الصدق سبيل النجاة
بقلم: أحمد سحنون
روى الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق و يتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا“.
إن من أشرف الخصال التي يتحلى بها الانسان وتضمن له السعادة والاستقرار وتحقق له العيش الرغيد والفوز والنجاح في هذه الحياة الصدق في الأقوال والأفعال.
وقد اعتبر الصدق ̶منذ قديم الزمن ̶ أساسا من أسس الفضائل والمكارم التي ينبني عليها كل مجتمع سليم لأنه يكفل الطمأنينة و الاستقرار و يضمن الثقة و التعاون بين الأفراد والجماعات ومافقد الصدق من مجتمع إلا حل محله الكذب وعدمت فيه الثقة وفقد التعاون بين أفراده ولهذا وجب أن يعتنى به اعتناء كبيرا و يدرب الأطفال عليه منذ صغرهم سواء في البيت أو المدرسة أو المجتمع فيربون عليه من طرف آبائهم وأمهاتهم ومعلميهم وأساتذتهم ومن المرشدين والمصلحين من أمتهم حتى يتعودوا عليه و يصبح غريزة في نفوسهم وطبيعة في سلوكهم ومعاملاتهم لأنه ضرورة من ضرورات المجتمع يحصل منه الخير الكثير للأفراد والمجتمعات وهو أيضا من مكارم الأخلاق التي جاء بها الإسلام وحث عليها الرسول عليه السلام.
وقد أمر الله تعالى عباده المؤمنين بالتخلق به فقال جل من قائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]
وأثنى على المتصفين به فقال تعالى: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23]
وحث عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “عليكم بالصدق”.
أي تخلقوا بفضيلة الصدق وتعاملوا به في كل شؤونكم ولا تحيدوا عنه “فان الصدق يهدي إلى البر”؛ أي يرشد إلى العمل الصالح الخالص في كل الأمور “والبر يهدي إلى الجنة”؛ أي يوصل إليها والجنة هي أسمى غايات المسلم وأقصى أمانيه وإذا كان كذلك فينبغي للمسلم أن يسلك طريق الصدق لأنه طريق الجنة “ومازال الرجل يصدق و يتحرى الصدق” أي يلازمه في أقواله وأفعاله حتى يصير سجية له وطبيعة وخلقا وبذلك يستحق أن يوصف بمنزلة الصديقين وثوابهم.
والصدق أنواع: ومن أشرف أنواعه الأمانة وهي من أرفع الخصال التي يتصف بها الإنسان ومن أقوى الدعائم التي يقوم عليها كل مجتمع سليم يريد الخير والنجاح ومافقدت الأمانة من مجتمع إلا وحلت محلها الخيانة وانعدمت فيه الثقة وأصابه الفساد والانحلال ولهذا اعتبرها القرآن الكريم من صفات المؤمنين فقال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون: 8]
ومن أنواعه أيضا صدق الوعد: فإذا ما وعد الانسان بوعد وجب عليه الوفاء به والمحافظة عليه لأن الوفاء بالوعد من أسباب النجاح في الحياة ومن أشرف الخصال التي يتحلى بها الانسان وقد مدح الله تعالى نبيه اسماعيل عليه السلام بصدق الوعد فقال جل من قائل: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [مريم: 54]
وإذا كان الصدق من أشرف الخصال وأحسن الفضائل التي يبنى عليها المجتمع فإن الكذب من أقبح الخصال وأخس الرذائل التي يتصدع بها بنيان المجتمع ويختل أمره وصاحبه يسقط من عيون الناس فلا يصدقونه في قول ولا يثقون به في عمل لأنه إذا اشتهر بينهم بالكذب فلا يصدقونه ولو أخبر بالصدق في بعض الأحيان.
ولهذا وجب تربية الطفل وتنشئته على الصدق منذ صغره وتحذيره من الكذب ونهيه عنه وبيان مساوئه وعيوبه له حتى ينشأ نشأة صالحة متعودا على الصدق مبتعدا عن الكذب متجنبا لجميع مظاهره وأسبابه.
