حقوق المرأة المدنية
بقلم: الفقيه الزعيم علال الفاسي
كان عمر بن الخطاب يقول: “إنما تنقض عرا الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية”.
ومعنى هذا بالنسبة لموضوعنا أن الذي لا يتصور المعاملة التي كان أهل الجاهلية يعاملون بها المرأة؛ لا يمكنه أن يقدر قيمة الإصلاح الذي قام به الإسلام لتحسين حالة النساء وتمتيعهن بحقوقهن كاملة غير منقوصة.
والواقع أن حقوق المرأة المسلمة المدنية تفوق حقوق كل امرأة في مختلف القوانين والحضارات القديمة والمحدثة.
والمراد بالحقوق المدنية ما يشمل حق التملك والتدبير والتصرف وتكوين العلاقات في المسائل العامة وما إلى ذلك كله.
وقد تطور حال المرأة في التاريخ بالنسبة لهذه الناحية تطورا عديدا كان آخر أمره أن ظفرت المرأة بقسط من المساواة مع الرجل في كثير من جوانب الحياة.
ولكن هذا الإصلاح لم يظهر في شريعة الرومان أو اليونان أو المسيحية أو اليهودية.
وإنما ظهر بفضل الإسلام الذي أنكر على الأمم كلها سوء معاملتها للمرأة وظلمها.
1-كمال أهلية المرأة:
وهكذا أعلن أن المرأة مخاطبة بالشريعة وبالدين كالرجل، وإنها قادرة على أن ترتفع لأعلى درجات السمو الروحي والقرب من الله، كما أنها قادرة أن تلعب أدوارا كبيرة في الحياة العامة مثلما يلعبها أخوها.
نعم إن الإسلام حاول أن يوزع المسؤولية بين الرجل والمرأة، ويخصص لكل واحد منهما ناحية من نواحي العمل الجديرة به، ولكنه لم يمنع المرأة من أي عمل تختاره لنفسها إذا لم يتناف مع أصول الشريعة وقواعدها.
وقد احتفظ للمرأة قبل كل شيء بشخصيتها؛ فجعل اسمها بعد الزواج لا يتغير باسم زوجها، ولم يجعل للزواج علاقة بقضية الشركات المالية أو غيرها مما تنبني عليه القوانين الوضعية كالقانون الفرنسي الذي يعتبر الزواج الاشتراكي أصلا في كل زواج، بل أعطاها حق التصرف فيما ملكته أو تملكه تصرفا لا يحده إلا ما تقتضيه قواعد الرشد العامة للجميع.
2-تولي الوظائف والشؤون العامة:
وقد خول الإسلام للمرأة الحق في أن تتولى كثيرا من الوظائف والشؤون العامة باستثناء الإمامة الكبرى والقضاء عند المالكية، وخول لها أن تشارك في الاجتهاد والتقنين، وتبدي رأيها في كل مشاكل المجتمع والبلاد.
وفي مقابل هذه الحقوق فرض الإسلام على المرأة أن تقوم بالواجبات التي يقوم بها الرجل؛ فهي مسؤولة عما تجنيه لا فرق بين ما تستوجبه من عقاب وبين ما يستوجبه الرجل.
وهي ملزمة بفروض عينية وأخرى كفائية كأخيها سواء بسواء.
ونحن لا نريد أن نطيل القول في هذه الناحية التي يعرفها كل من له اطلاع على أصول الإسلام ومقاصده، وإنما أشرنا إليها لنقابل بينها وبين الحالة التي عليها المرأة المسلمة في المغرب اليوم، وبما نطالب به لها من حقوق.
إن الانحطاط الذي أصاب المغرب والعالم الإسلامي رجع بالمرأة إلى الدرجة القصوى من التأخر حتى أصبحت مجرد متعة يتلهى بها.
ومع ذلك فقد ظلت الشريعة الإسلامية حارسة لحقوقها من الوجهة النظرية، إلا أن المجتمع المنحط كان يقف عرقلة في طريق كل تطبيق للشريعة نفسها، كما أن جهل المرأة والجو الذي وضعت فيه أولا ثم رضيت به ثانيا عاقها عن كل تطور في صالحها أو دفاع عن مكانها.
وهكذا أصبحت المرأة المغربية عرضة للتآمر من جميع الطبقات لحرمانها عن طريق الاحتيال من أبسط ما أعطته الشريعة لها، فلم يعد من الممكن للبنت في أغلب العائلات الكبيرة أن تأخذ قسطها من الميراث كاملا، لأن رجال الأسرة يحتالون عليها بطريقة الوصاية أو الوقف على الذكور دون الإناث، كل ذلك لكيلا تتوزع الثروة وتنتقل من أسرة صاحبها إلى أسرة أصهارها مثلا.
وقد تنبه كثير من الفقهاء لفساد هذه الوصايا التي تقضي المصلحة بمعاملة ذويها بنقيض قصدهم، ولذلك نرى أنه من الضروري وضع عمل يقرر المساواة في كل الوصايا، أي عدم اعتبار أية وصية تختص بالذكور دون الإناث إن كن مساويات للرجال في سبب الوصية للتهمة القائمة على أصحابها بمنع تسرب ثروتهم ليد المتزوجين ببناتهم.
وقد اختير في الأعمال الجارية أضيق الأقوال وأصعبها على المرأة، وهكذا أخذ مثلا بقول الإمام مالك في منع المرأة من التبرع بما زاد على الثلث إذا لم يكن بإذن زوجها، مع أن مذاهب أخرى تقول بغير ذلك.
