التسليمُ والافتقارُ للّٰه
عبد الرحمن علوش
AbdEl-Rahman Alloush
الإنسانُ مهما ملك أو امتلك من جاه الأرضِ وزينتها فهو حبّةٌ لا تُرى بين أفراشِ الكونِ، لا يقدرُ على شيءٍ من نفسِه، فلا يملُك آليةَ بقائِه ولا يضمن أسباب استمراره ولو للحظةٍ بعد الآن، مقيدٌ بآنيّتِه، مطويٌ على مُستقبلِه، حوْله أبكمٌ لكلِّ ما يُلفظُ في كلمةِ “الضمان”، ولا يبقى له إلا “الوجود” لإثباتِ قدرته على الكلام.
فكرة العجز عن كثيرٍ في نفسك وفي حولك -بما لا يصح أن تُتهم فيه- تُصيبك في كل خاطرةٍ تشيخُ في عقلك؛ لتؤكد مدى هشاشة وضعف هذا الكائن الأرضي فينا، يوجعنا الأذى ويُؤرّقنا صغير الشوك، لا نعجز عن مجرد حبٍ نريده أو عملٍ نرجوه فقط؛ بل نصل بأننا نعجز أن نريد أو أن نرجو، فواقعُنا مُطبق ومُعايشته صارمة لا تقبل إمكانية التدرج سوى أن تكسرنا مباشرةً، ليست مبالغةً أن نكون شبه عاجزين عن كل ما يحدث في حياتنا.
وهذه ليست من ادّعاءات مداركِ الإحباط واليأس ولكن دعني أسرد عليك بعض الأسئلة: ماذا أسهمت في بداية وجودك؟! ماذا صنعت في جسدك؟! وماذا اخترت من اسمك وأبيك وأمك وعائلتك؟! ولم لا تستطيع أن تضمن لنفسك فعل أي شيء لمجرد إرادتك؟!! كم تخطيت أملا؟!! وكم جاوزت حبا؟!وكم مررت فوق رجاء؟!! رغمًا عنك.
لو كنت أغنى أهل هذه الأرضِ قاطبةً في لحظتك الآن فكم تملك من المال بعد هذه اللحظة؟!!
تلك الفكرة من “قلة الحيلة” واقعية لأقصى حد لو قطعت لنفسك الفكر والبال في كل شيءٍ تفعله، والأمر ليس مقتصرًا بالأفراد بل بالكل ولو اجتمعوا على كلمةٍ سواء ماذا نملك نحن أهل الأرضِ من سياق حركة كوكبنا وما يحيط بنا من أفلاكِ الكون؟!!
وكيف نهتم لحمايته من أي خلل قد يوقعنا جميعًا في رحم الهلاكِ اللحظي وكأننا لم نوجد؟!!
هذا الشعور بالعجز والفقر من كل شيءٍ حولك أدعى لمردود الواقع وشواهده، ولكن هذه الفكرةِ أكثر الأفكار استحالةً لاستمرار المعايشة وقبول الحياة لأن نحياها.
وكل ما حولنا يعزز لدينا الشعور بالعجز والفقر يقتضي وجود فكر أصيل ثابت أشبه باليقين في أنفسنا يُنافي العجز ويُواجه شعورنا بالفقر، وتلك الفكرة لن تولد إلا بوجود صاحبٍ لكل هذا الملك وهو متحكمٌ بكل ذرةٍ فيه نرجو عونه ونطلب سنده لأجل استمرار المُعايشة، ولو قلنا الأولى بالفطرة فينا، فإن كل المُسلّمات وكل ما أنتجه الإنسان من علوم يؤول لوجودِ إلٰهٍ يحكم ويُحرك كل ما في الكون، وبالتالي انمحت فكرة الإلحاد بمجرد المنطق والعقل والفطرة، وكذلك ذابت فكرة الإشراك، فلا يصح أن يملك ويدير كل هذا الكون أي شيءٍ هو جزءٌ من هذا الكون كالإنسان أو الحيوان أو الشمس أو القمر أو غيرها.
فالإلحادُ والإشراكُ فسادُ أخيلةٍ يُنافيان الفطرة السليمة والعقل والواقع المشهود، هذه نقطة من إحدى نقاطٍ ثلاثة.
النقطة الثانية تأتي باستقرارِ إيماننا بالنقطة السابقة التي تضمن لنا وجود إلٰهٍ نرجو عونه ونطلب سنده، فكيف لهذه الحياة بكل تلك المعاناة والأذى أن تكون هي ما يريده الله لمن يؤمن ويعمل صالحا من عباده؟!!
