حكمة القلب
بقلم: سيد عطوة
قال تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة: 269]
وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} [لقمان: 12]
وبين الله عز وجل منته على نبيه داود صلوات الله وسلامه عليه فقال تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص: 20]
وبين سبحانه منته على نبيه عيسى صلوات الله وسلامه عليه، فقال تعالى: {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [المائدة: 110]
وكذلك بين ربنا عز وجل منته على سيد الخلق وإمام المتقين محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113]
والحكمة ضرورة شرعية ولازمة دعوية وهبة ربانية، وهي مفتاح القلوب وسبيل النجاح والسداد في كل عمل، لأنها تعصم من السفه وتحفظ من الطيش وتنجي من العجلة، وكل من فقد الحكمة في قوله وعمله؛ حكم على نفسه بالفشل وعلى عمله بالضياع والفساد، ولن تثبت دعوة ولن يستقيم داعية إلا بالحكمة، وليست الحكمة قولا حسنا فحسب، بل هي قول وعمل وسلوك ومعاملة، ومن تحلى بها اجتذب القلوب إليه واستمال الأرواح والنفوس وضمن لنفسه أعظم مقوم من مقومات السداد والثبات في العلم والعمل والعبادة والدعوة البلاغ.
تعريف الحكمة:
الحكمة: هي الإصابة والسداد في القول والعمل، وقيل: هي قول ما ينبغي وفعل ما ينبغي في الوقت الذي ينبغي على الوجه الذي ينبغي.
قال الراغب الأصفهاني في المفردات: “الحكمة: إصابة الحق بالعلم والعقل”[1].
ويجمع معنى الحكمة أن يقال: “هي الإصابة في الأقوال والأعمال ووضع كل شيء في موضعه”[2].
والحكمة ليست لينا وصمتا؛ بل إنها تعني عدم استعمال الشدة في موطن اللين ورعاية حال المخاطب وطبيعته، إن بعض المواقف لا يكون علاجها إلا شدة رادعة وغضبا زاجرا واستعمال اللين في تلك المواقف يفسد ويدل على سفاهة وخفة في العقل، ومن شواهد استعمال الشدة قول النبي صل الله عليه وسلم لابن اللتبية لما أتاه بمال فقال: “هذا لكم وهذا أهدي إلي”.
فقال له رسول الله: “هلا جلست في بيت أبيك أو بيت أمك حتى تأتيك هديتك“[3].
ومن ذلك قول الصديق أبو بكر لعروة بن مسعود الثقفي في صلح الحديبية: “اذهب فامصص بظر اللات”[4].
وفي هذا الأخير جواز النطق بما يستبشع من الألفاظ لإرادة زجر من بدا منه ما يستحق به ذلك والمقصود أن الحكمة تعني أن تستعمل لكل موقف ما يناسبه.
أركان الحكمة:
للحكمة أركان تقوم عليها وأصول تنبني عليها، ولن تكون حكمة إلا إذا توفرت فيها تلك الأركان؛ هي: العلم، والحلم، والأناة.
أولها – العلم:
العلم ما قام به الدليل، والنافع منه ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، والمرء بدون علم متخبط في الضلال والسفه والانحراف والعمى، ومثل هذا لا يكون حكيما، ولهذا كان لابد من العلم قبل القول والعمل؛ لأن من قال بغير علم أخطأ وزل، ومن عمل بغير علم وقع في البدع والضلال بل والشركيات، قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد: 19]، العلم هو الذي يجعل العبد يميز بين الحق والباطل والسنة والبدعة والراجح والمرجوح والفاضل والمفضول وما حقه التقديم وما حقه التأخير.
قال سهل بن عبد الله: “من أراد النظر إلى مجالس الأنبياء فلينظر إلى مجالس العلماء”[5].
