بين “بيلو” والدعسوقة
“يا حماة الإسلام و حراس العقيدة”، هكذا كان الشيخ كشك رحمه الله دوما يفتتح خطبه الشهيرة. ظلت تلك الجملة ترن في أذني .. اليوم أريد أن أنادي في الناس: يا حماة الاسلام وحراس العقيدة، كونوا حراسا للغة هي الأخرى.
إذ ان كلاهما بات في خطر داهم .. حسنا لن أتحدث هنا عن المأزق الذي تواجهه لغتنا العربية في بلادها الأصلية حيث أني غادرت موطني منذ ما يربوا على الخمسة عشر عاما.
أريد هنا أن أتناول مأساة اندثار اللغة بين متكلميها ممن يهاجرون إلى أوروبا والأمريكتين وبخاصة كندا حيث أعيش.
من أين أبدأ؟ ربما من ذلك اليوم المطير في ضاحية “أمستلفين”،تلك الضحية الهادئة في أمستردام عاصمة هولندا مع “بيلو” ذلك الطفل جميل القسمات ذو البسمة المضيئة والشعر الأسود الحالك ، كنت أتطوع للمساعدة في مدرسة أولادي الذين انضموا إليها حديثا.
ولما كنت لا أدري ماذا يفعل الأولاد في المدرسة ولا ماذا يدرسون؟
وكنت دائمة الشعور بالقلق عليهم فقد انتهزت فرصة اعلان المدرسة عن طلب متطوعين و تقدمت إلى إدارة المدرسة كي اساعدهم في فترة الغداء حيث يخرج الطلاب إلى الفناء، وتريد المعلمات قسطا من الراحة، وبرغم هولنديتي المتعثرة، فقد قبلوني.
نعود إلى “بيلو” ذلك الطفل الذي لا يكد يهدأ، يبدو إنه ولد هنا لأنه يتكلم مع أقرانه بلغة هولندية ممتازة، وقد كان من حظي وجود إثنين من الأولاد يتقنون الانجليزية, فكنت التمس مساعدتهم إذا فشلت في التفاهم مع باقي الأولاد..كنت أقضي بعض الوقت داخل الفصل حيث يتناول الأولاد غداءهم، ثم اصطحبهم للخارج أراقب لعبهم وحين تصفر المعلمات ايذانا بانتهاء فترة اللعب، اجمعهم وأعود بهم إلى الداخل.
سلموني لائحة الأسماء، فكنت أنادي على كل باسمه حتى أتأكد أني لم افقد احدهم،لم أجد إسم “بيلو ” ، أعدت النظر في الورقة مرارا وتكرارا، ومطابقة الأسماء مع الأولاد والبنات، واكتشفت إن هناك إسم “بلال”..هز أحد الولدين الذين يساعداني رأسه قائلا: “إسمه بلال، لكن الجميع ينادونه بيلو!” في المرة التي تليها، اتجهت إلى الولد وناديته:” بلال، تعال هنا “، صوب الولد النظر إلي ورد ضاحكا وهو يشير إلى نفسه، “أنا بيلو..لست بلال”.
يا الله كم شعرت بالخوف يومها، الخوف والمهانة والذل..! هذا الموقف جعلني كأم أدرك حجم المسؤلية الملقاة على عاتقي وبدون اي تردد، بدأت في تدريس أولادي اللغة الفصحى وتحفيظهم القرآن، بدون حاسوب وبدون مواقع إلكترونية ولا هواتف ذكية، فقط كان هناك برنامج أردني يذاع على قناة عربية وحيدة يأتينا بثها، ادين له بالفضل في مساعدتي.
مكثنا هناك أربع سنوات وعدنا ولغة أولادي مماثلة لأقرانهم في بلدنا مصر، ثم شاءت الظروف أن ننتقل بعدها بسنوات إلى كندا، حيث أعيش الان.