وهنا تتجلى لنا النقطة الثانية في الحياة الآخرة، والمكافأة في عيش الجنة والعقاب في عذاب النار، وثالثهما هي علاقة الأولى بالثانية وهي فكرة التسليم لله بجعل مركزيتنا في الآخرة.
ومن عظيم نعمِ الله علينا أنّه جعل لنا في الإسلام أحكم المناهج تنظيمًا للنقاط الثلاثة ما يُيسر لنا السير إليه استجابةً لسؤلِ النفسِ ومطلبها ونهجًا في مِعراج أعمارنا ورحمةً لأنفسِنا من طينِ أنفسنا.
والإسلامُ في حقيقةِ جوهره وشمولية أصله جعل لنا في كل ما يُمليه على أرواحنا وبصائرنا من فروضٍ وشرائعٍ وأحكامٍ أمرًا ب”التسليم” لله يُنحت في مِنهاجِ قلوبِنا ويُرىٰ في صالح أعمالنا ومُعاملاتنا، ويُروىٰ في آثارِنا بالنُصحِ والهداية لمن يأتي بعدنا، أليست في مجرد حركة خرورِ وجه العبد للسجودِ دلالةٌ على “التسليم”؟
هذا في أربعة وثلاثين موضعًا في كل يومٍ من أيامِ العبد، مجرد حركةٍ تروي لنا قصة سماءٍ تختبئ بين جنبيْنا تصلُ بنا تُسلّمُنا إلى اللّٰهِ، ولعل هذا اليقينُ المبني من “التسليم التام لله”؛ هو ما اتّصفت به جميع الرسل والأنبياء والذين اتبعوهم -وقد برهن القرآن الكريم بذلك- بما يُحقق وحدانيةَ منهجِ الله المُتصل بالفطرةِ والفَهم وأن جميعَ الأديان تؤول لجوهرٍ وحقيقةٍ واحدة وتكتمل في دينٍ واحدٍ وهو دينُ اللّٰهِ: “الإسلامُ” حين أذِن اللّٰهُ بنزولِه،
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم : 30]
كل ما ذكرته فوق وقادنا إلى “أمر التسليم التام لله” وهو “الإسلام”؛ ما هو إلا حديثُ نفسٍ لذاتِها ودُعاءُ فطرةٍ لأصلها ومحاورةُ عقلٍ لسدادِه، {وفي أنفُسكم أفلا تُبصرون}.
الأمر بسيطٌ قدر ما تدع قلبك والفطرةَ، ومُستحيلٌ قدر ما تجحدُ لذلك؛ {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف : 179].
ومن أهم السُبلِ ما يُحقق فينا الأمر ب “التسليمِ التامِ لله” هو استدامةُ الافتقار إلي الله، وهو أرجى السلوكِ لمواجهةِ الشعورِ بالعجزِ ومُناقضةِ قلةِ الحيلة؛ قال العارفون: “تحققْ لله بفقرك يكفِك بغناه”.
إدراكك بأنّك في حاجةٍ دائمةٍ إلى الله وسنده وعونه يلغي إحساسك بغيره، تكون في منأى عن الدنيا وأنت قريبٌ منه، والافتقار إلى الله تراه من نفسِك بقدرِ فقرِ قلبِك من مرادِ الدنيا وغايتها؛ ولذا كان هذا السلوكُ في النفسِ كغيثِ السماءِ في خلالِ الأرضِ يُنبتُ خضارَها بعد ما أصابها من جدبِ الحياةِ وكدَرها.
ولموازنةِ الأمور والتأدّبِ على ما جُبِلنا، فإنّا ضعفاء نَحِنُّ إلى ترابِ الأرض وبثّها؛ لأننا من طينِها، نريدُ بعضًا من مالِها وجاهِها ولذّاتها، ونتمنى حبًا ونرجو شبعًا، ولكننا أيضًا نفحةٌ من روحِ اللّٰهِ، فإن أوذينا فيما نطمحُ ونأملُ آوينا إلى اللّٰهِ حَدْثًا على فِطرتنا؛ {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ …} [الروم : 33].
وهنا خيطٌ رفيعٌ بين من يريدُ راحةَ لحظتِه وبين من يحملُ همّ الآخرةِ، تركنُ إلى الله مُستسلِمًا، فإن تحققت بفقرِك إليه، لا تملك لنفسِك من شيءٍ، لا تطلب مِن اللّٰهِ إلا ما يُعينك على الآخرةِ، تعملُ في نفسِك وروحِك ما تُربيه فيك كلمتا: “إيّاك نعبدُ وإياك نستعين” في سبعةِ عشرة موضِعًا في كلّ يومٍ صدىً لوقارِ قلوبنا وفقرها من نعمِ اللّٰهِ وفضله في نجوى رجاءٍ واحدٍ، فتدرك إنما هذه السجدةُ التي ألقيت قلبك عندها وعيناك تفيضُ من دموعِ الشكوى بثًا وحزنًا إلى الله هي كلُّ ما ترجوه من الدنيا وما عليه تريدُ أن تُقابلَ مولاك، فتنسى ما جئت لأجله من الدنيا تُعلن عجزك عنه إلا إعلان فقرِك إليه فقط تستشعر بعضًا من نسماتِ رحمتِه وأنت معه بعيدًا عن رغباتِ الدنيا ومظانِّها.