ونحن نرى أن يعمل بغير ما مضى عليه الإمام مالك في هذه المسألة، لأنه الأوفق والأنسب لما تقتضيه روح المساواة السائدة في هذا العصر.
ولقد أصبح النساء يطاردن من المساجد والمجتمعات الدينية بدعوى أن وجودهن يؤدي للاختلاط المريب، مع أن الشريعة تخاطب المرأة بالصلاة في المسجد كما تخاطب الرجال، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: “النساء شقائق الرجال في الأحكام”.
ويقول: “لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وليخرجن وهن تفلان”.
وهكذا لم يعد للمرأة بحكم الجمود المصطنع أي مظهر ديني يحاكي المظاهر الدينية الموجودة عند الملل الأخرى.
وبذلك حرمت الطائفة الإسلامية من أثر المرأة، وأصبح تطور القواعد الدينية نفسها يقوم طبقا لمجتمع غير شامل لأفراده، لأنه لا ينظر إلا للرجال وحدهم كأنهم الكائن الإسلامي الفريد، وكانت النتيجة الحتمية لهذه الحالة أن المرأة المسلمة أصبحت تبحث لها عن ميدان آخر لبذل نشاطها الديني والاجتماعي، والتمتع بحظها في مظاهرها، فاخترعت ذلك العالم الغريب المملوء بالجنون والعفاريت والبخور والعقاقير والسحر والكهانة والرقص الديني والبحث عن الحظ، وغير ذلك مما يشغل بال المرأة المسلمة اليوم، وكأنه الدين الحقيقي الذي تؤمن به وتخضع مبدئيا لتعاليمه.
وبما أن للمرأة سلطانا على الرجل في طفولته وفي شبابه؛ فقد أخذت هي تتحكم في تقاليده وعاداته، وتجعل من أفكارها المستجدة ما يغطي تعاليم الدين التي يتعلمها الرجل في المسجد أو المدرسة، وما يعفي عنده عن كل أثر للتحرر العقلي والتفتح النفسي.
تلك هي المصيبة التي أدى إليها قصر التربية على الرجل دون المرأة.
وتكوين حياة نسوية منفصلة عن حياة الرجال، وهي مصيبة لا يمكن التخلص منها إلا بتغير الوضعية الحالية وإعطاء المرأة حقها في كل الميادين الدينية والدنيوية والاجتماعية والاقتصادية.
3-المساواة:
يجب أن تتمتع المرأة بما يتمتع به الرجل من حقوق، وأن تقوم بما يقوم به الرجل من واجبات.
ولكي تستطيع ذلك يجب أن يفسح لها المجال، وتعد للقدرة على أداء ما يطلب منها.
ولكن قبل ذلك يجب أن يتحرر الرجال أنفسهم من روح الجمود العتيق الذي جعلهم يفضلون التقاليد على الدين نفسه، ويعتبرون المرأة مجرد قنية للذة والاستمتاع ليس إلا …
إن من حق المرأة أن تتساوى مع الرجل المساواة التي لا تتنافى مع طبائع الأشياء؛ ولذلك يمكنها أن تشارك في الصالح العام بالخدمة والفكر والإرشاد.
ويمكنها أن تشغل مركز العمل الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في الجماعة وفي الدولة، وما يدعيه الناس نقصا في المرأة عن مستوى القدرة الموجودة عند الرجل فليس إلا من آثار ما صنعته أجيال الاضطهاد وعصور الانحطاط.
وإن المرأة لقادرة وإن تركت وشأنها أن تصل للقيام بجلائل الأعمال ومهمات الأمور.
ومتى اعترف للنساء بحقوقهن فليس من مانع من اتباع التوجيهات اللائقة بحسب ما تقتضيه درجة التطور عندهن ومقاييس النظرة الاجتماعية في الوسط الإنساني.
إن المؤسف في بلادنا هو أن الاتجاه لا يقع إلا للفساد، وأن الجمود لا يميل إلا لرفض ما هو صالح.
أما ما لا يتفق مع كرامة المرأة من بغاء وما إليه، ومن تعريضها لأن تمتهن بأنواع الكسب غير البريئة؛ فذلك ما لا يجد من المعارضة العامة ما يجده البحث عن الحلول لرفع مستوى المرأة وفسح المجال لها لتكون مثال الفضيلة وعنوان الجد والنشاط.
ولكننا واثقون من أن ذوي الفكر المخلص من الرجال والنساء سيتظافرون لا محالة على العمل الجدي لتحرير المرأة من القيود الثقيلة التي تقيدها بها الأهواء والتقاليد البالية، وإعدادها للقيام بواجبها ككائن إنساني له مركزه المرموق وصوته المسموع.
وإني لأعتقد أنه لا حياة لأمتنا ولا لأمة على وجه الأرض ما دامت المرأة محرومة من حقوقها وممنوعة من أداء واجبها، وإن كل نهضة لا تعير الالتفات إلا لجانب الرجال لهي نكسة لا توصل للخير أبدا.
إن الأفكار تشق طريقها، ولكن الطريق لا تسير دائما نحو الشاطئ المنشود؛ ولذلك فمن صالحنا وخير أمتنا أن نسبق الحوادث وأن نوجه سير المرأة في الناحية التي تقتضيها الحكمة ويفرضها العدل وتؤدي إلى الحرية”اهـ.
_______________________________________
المرجع:
علال الفاسي؛ كتاب “النقد الذاتي” (ص: 299- 303).