قال الحسن البصري: “العامل على غير علم كالسالك على غير طريق، والعامل على غير علم يفسد أكثر مما يصلح فاطلبوا العلم طلبا لا تضروا بالعبادة، واطلبوا العبادة طلبا لا تضروا بالعلم؛ فإن قوما طلبوا العبادة وتركوا العلم حتى خرجوا بأسيافهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم ولو طلبوا العلم لم يدلهم على ما فعلوا”[6].
قلت: ويقصد بذلك الخوارج، وفي هذا بيان أن العلم سلامة ونجاة من الوقوع في البدع.
ثانيها – الحلم:
والحلم هو العقل والسكون عند الغضب وربط النفس عند حصول مكروه وما يغضب المرء أو يؤذيه، والحليم هو الذي لا يستخفه شيء من عصيان العباد ولا يستفزه الغضب عليهم لأنه جعل لكل شيء مقدارا فهو منته إليه[7]، والحلم صفة يحبها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس: “إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة“[8].
والحلم يحتاج إلى مجاهدة النفس كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب“[9].
ومما يدفع الغضب عن النفس، ويحقق الحلم فيها: الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، والوضوء وتغيير الحالة التي عليها الغضبان بالجلوس أو الخروج أو غير ذلك، واستحضار ما ورد في فضل كظم الغيظ من الثواب.
ثالثها – الأناة:
وهي التثبيت والتبين في الأمور وعدم العجلة؛ وهي التصرف الحكيم بين العجلة والتباطؤ، ولقد ذم الإسلام الاستعجال ونهى عنه وكذلك ذم التباطؤ والكسل، ونهى عنه، قال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 16 – 19]
فأمر سبحانه نبيه بعدم العجلة ومسابقة الملك في قراءته، وتكفل الله له أن يجمعه في صدره وأن ييسره لأدائه على الوجه الذي ألقاه إليه وأن يبينه له ويفسره، وأمر سبحانه عباده المؤمنين بالتأني في الأمور والتثبت فيها، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6].
حاجتنا إلى الحكمة:
الحكمة من أعظم السبل للتوفيق والسداد، ومن أهم الأسباب للنجاح والتفوق والعز والارتقاء، ومن كان سعيه بغير حكمة فمآله إلى فشل ذريع، وتيه شديد ما أحوج الأمة في هذه الآونة أفرادا وجماعات إلى حكمة راشدة تعصم من الزلل، وتحفظ من الفساد والخلل، وتضمن للأمة خروجا من وهدة الذل ونهوضا من ورطة التبعية والانهزامية.
إن الواقع يموج بالعداءات المتكررة والإساءات البالغة لأصول الإسلام وقواعده، ولابد من رد رادع يقلم أظافر الوحوش البشرية التي خرجت قلوبها من تعظيم لله ودينه.
ولكن هذا الرد لابد أن يكون منضبطا بالحكمة، وأن يكون نابعا من نظرة شرعية لأهل العلم الربانيين؛ فليس العاقل من يعرف الخير من الشر، بل العاقل البصير من يعرف خير الخيرين ويعرف شر الشرين؛ إذ لا ينبغي أن تكون الانفعالات العامة خاضعة لحماس فوار أو ثورة غضب متأججة، وإنما لابد أن تضبط بحكمة العلماء الذين هم أعلم الناس بدين الله وأغير الناس له وأحرص الناس عليه، قال تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]
قال السعدي رحمه الله: “وفي هذا دليل لقاعدة أدبية وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يولى من هو أهل لذلك ويجعل إلى أهله ولا يتقدم بين أيديهم فإنه أقرب إلى الصواب وأحرى للسلامة من الخطأ”[10].
وقد قال الحسن البصري رحمه الله: “الفتنة إذا أقبلت عرفها كل عالم وإذا أدبرت عرفها كل جاهل”.
