبُه أن يجد ذلك؟ بَلَهْ أن يعطيه للناس! ألا وإن ذلك إنما يتأتى {لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37]، ذلك هو الحق، {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس:32]، وإنما الموفق من وفقه الله.
فلا بد لطالب العَالِمِيَّة إذن من حمل النفس على مقتضى الأدب، في المعاملة مع الله والمعاملة مع خلقه، وإلا كان من الهالكين! وعليه؛ فليتخير لنفسه مقرراً دراسياً، تحت رعاية شیخ رباني من أهل العلم- حاشا الجهلة والدجاجلة- مقرراً ذا طابع تربوي، يجمع بين النظر والتطبيق على المستوى المنهجي، فيسلكه بقصد تهذيب النفس، وتخليصها من شوائب الهوى؛ عسى أن يَخلُصَ عِلْمُه وعَمَلُهُ لله الواحد القهار؛ فيُبَارَكُ له في شأنه كله بإذن الله، ويجري الله على يديه خيرا كثيراً.
وأما الكتب التي عنيت بالتربية والتزكية فهي كتب التربية الروحية، المصنفة في علم الزهد والسلوك، مما ألَّف العدولُ الثقاتُ من العلماء الربانيين المشهودُ لهم بالصلاح، الذين تخصصوا في معرفة أحوال النفس وتقلباتها، وتتبعوا مداخل الأهواء فيها، ومسارب الشيطان إليها، فكشفوها للأجيال وبينوا أخطارها، وتلك خاصية لا تكون إلا لعالم بالله، يرى بنور الله.
وأما الخوف من المقولات الزائفة والشطحات الباطلة؛ فإن لنا قواطع القرآن والسنة، من الكليات العقدية، والقواعد الشرعية، الكفيلة بإبطال كل قول سقيم! وما ضل من ضل إلا بهوى تمكن من نفسه! وإلا فإن الحق أبلج والباطل لجلج ! وما التوفيق إلا بالله.
[كتاب مفهوم العالِمِية من الكتاب إلى الربانية، من الصفحة 114 إلى الصفحة 123]
________________________________
1- قال ابن القيم رحمه الله: [التوحيد الذي دعت إليه رسل الله، ونزلت به كتبه (…) نوعان: توحيد في المعرفة والإثبات، وتوحيد في المطلب والقصد.
فالأول: هو حقيقة ذات الرب تعالى، وأسمائه وصفاته وأفعاله، وعلوه فوق سماواته على عرشه، وتكلمه بكتبه، وتكليمه لمن شاء من عباده، وإثبات عموم قضائه وقدره وحكمه. وقد أفصح القرآن عن هذا النوع جد الإفصاح، کما في أول سورة الحديد، وسورة طه (…) و غير ذلك.
النوع الثاني: مثل ما تضمنته سورة: {قل يأيها الكافرون}، وقوله: {قل يأهل الكتب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم} لآية (…) وغالب سور القرآن، بل كل سورة في القرآن فهي متضمنة لنوعي التوحيد، بل نقول قولا كليا: إن كل آية في القرآن فهي متضمنة للتوحيد، شاهدة به، داعية إليه، فإن القرآن إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، فهو التوحيد العلمي الخبري، وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له، وخلع كل ما يُعبد من دونه؛ فهو التوحيد الإرادي الطلبي.وإما أمر ونهي وإلزام بطاعته في نهيه وأمره؛ فهي حقوق التوحيد ومكملاته. وإما خبر عن كرامة الله لأهل توحيده وطاعته، وما فعل بهم في الدنيا، وما يكرمهم به في الآخرة، فهو جزاء توحيده، وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا من النكال، وما يحل بهم في العقبي من العذاب، فهو خبر عمن خرج عن حكم التوحيد، فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم]، مدارج السالكين (3 / 449،459)
3- ذكرنا شيئا من ذلك في كتابنا: جمالية الدين، وانتقدنا الغلو الحاصل من الطرفين
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
جزاكم الله خيرا وبارك فيكم
كثير منا ينساق مع الجانب النظري من العقيدة ( توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية والاسماء والصفات) وينكب على دراسة الكتب والمتون… ولكن تفعيل هذا الكم الهائل من المعلومات في تزكية النفس وتطهيرها يبقى باهتا في سلوك العباد وعلاقاتهم بربهم وبأنفسهم وبغيرهم… فحبذا لو اتجهت الكتابات و المحاضرات إلى الجانب السلوكي التعاملي في شكل مواقف من قصص الحياة العملية اليومية للناس من أجل تفريغها واقعا يلمسه الناس… فيكون بذلك الاقتداء والاهتداء…
وجزكم الله خطرا على الجهود المبذولة..