في الشهر الأول من قدومي وعلى باب المسجد, تجمع الأولاد الذين يسكنون في الحي من ذوي الأصول الأسيوية بلباسهم التقليدي المميز ينتظرون درس القرآن، طفلة في التاسعة من عمرها، سمراء حالمة كأميرات قصص “كامل كيلاني” المترجمة عن الهندية، يسترسل شعرها الناعم على وجهها وظهرها تحت غطاء رأس شفاف، نظرت لي وقالت: “أنت من بلد عربي”؟ أومأت بابتسامة” نعم” ،” هل تتحدثين العربية” قلت “بالتأكيد!”، ” هل تستطيعين قراءة القرآن وفهمه إذن؟” بدا لي السؤال غير منطقي لكنني قلت “بالطبع استطيع”..نظرت الطفلة إلي وكأنما تشاهد عملاقا من عالم الأساطير قائلة: “حلم حياتي أن أتمكن من قراءة العربية يوما ما وأن أفهم ما تعنيه الآيات التي نقرأها” تركت الطفلة وانا أتأمل الكنز الذي ورثته بلا تعب وكلي عزيمة أن أحافظ عليه وأنقله إلى أولادي ..
دعوني أعرض عليكم مأساة العربية كما عاصرتها على مدار السنوات الطويلة التي عشت فيها هنا، ودرست في بعض مدارس نهاية الأسبوع إلى جانب عملي كاستشارية توظيف مع الأسر المهاجرة.
ما إن تمر أربع أو خمس سنوات على قدوم غالبية العائلات هنا ، حتى تصبح لغة الأولاد صغارا وكبارا داخل المنزل، هي الإنجليزية..
أما إذا اجتمعت الأسر وانتحى الكبار جانبا وتجمع الصغار يلعبون، فإنك قد لا تسمع من العربية إلا أسماء أصناف الطعام الذي عادة ما يكون مصاحبا لهذه التجمعات، وما قصدت بالعربية هنا الفصحى، كلا، أنا اتحدث عن اللهجات المحلية الخاصة بكل بلد، فحتى هذه اللهجات صار من الصعب على الكثير من الأولاد التحدث بها..
أما الأهل فهم ما بين مستسلم أو مقاوم، البعض من الأهالي يظن أنه يؤدي دوره باصطحاب الأولاد إلى مدارس نهاية الأسبوع بينما الحقيقة أن هذه المدارس وحدها لن تنشئ اللغة في نفوس من فقدوها.. ربما يتعلم الأولاد الذين فقدوا لغتهم بعض القرآن، ويستطيعون قراءته بلغة متكسرة حروفها، لكن لن تعيدهم هذه الساعات البسيطة كل أسبوع إلى مصاف متحدثي اللغة العربية إلا إن كان البيت نفسه يبذل جهدا كبيرا بالتوازي مع المدرسة.
يكبر الأولاد وتأتي المرحلة الجامعية وتتوقف مدرسة نهاية الأسبوع، ومع سن الزواج يبدأ جيل جديد قد يفهم اللهجة المحلية، لكنه لا يسطيع مواصلة التحدث بها كثيرا، يستمع إلى القرآن لكن كي يفهمه، لابد من ترجمة إنجليزية له، يسمع دروس الدين بالانجليزية ، يتكلم في البيت مع شريك أو شريكة الحياة بالانجليزية عدا بعد الألفاظ البسيطة وينجب أولاد غالبا ستكون لغتهم الأولى هي الإنجليزية .
هكذا ضاعت اللغة في في جيلين تقريبا وفترة قد لا تزيد عن عشرين عاما مثلا، فما بالكم بالأجيال التي ستلي هذا الجيل؟
لكل ما قلته بالطبع إستثناءات، فلقد رأيت أطفالا ولدوا هنا يتحدثون العامية والفصحى ببراعة، وراءهم أم وأب متفقان على الحفاظ على ذلك الكنز، ورأيت أيضا عائلة بأكملها تتحدث الفصحى حتى وجدتني بالكاد أجاري فتاتهم التي تدرس في المرحلة الثانوية، وأبحث في رأسي عن الكلمات وأنا التي أزعم أن لدي لغة جيدة..كل ما ذكرته موجود وربما أكثر، لكنه ليس القاعدة العامة التي أنا بشأن التحدث عنها اليوم.
