طمـــــــوح في منتصــف الطـــريق
جميل أن يكبر الطموح في نفوسنا؛ لكن المحزن أن تكون نهاية هذا الطموح مجهولة.
كم هو رائع أن نرسم لأبنائنا المسار الذي ينبغي أن يسيروا فيه؛ لكنه مؤلم في نفس الوقت أن يجد الأبناء أنفسهم في درب الحياة الطويل دون موجه ولا مرشد ولا ناصح أمين.
وحين تطول المسافة يشعر الشباب بالغربة، ومع قلة الزاد ونضوب ينابيع العلم والمعرفة وظهور دعاة الفتنة تنقطع بهم السبل وتموت أحلامهم وطموحاتهم في منتصف الطريق ويصبحون عرضة للضياع.
كان الأب يرى في ابنه إشراقة فجر جديد … میلاد جيل تصفو معه الحياة، لذلك حرص على تعليمه وتوجيهه ونصحه.
ولما جاءت اللحظة التي ينبغي أن يحدد فيها الشاب مصيره ويشق طريقه أخذ الأب ابنه وقال له:
انظر يا بني إلى قمة ذلك الجبل…
هناك مكانك…
هناك يجب أن ترفع راية التغيير…
فوق قمة ذلك الجبل يجب أن تبتكر وتبدع وتعمل بجد ونشاط کي تساهم في نهضة أمتك.
ولكن تذكر يا بني، فدون تلك القمة طريق طويل يتطلب تضحيات، وصبرا وعزيمة قوية، وإرادة صلبة.
وتذكر يا بني أن في الطريق عقبات، قد تضعف عزيمتك.
في الطريق منعرجات قد تزل عندها قدمك.
في الطريق إغراءات قد تلهيك عن مهمتك.
في الطريق شعارات ودعاوی كاذبة قد تنسيك قضيتك.
في الطريق شياطين يتربصون بك في كل وقت وحين
وإياك ثم إياك…أن تبيع مبادئك في سوق المناصب، وإياك أن تمتهن مهنة الحرباء كلما هبت عليك العواصف.
إياك أن ترفع الراية البيضاء كلما کشر الأعداء عن أنيابهم
وكلما أوهنتك المعاصي والذنوب … اجعل التوبة هي الدواء
كلما طرقت بابك الخطوب…اجعل اليقين شفاء
كلما ناءت بك الدروب…استعن برب الأرض السماء
كان حماس الابن في البداية أكبر من خطواته، أما طموحاته فهي أشبه بنوارس تحلق في الفضاء وهي تترقب الفجر الجديد
وآماله … ينابيع مياه عذبة تروي النفوس الظامئة الى الحياة المشرقة.
لذلك، كان يسير بخطى ثابتة
لكنه ما كاد يصل إلى منتصف الطريق حتى خارت قواه .
ضعفت عزيمته …..
نفد صبره ………
وظهرت عليه أعراض الوهن …..
فتوقف عن السير.
ماذا يحتاج؟
يحتاج إلى محطات تخلية …. يعالج فيها نفسه من الضعف والوهن والإحباط ….
يحتاج إلى محطات تحلية …يتزود عندها بشحنات من الصبر واليقين والتوكل.
نظر حوله … فبدا له الطريق قفرا موحشا.
لا وجود فيه لما يدل على الصفاء وطهارة المكان، سوی تجمع الغربان هنا وهناك.
أين الموجه؟
أین المرشد المعين؟
أین الناصح الأمين؟
وبينما الشاب غارق في تأملاته يحاول استرجاع قدراته.. لاحت له من بعيد صور بألوان مزركشة يحار الطرف فيها.. تسلب العقول وتأخذ بمجامع القلوب.
وفجأة سطعت أضواء براقة: ضوء أحمر وأخضر وأصفر فانعكس ذلك على بصره فارتد إليه خاسئا وهو حسير.
ثم انطفأت الأضواء فأعقبها ظلام دامس.
حاول الشاب أن يتبين الطريق لكن هيهات فتلك الصور ذات الألوان المزركشة أورثت في القلب ضعفا ووهنا، أشبه بالران الذي يعمي البصيرة.
وأشعة الأضواء أضعفت بصره.
والظلام الدامس حجب الرؤية.
وفجأة انقشعت ظلمة الليل فظن أنه الانفراج لكنه وجد نفسه أمام طرق كثيرة … ودروب متعددة.
عند كل طريق ألف داع وداع يحاولون استمالته بلغة الإيحاء والتنويم المغناطيسي.
عند كل طريق شعارات وإشارات تناديه بلسان الفتنة وتخاطبه بلغة الاغراء
فعجز عن تحديد الطريق الصحيح.
فاستسلم لواقعه المرير..
أما الأب فقد كان يمني النفس بوصول ابنه في يوم من الأيام إلى تلك القمة …ويتحرى شوقا إلى تلك القمة، لكن مع طول الانتظار.. ومرور السنوات بدأت تساوره الشكوك وتلعب بعقله الظنون، فوجد نفسه أمام مجموعة من الاحتمالات:
ربما اعترضت طريقه عقبة من العقبات…
ربما التقى برفقاء السوء فغيروا مساره…
ربما خدعه دعاة الفتنة، فأبعدوه عن المسار الصحيح…
ربما …. ربما ….
وتبين للأب أن ابنه قد ضل الطريق.
وفي لحظة لم يتملك فيها الأب نفسه، نادى ابنه بأعلى صوته:
يا بني ….
أخذ نفسا عميقا وأصاخ السمع، لعله يسمع صوت ابنه، لكن دون جدوى، فصوته كان أشبه بصرخة في واد سحيق.
لم ييأس، ولم يستسلم، وعاد ونادى بأعلى صوته:
يا بني …
أغمض عينيه بطريقة أشبه بمن يريد أن يقاوم الوساوس والمخاوف التي لاحت في أفق خياله.
وفجأة انتفض من مكانه انتفاضة المذعور.
صوت جهوري كسر الصمت من حوله وأيقظ القلوب الغافلة … من؟
إنه الأذان…
شعر بنوع من الرضا وهو يردد مع المؤذن ألفاظ الأذان، وتوضأ للصلاة … ونظر إلى الأفق البعيد وهو يقول:
إن لم تسمع ندائي يابني.
إن لم يصلك صوتي
فاعلم يقينا أن صوت الأذان الذي يخترق باطن الأرض حتى تهتز انقيادا وإذعانا لخالقها، ويهيج البحار حتى تسبح بحمد ربها، ويجعل كل من في السماوات والأرض يسجد للواحد القهار… صوت الأذان سوف يطرق قلبك ويوقظك من غفلتك حتى تعود إلى ربك …فيتبين لك الطريق الصحيح.
لقد وضعتم الهناء موضع النقب ، وكأني بكم تحكون قصتي وقصة كل أم وأب خارت قواه في معترك الأمواج وهو ينادي ياااااا بني اركب معنا ، فلا يسمع إلا هدير البحر …..فيتوجه إلى خالقها وخالقه :” رب إن ابني من اهلي “