ومع الأسف الشديد أن كثيرا من الآباء يدربون أطفالهم على الكذب دون أن يشعروا بذلك حيث يكذب الزوج على زوجته أوالمرأة على زوجها بحضور أبنائهم وعلى مسمع منهم أو يطلبون منهم الكذب لإخفاء شيء شاهدوه أو سمعوه فيتعودون على الكذب ويصبح غريزة فيهم و الطفل وما عودته.
وكما يقع هذا في البيت يقع في المدرسة فإن بعض المعلمين قد يضطرون للكذب على المدير أو المفتش أمام التلاميذ أو يطلبون منهم أن يجيبوا بغير الواقع إذا سئلوا عن حادثة وقعت أوخطأ ارتكب فيتعود الأطفال على الكذب ويعتبرونه وسيلة من وسائل التخلص من أداء الواجبات واستحقاق العقوبات.
فالواجب على المعلم -وهو المربي- أن لا يتحدث أمام تلاميذه إلا بالصدق وأن يحثهم عليه ويعاقبهم على الكذب إذا صدر منهم حتى يتعودوا في جميع أقوالهم وأفعالهم على الصدق.
والمجتمع لا يمكن أن يكون سليما ومنسجما إلا إذا فشا الصدق بين أفراده لأن أكثر الناس هم أصحاب حرف و صناعات أو أصحاب تجارة وكل منهم محتاج في بيعه وشرائه وعمله إلى ثقة الناس به ليكسب مودتهم وتروج سلعته وإنتاجه بينهم فتزدهر بذلك الصناعات وتكثر الخيرات.
ولما للكذب من أضرار خطيرة كتب الله الضلالة على الكاذبين فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر: 28]
وجعله مطرودا من رحمته فقال تعالى: {فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61]
وتوعد سبحانه الكاذبين بالعذاب الأليم يوم القيامة فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل: 116، 117]
كما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “إياكم والكذب” أي احذروا الكذب ولا تقربوه وابتعدوا عنه ابتعادكم عن كل عمل قبيح “فإن الكذب يهدي الى الفجور”
أي يوصل إلى الأعمال السيئة لأن أصل الفجور الميل عن الاستقامة أوالانبعاث في المعاصي “وإن الفجور يهدي إلى النار” أي يوصل إليها لأن المعاصي يقود بعضها إلى بعض وهي سبب الورود إلى النار -والنار من شر ما يخافه المسلم و يتقيه-
“وما يزال الرجل يكذب و يتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا”؛ أي يحكم له بتحقيق مبالغة الكذب منه وأنه الصفة المميزة له فيستحق الوصف بصفة الكاذبين وعقابهم.
مع أن المومن لا يكون كذابا كما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام مالك رضي الله عنه عن صفوان بن سليم رضي الله عنه قال: “قلنا يا رسول الله أيكون المؤمن جبانا؟ قال نعم، قلنا أفيكون بخيلا؟ قال نعم، أفيكون كذابا؟ قال لا“.
والكذب أنواع أيضا: ومن شر أنواعه الخيانة التي هي ضد الأمانة.
وما انتشرت الخيانة في أمة إلا وانعدمت فيها الطمأنينة وحل بها الخراب لأن خيانة الفرد الواحد ينتقل ضررها مباشرة إلى سائر أفراد المجتمع ولهذا نهى الله المؤمنين عنها فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27]
ومن أنواعه أيضا خلف الوعد الذي يترتب عليه تضييع وقت الغير سدى ويدل أن صاحبه لا شخصية له ولا يحترم نفسه لأنه لا يحترم الغير وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم خلف الوعد من صفات المنافقين حيث قال عليه السلام: “آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان“.
ومن أنواعه أيضا شهادة الزور والنميمة والبهتان وكلها من الخصال المذمومة التي نهى عنها القرآن وحذر منها النبي عليه السلام ومن الكذب أيضا أن يختلق الإنسان أشياء ويحدث الناس بها ليضحكهم فقد روى أبو داوود والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ويل للذي يحدث بالحديث ليضحك منه القوم ويل له ويل له“.
وأخرج الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:”يكون في آخر أمتي أناس دجالون كذابون يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم لا يضلونكم و لا يفتنونكم“.
إلى غير ذلك من الآثار التي وردت في النهي عن الكذب وذم أصحابه.