التوكل على الله: جوهر العبادة وخالص التوحيد
التوكل على الله هو القوة الإيمانية التي يحتاجها المؤمن في هذه الحياة لمواجهة المصائب التي قد يتعرض لها وتخطي العقبات التي تعترض طريقه وأداء المهمات التي تقع على عاتقه.
ولا يرزق هذه القوة إلا من أناب إلى الله وجعل التوبة النصوح هي الميثاق والعهد الذي يجدد به علاقته بالله عز وجل, ثم وطن نفسه على الثقة في الله, لأنه هو الخالق المدبر لهذا الكون, والقوي الذي لا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض .
وما أكثر الناس الذين يدعون أنهم يتوكلون على الله , إلا أن واقعهم يكذب هذا الإدعاء , خصوصا عندما نراهم واثقين من أنفسهم , مغرورين بما لديهم من إمكانيات.
ولعل سبب هذا الإدعاء الخاطئ هو عدم إدراكهم حقيقة التوكل وعدم معرفة دوافعه التي تدل على أن هذا الإنسان سيظل فقيرا إلى ربه وخالقه ومدبر أمره.
إن الآيات التي تناولت موضوع التوكل كثيرة , فبعض الآيات بينت قيمة هذه العبادة الجليلة وأثرها على المؤمن, وبعض الآيات جعلت التوكل من صفات المؤمنين الصادقين, وفي آيات أخرى اعتبر الله عز و جل التوكل عليه وتفويض الأمر إليه من أعظم الأعمال التي ترفع درجات المؤمن.
وفي بعض تلك الآيات يقول الله تعالى :” وتوكل على الحي الذي لايموت“( الفرقان ـ 58)
فبتدبر هذه الآية ندرك حقيقة التوكل وأهميته بالنسبة للمؤمن، والمواطن التي ينبغي أن يتوكل على الله فيها.
التوكل كما قال الإمام القرطبي هو “اعْتِمَادُ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ الْأُمُورِ، وَأَنَّ الْأَسْبَابَ وَسَائِطُ أَمَرَ بِهَا مِنْ غَيْرِ اعْتِمَادٍ عَلَيْهَا”1
قال الإمام أحمد: ” التَّوَكُّلُ عَمَلُ الْقَلْبِ”؛ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ عَمَلٌ قَلْبِيٌّ لَيْسَ بِقَوْلِ اللِّسَانِ، وَلَا عَمَلِ الْجَوَارِحِ، وَلَا هُوَ مِنْ بَابِ الْعُلُومِ وَالْإِدْرَاكَاتِ”2
وفي بعض التعاريف التي أوردها ابن القيم : ” التَّوَكُّلُ هُوَ انْطِرَاحُ الْقَلْبِ بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ، كَانْطِرَاحِ الْمَيِّتِ بَيْنَ يَدِي الْغَاسِلِ يِقَلْبِهِ كَيْفَ يَشَاءُ وَهُوَ تَرْكُ الِاخْتِيَارِ، وَالِاسْتِرْسَالِ مَعَ مَجَارِي الْأَقْدَار”3
فمن خلال هذه التعاريف يتبين أنه لا غنى للمؤمن عن هذه العبادة العظيمة, لعدة أسباب نذكر بعضها:
أولا : في الآية التي نحن بصدد شرحها وتدبرها ذكر الله عز وجل صفة من صفاته العلى , وهي صفة الحياة ,فقال :” وتوكل على الحي الذي لايموت ”
فالله هو الحي الذي لايموت, لذلك فهو قادر على كل شيء.
قال الشوكاني : ” وَخَصَّ صِفَةَ الْحَيَاةِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْحَيَّ هُوَ الَّذِي يُوثَقُ بِهِ فِي الْمَصَالِحِ، وَلَا حَيَاةَ عَلَى الدَّوَامِ إِلَّا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، دُونَ الْأَحْيَاءِ الْمُنْقَطِعَةِ حَيَاتُهُمْ، فَإِنَّهُمْ إِذَا مَاتُوا ضَاعَ مَنْ يَتَوَكَّلُ عَلَيْهِمْ، وَالتَّوَكُّلُ اعْتِمَادُ الْعَبْدِ عَلَى اللَّهِ فِي كُلِّ الْأُمُور”4
فالحي كما قال ابن كثير :” هو الدَّائِمُ الْبَاقِي السَّرْمَدِيُّ الْأَبَدِيُّ، الْحَيُّ الْقَيُّومُ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ، اجْعَلْهُ ذُخْرك وَمَلْجَأَكَ، وَهُوَ الَّذِي يُتَوكل عَلَيْهِ وَيُفْزَعُ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ كَافِيكَ وَنَاصِرُكَ وَمُؤَيِّدُكَ وَمُظَفِّرُكَ”5
ثانيا : في الإنسان صفتان تلازمانه في كل الأوقات , وهما اللتان تجعلانه يتوكل على الله ويستسلم لأمره:
الصفة الأولى :صفة الضعف التي تتمثل في عجزه عن القيام بالمهام الخطيرة وعجزه عن دفع ومقاومة الأمراض والآفات التي يواجهها.
ورغم أنه يتحرك ويمشي في مناكب الأرض ويقوم بالأعمال التي يتباهى بها إلا أنه يظل ضعيفا لأنه محكوم عليه بالموت, وهذا هو مصدر ضعفه, لذلك فالأولى به أن يتوكل على الحي الذي لايموت لأنه هو القوي القادر على كل شيء.