وكذلك فإن الحكمة سبيل لأمان البيوت المسلمة وأداة عظيمة للتربية والتقويم والإصلاح؛ فإن هناك من المواقف ما لا يناسبه إلا شدة، ومواقف أخرى لا يناسبها إلا صمت وسكوت، ومواطن ثالثة لا يناسبها إلا رفق شديد، والحكيم العاقل من يستعمل لكل موقف ما يناسبه، وكم من خلل وقع في الحياة بسبب إهمال ذلك الأصل وتعطيله، إن الشدة الدائمة تولد البغض والكراهية وتبعث على التفلت، كما أنها تثمر الجبن والهلع في جانب تربية الأولاد، وتولد الانفجار الأسري والتفكك العائلي، كما أن جانب الدين الدائم يفسد ويولد الجرأة والاستخفاف والضياع، وكم من أب تجرع مرارة العقوق وتلظى بناره بسبب التدليل واللين حتى استصعب الإصلاح، فكلا الجانبين مفسد والحكمة بينهما وذلك باستعمال اللين في موطنه والشدة في موطنها.
وعلى المستوى الدعوي فإن الدعوة تحيط بها الأخطار من اتجاهات متعددة ولابد أن يتولى قيادة أمرها حكيم مجرب على جانب كبير من الفقه والعلم، وإلا تورطت الدعوة في عراقيل تعوقها وركدت حركتها وتوقف سيرها وضعف تأثيرها والسبب قائد هلوع جزوع أو جاهل أهوج متسرع، والحكمة تكمن في ضمان سير الدعوة وتقدم العطاء الدعوي مع إزاحة العراقيل وتفادي المنزلقات مع التوكل والثقة والصبر واليقين.
وقد قيل:
لا تكن صلبا فتكسر ولا تكن لينا فتعصر
وقيل:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى
وهكذا الحال في كافة مجالات الحياة، لابد فيها من حكمة وتعقل وتبصر، والموفق من وفقه الله.
السبيل إلى الحكمة:
الحكمة فضل عظيم يختص الله بها من عباده من يشاء كما قال تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة: 269] وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} [لقمان: 12]
وقال تعالى عن نبيه داود صلوات الله وسلامه عليه: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص: 20]
فإذا كانت الحكمة محض فضل من الله فلا تطلب إلا منه، فمن أراد الحكمة فليكثر الدعاء وليدم عليه حتى يؤتيه الله إياها.
ومن سبل تحصيلها كذلك طلب العلم ومجالسة العلماء الربانيين والسماع منهم وعنهم فإذا حصل العلم حصلت الحكمة، وأحكم الناس وأبصر الخلق بالحقائق هم العلماء، ومن سار على دربهم نال بذلك بقدر ما حصل، فاطلب العلم بجد واحرص عليه فإن الحكمة معه وبه، فاللهم يا ربنا علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما.
ومن سبل تحصيلها كذلك النظر في سير السلف الصالحين والوقوف على أخبارهم ومواقفهم الحكيمة النبيلة من مثل تلك المواقف التي تقدمت منذ قليل، فإن مداومة القراءة عن السلف ومعايشة المشاهد الإيمانية التي كانوا عليها تثري القلب بالحكمة والحلم وتغرس فيه الاقتداء بهم، فاللهم يا ربنا آتنا الحكمة واجعلنا من أهلها.
[1] “المفردات في غريب القرآن” ص [127].
[2] “الحكمة في الدعوة إلى الله” ص [27] ط وقفية.
[3] رواه البخاري برقم [6979]، ومسلم برقم [1832].
[4] رواه البخاري برقم [2731]، والبظر: قطعة تبقى بعد الختان في فرج المرأة، واللات: صنم كان يعبده المشركون.
[5] “مفتاح دار السعادة” (1/186) ط التوفيقة.
[6] المصدر السابق (1/132).
[7] “النهاية” لابن الأثير (1/434) وليعلم أن هذا الفصل أخذت أكثر مادته من كتاب “الحكمة في الدعوة إلى الله” للشيخ سعيد القحطاني حفظه الله.
[8] رواه مسلم برقم [17].
[9] رواه البخاري برقم [6114]، ومسلم رقم [2608].
[10] “تفسير السعدي” [190].