الحكمةُ في هذا السلوكُ الفطري أنّ شهواتنا في الدنيا هي ما تُنبّه فينا فضائلنا في مبعثها من الآخرة، ففي قولِ الله تعالى: {ففرو إلى الله}.
وما ذُكر قبلها من آياتي السماءِ والأرض وكأننا بين أسقُفِ السماءِ الواسعة وفُرشِ الأرضِ الممتدة نُعافر إلى اللّٰه نُكابد فينا شهواتنا ونتجاوز آذانا لا نكادُ نخطو خطوةً إلا ما يهربُ بنا إلى الله، فإنّ النفحةَ فينا لا تستقرّ إلا أن تعودَ إلى روحها، فهي استجابةٌ ودلالةٌ لآيتين من آياتِ اللّٰهِ في كتابه الكريم: استجابةٌ لنداءِ اللّٰهِ في {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} [الإنشقاق : 6]، ودلالةٌ لغايةِ اللّٰهِ في حكمته {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد : 4].
وأعظم صور الافتقارِ إلى الله ما صورّه لنا الحبيب صلّ الله عليه وسلم في رد فعله لكل ما سُبّب له من إهانةٍ وضربٍ من أهلِ ثقيف بالطائف وهو يدعوهم إلى الله؛ حيث ألّبوا عليه الحمقى وأغروا به السفهاء، فخرجوا وراءه يضربونه بالحجارة ويستهزئون فما زالوا يرجمونه بها حتى أدموا رأسه وأعقابه حتى ألجؤوه إلى حديقة لعتبة.
أكتبُ حديثَ الحبيب بدموعٍ من المحبةِ، فما ذكرته في مرةٍ إلا وغالبتني عيني على البكاءِ لهذا السلوك العجيبِ الذي لا يمكن أن يقدر عليه بشرٌ من نفسِه إلا وكان إنسانًا كاملاً إلا وكان الحبيب صلوت الله عليه وسلامه؛ فلجأ الحبيب إلى ربّه بكل ما يحمل في نفسه وجسده من أذى يُناجي به ربه بكلمات:
{اللهمَّ إليك أشكو ضَعْفَ قوَّتي، وقلةَ حيلتي، وهواني على الناسِ، يا أرحَمَ الراحمِينَ، أنت رَبُّ المستضعَفِينَ، وأنت ربِّي، إلى مَن تَكِلُني؟ إلى بعيدٍ يَتجهَّمُني، أو إلى عدوٍّ ملَّكْتَهُ أمري؟! إن لم يكُنْ بك غضَبٌ عليَّ فلا أُبالي، غيرَ أن عافيتَك هي أوسَعُ لي، أعُوذُ بنورِ وجهِك الذي أشرَقتْ له الظُّلماتُ، وصلَح عليه أمرُ الدُّنيا والآخرةِ، أن يَحِلَّ عليَّ غضَبُك، أو أن يَنزِلَ بي سخَطُك، لك العُتْبى حتى ترضى، ولا حولَ ولا قوَّةَ إلا بك}.
كل كلمةٍ في الحديث تحملُ بين جملتِها إعجازًا بالارتفاعِ فوق الدنيا وبلائها حتى كانت هي بلاءً على الدنيا تغتاظُ لصبره وتعجبُ من رضاه، ولا تمر كلمةٌ في خاطري إلا والحبّ يُبكيني في رسولِ الله، كيف تحمّل كل هذا لأجلنا ولأجل أن يُعلّمنا ما علّمه الله؟!
وكيف تأذى في بذله لأجلِ هذا الدينِ ورفعتِه؟!!
وما يكاد يقع إدراكي على جملة {إن لم يكن بك غضبٌ عليّ فلا أبالي} إلا وتغمرني معها رجفةٌ كأنّها السيلانُ يهيمُ في القلبِ من أثرِ حكمةٍ تكفي لهدايةِ كلّ من حملته وما ستحمله الأرضُ من المؤمنين.
وخلاصةُ القولِ {أنّ اللّٰهَ يُحبّنا إليه} فهلا تابعنا السبيلَ إليه!!