الصفة الثانية : عجز الإنسان عن تدبير أموره وفشله في كثير من المهام وفي تحصيل الخير في كثير من المجالات راجع بالأساس إلى عدم علمه بالغيب .
ولو كان الإنسان يعلم الغيب لعمل من الأعمال ما يجلب له النفع ويحقق له ما يبتغيه ولتجنب كل ما يسبب له الضرر, وهذه حقيقة يذكرها الله عز وجل وهو يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم : ” قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ماشاء الله ولو كنت أعلم الغيب لأستكثرت من الخير وما مسني السوء “( الأعراف ـ 188)
قال الشوكاني في تفسير هذه الآية : ” أي لوكنت أعلم جنس الغيب لتعرضت لما فيه من الخير, فجلبته لنفسي وتوقيت ما فيه السوء حتى لايمسني ولكني عبد لا أدري ما عند ربي , ولا ما قضاه في وقدره لي “6
ثالثا : إن مما يدفع المؤمن كي يتوكل على الله عز وجل هو اعتقاده وإيمانه بأن الله هو الوكيل كما أخبر بذلك سبحانه في عدة آيات من كتابه العزيز , حيث يقول : “حسبنا الله ونعم الوكيل “( آل عمران ـ 173)
وقال أيضا : “ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا “(النساء ـ 132)
وقال أيضا : ” رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا “( المزمل ـ 9)
وهذا الاسم المبارك ـ أي الوكيل ـ يدل على معنيين اثنين إذا تدبرهما المؤمن لزم هذه العبادة وجعل منها سلما إيمانيا يرتقي به إلى درجة الأوابين:
المعنى الأول:
قال ابن منظور: ” الوكيل هو المقيم الكفيل بأرزاق العباد, وحقيقته أنه يستقل بأمر الموكول إليه ,قال أبو إسحاق : الوكيل في صفة الله تعالى الذي توكل بالقيام بجميع ما خلق ”
فقوله تعالى : “حسبنا الله ونعم الوكيل ”
قَالَ بَعْضُهُمْ: الوَكِيلُ الْكَفِيلُ ونِعْمَ الكَفِيل بأَرزاقِنا، ونِعْمَ الْكَافِي، كَقَوْلِكَ: رَازِقُنَا اللهُ ونِعْم الرَّازِقُ”7
المعنى الثاني:
الوكيل بمعنى الحافظ الذي يحفظ عباده الصالحين من كل سوء ويحميهم من كل بلاء.
وإذا كان التوكل مطلوب في الأمور كلها على اعتبار أن هذا الإنسان لايملك لنفسه ضرا ولا نفعا , وهو فقير إلى الله في كل الأوقات وفي كل الحالات, بحيث لو ترك لنفسه طرفة عين لما استطاع تدبير أموره وتسيير شؤونه, لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يواظب على هذا الدعاء في الصباح والمساء: “يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله“.
إلا أن هناك مواطن ومواقف يكون فيها المؤمن أحوج ما يكون إلى التوكل إما لجلب نفع
أو دفع ضر, فمن تلك المواقف نذكر على سبيل المثال:
ـ إذا تعرض المؤمن للظلم وتسلط عليه الأعداء , ففي هذه الحالة لايملك إلا أن يتوكل على الله, قال تعالى: “فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم“( التوبة ـ 130)
ـ إذا تعرض للتهديد وحاول الأعداء إلحاق الضرر به فيتعين عليه حينها أن يجعل من توكله على الله الدرع الواقي والحصن المنيع , قال تعالى : “قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون“( التوبة ـ 51)
ـ إذا شغلت المؤمن قضية الرزق وأرقته وجب عليه أن يجعل من التوكل سبيلا للوصول إلى هدفه المنشود بعد أن يجتهد في الإتيان بالأسباب.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم : “لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا “8
والتمسك بالتوكل هو الذي يجعل بين المؤمنين وبين الشيطان جدارا منيعا يصعب اختراقه , فلا يستطيع الشيطان بعد ذلك أن يتسلط عليهم, قال تعالى :” فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون“( النحل ـ 98/99).
والخلاصة التي نصل إليها مما سبق أن التوكل على الله يقوي علاقة المؤمن بربه ويثبت قلبه على دينه ويعلي شأنه ويرفع درجته ويكون في الآخرة من أصحاب الجنة.
وتلك هي صفات المؤمنين الحقيقيين الذين ذكرهم الله عز وجل بقوله : ” إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون“( الأنفال ـ 2).
المراجع والهوامش:
1 ـ أبو عبد الله القرطبي ـ أحكام القرآن ـ الجزء :13/ الصفحة :62
2 ـ ابن القيم الجوزية ـ مدارج السالكين ـ الجزء : 2 / الصفحة :114
3 ـ ابن القيم الجوزية ـ نفس المرجع ـ الجزء : 2 / الصفحة :116
4 ـ الإمام الشوكاني ـ فتح القدير ـ الجزء : 4 / الصفحة :97
5 ـ ابن كثير ـ تفسير القرآن العظيم ـ الجزء : 6 / الصفحة :118
6 ـ الإمام الشوكاني ـ نفس المرجع ـ الجزء : 2 / الصفحة :312
7 ـ ابن منظور ـ لسان العرب ـ الجزء :11 / الصفحة :734
8 ـ رواه الترمذي ـ باب التوكل ـ (2344) / ورواه أحمد في المسند ( 1/ 30)