فأين تكمن المشكلة وما هو الحل؟
دعوني اطرح بعض الأسباب التي لمستها من وجهة نظري: تكمن المشكلة عندما تقرر الأم أو الأب أن الحفاظ على اللغة ليس على رأس أولوياتهما حال قدوم العائلة هنا،بعض الآباء والأمهات قدموا بلغة إنجليزية ضعيفة فهم يرون الأولاد عونا لهم على اكتشاف البلد الجديد ذلك أن الأولاد يتمكنون من اللغة بسرعة أكبر من الأهل، رأيت حالات تذهب الأم للطبيب ومعها طفلة في المرحة الابتدائية ويقع عاتق الترجمة على الطفلة، طبعا في مثل تلك الحالات، يختل ميزان القوة في المنزل جراء إحساس الصغير أنه أفضل من والديه واقوى منهما لكن ذلك ليس حديثنا اليوم، المهم أن تلك الأسر يصبح تعليم الأولاد الانجليزية هو شاغلهم الشاغل وتتوارى العربية في الظل، أسر أخرى يشعر فيها الأب أو الأم بالإحساس بالنقص لسبب ما، قد يعود إلى ما قبل قدومه إلى كندا، هذه الأسر تجد في تفوق الأولاد في اللغة الانجليزية وتحدثهم بها أمام الأخرين تعويضا عن ذلك النقص. في أسر أخرى تصبح متابعة اللغة العربية في غير أولويات الأم , ربما لأنها مشغولة مع أطفال رضع، أو لأنها تدرس أو لأنها وجدت عملا أو لأنها ببساطة لا تدري قيمة ذلك الكنز الذي لا يزال موجودا في صدور الصغار..
وقد خصصت الأم بالكثير من الحديث هنا باعتبار أنها القادرة أكثر من الأب على الحفاظ على اللغة بحكم أنها تمضي وقت أطول مع الصغار وهي المشرفة عليهم في جل شؤنهم واحتياجاتهم.
تبدأ العائلة في الاندماج هنا ويشهد الأطفال قنوات الأطفال الكندية وبها الرسوم المتحركة الناطقة بالانجليزية، وفيها مافيها من تسرب لعادات سيئة والمشاهد التي قد تكون غير ملائمة لكن هذا ليس ما اركز عليه في هذه المقالة
بالمقابل: رأيت الاهتمام باللغة العربية يتزايد بين الجاليات المسلمة من غير الناطقين بالعربية وأوضح مثال هنا هي الجاليات الباكستانية والهندية حيث تحرص بعض العائلات على تعليم اولادهم الفصحى قبل أو بعد تحفيظهم القرآن، لا أستطيع القول أن هذا أصبح غالبا، لكنه سعي محمود منهم يضعنا كعرب أمام حقيقة مفجعة ألا وهي أننا أهملنا لغتنا الأم وأن من يقول بصعوبة تعليم اللغة والمحافظة عليها هنا، هم أشخاص على أقل تقدير لم يبذلوا جهدا كافيا أو هم يتنصلون من واجبهم وأمانتهم.
بعد طرح أسباب إضمحلال اللغة العربية بين الناطقين بها في المهجر، حسب وجهة نظري المتواضعة، لابد من تقديم بعض الحلول والاستراتيجيات :
*إلى الأم والأب : إرساء قاعدة أن الحديث في البيت سيكون بالعربية فقط ” اللهجة المحلية” ويكون هناك ساعتين على الأقل أسبوعيا لقراءة القصص بالفصحى أو مشاهدة أفلام الرسوم المتحركة المدبلجة.
*حفظ القرآن من أهم العوامل التي تساعد على تثبيت اللغة، ويا حبذا لو ترافق مع الحفظ تفسير الآيات.
*مدرسة نهاية الأسبوع: إلحاق الطفل بهذه المدارس ضروري للحفاظ على صحبة مسلمة حول الطفل، وعلى الأهل التحري عن أفضلها ومعرفة نشاطاتها ورؤية الكتب التي سيدرسها الأولاد، ثم على الأهل بعد ذلك ألا يركنوا إلى جهد المعلمات،، فبدون هذه المتابعة المستمرة وحث الأولاد على الأنخراط في النشاطات المتعدة التي تقدمها هذه المدارس، وبدون حل الواجبات الاسبوعية، بدون كل هذا ستكون المدرسة مكانا مملا للصغار أو ما يشبه دار حضانة, يترك الأهل فيها اولادهم ويذهبون للتسوق بحرية يوم العطلة!
*عامل اللغة كما تعامل الرياضة الأسبوعية التي يذهب طفلك إليها، تخرجه في البرد والحر وتقود السيارة معه ربما ساعات كي يحضر تمرين أو مباراة، ثم تتقاعس مثلا عن الذهاب إلى محفظ القرآن، أو درس اللغة العربية، فما هي الرسالة التي تصل إلى الطفل؟ بالتأكيد تصله رسالة سلبية.
*لا تثقل الطفل طوال الأسبوع بالرياضات البدنية فيصل إلى نهاية الأسبوع متعبا يود الراحة ، لكنه عوضا عن ذلك تأخذه رغما عنه إلى مدرسة السبت أو الأحد، يصل الطفل مجهدا يفتح عينيه بصعوبة، يكره معلمته ويكره الدين واللغة..فماذا كسبت؟ ميداليات وبطولات ودورات أخذها الطفل، لكن هل كانت كلها ضرورية؟ هل يود الطفل كل هذا الكم من الألعاب والرياضة؟ أم أن هذه امنياتك أنت التي لم تحققها في شبابك؟ أم أنك تتباهى بتفوقه الرياضي أمام أقرانك؟ ويجب ألا يفهم من حديثي أنني ضد الرياضة البدنية، أنا فقط ضد أن تكون هي الشاغل الأول في حياة الطفل، فقط أدعو إلى تقنينها بما يناسب كل طفل وأيضا جنسه، فالسباحة مثلا للبنات وربما الأولاد أيضا بعد سن البلوغ قد تتنافى مع قواعد الدين،وهكذا.
*قوموا بمشاهدة أحد مسلسلات الرسوم المتحركة التي تنتقوها حسب معاييركم الشخصية، شاهدوها جنبا إلى جنب مع أولادكم وفسروا لهم معاني الكلمات التي لا توجد في لهجتكم المحلة، على سبيل المثال: القفاز، المعطف الجوارب، القبو، الحاسوب وهكذا
* القيام بإعادة تمثيل بعض الأدوار من مسلسل محبب إلى الأولاد:، بحيث تتكلم العائلة كلها الفصحى لبضع دقائق، قوموا بتحديد دور أو شخصية ما لكل فرد، متلا يقوم الأب من النوم فيبادر ابنه قائلا “صباح الخير يا …كيف حالك؟”
وهكذا. أذكر أن هذه اللعبة كانت ناجحة ومحببة إلى قلوب أولادي حتى بعد أن كبروا وصاروا في المرحلة الثانوية، من الممكن أيضا تحديد وقت ما ولكن خمس دقائق وعلى الجميع التحدث بالفصحى فقط،و من يخطئ في كلمة أو جملة يقوم مثلا بتنظيف الطاولة بعد الغداء شريطة أن يلتزم الأم والأب بهذا أمام الأولاد.
آخر شيء سأذكره وهو الذي دفعني إلى كتابة هذه المقالة، كنت في زيارة لإحدى صديقاتي ومرت حفيدتها الصغيرة ذات العامين، قالت لي صديقتي أن ابنتها تعلم الطفلة كلمات الفصحى منذ هذا العمر، وتوجهت صديقتي للحفيدة قائلة، “حبيبتي ماذا نسمي حشرة( ladybird )”؟؟ وبصوت ناعم وحروف صحيحة، أجابت الطفلة ” دعسوقة”.
أخذت الصغيرة بين أحضاني وأنا فرحة وكتبت لأمها في المساء أهنئها على ما تفعله.
أشعر أن حياتي ارتبطت بشكل ما باللغة العربية، فما أن يتطرق الكلام في مجموعات النساء إلى هذا الموضوع إلا وجدتني مدافعة شرسة عنها، وإن قالت احداهن مثلا، أن اللغة صارت غير مهمة لنا حيث أننا نعيش في الغرب، أو قللت أخرى من شأن الفصحى، أشعر وكأن أحدا من عائلتي قد تمت اهانته، وانبري أعدد لها الدراسات العلمية التي تحفز الأباء على تعليم أولادهم أكثر من لغة في الصغر، ودراسات أخرى تؤكد على تعريف الصغار بمعنى كل كلمة في لغتهم الأصلية قبل تعلمها بأي لغة أخرى، وكأنما نصبت نفسي حارسة على قلعة الفصحى. أتمنى من الله أن يضعني على ذلك الثغر المهجور هنا في بلد المهجر، وأن أكون يوما ما، سببا في حفظ كنزنا الغالي، لغة الضاد التي اختارها الله سبحانه وتعالي لآخر كتاب سماوي يتلى في الأرض.