التدبر .. معمار الروح، ودربة العقل
بقلم: وصال تقة
واد غير ذي زرع ذاك الذي قد أسكنت فيه روحك، فصرت تئن من غياب الطلع، وتشكو وخزات العوسج، ولدغات الهجيرة..
تسري بعينك؛ فلا ترى غير العسر راخيا سدوله؛ يقضم ما تبقى فيك منك ومن أملك في الحياة، وتعرج بها إلى معاقل الضنك، ومخاطم الوساوس والظنون؛ فتزيدك الحيرةُ حيرةً، وتخطّفك كلاليب السبل، ومهاميز نفسك الأمارة، وخطاطيف سوء الظن بالله.
قد دحض عنك النور، وهجرتك البركة، وصار صبحك كَلَيْلِك يشكو العتمة، ويسبح في اليأس والخوف، وتمزقه صرخاتك المكتومة التي تسائل الحياةَ بصيصَ حياة.
ونفسك الملولة؛ كم تألف ما حولها، وكم تضيع حقائقُ الأشياء وعمقُها، وتغيض المعاني في لجج التكرار والإلف والعادة.. فلا الصبح يبعث في الروح بخيوط نوره مشاهدَ الجمال، ولا الليل يرسل فيها مشاهدَ الخوف والسكينة، ولا الجبال تحرك في النفوس مشهد العظمة، ولا ألوان الفراش، ولاشذى الزهور، ولا شدى الطيور، ولا ترنيمة الرياح وعزف الرعود يحرك الوجدان طربا لمعاني الجمال والكمال ودقة الصنع.
نعتادها من كثرة ما نراها، ونألفها لكثرة ما نحياها، ولا محرك لتأملها، وتحريك الوجدان لها إلا بتأمل عميق في الملكوت وآيات الله الكونية، وتدبر دقيق، وإعمال للفكر في كتابه الحكيم؛ دستور الحياة، ورسالة الله للمستخلفين في أرضه؛ يعيد صياغتهم من جديد؛ بين تطهير روحي ووجداني، ودربة عقلية.. يرمم انهياراتهم الروحية، ويبني معماراتهم الأخلاقية، ويمدهم بالوفرة الروحية التي تساعدهم على تخطي الأزمات، ويُنضج وعيهم وإدراكهم كي يستطيعوا ابتكار الحلول للمطارحات الكبرى بين ذواتهم والعوالم حولهم والأفكار التي تشكل وعيهم، وينظم علاقتهم بالمنظومة الوجودية..
فهل جربت أن تسمو بهمتك من قراءة الحرف، واحتساب العشر حسنات عليه؛ إلى أجر التفهم والتأمل والتدبر ؟
هل جربت أن تشرع مراكبك، وتهيئ حقائبك، و أن تسافر في أنداح السكينة والرحمة ومنة المنان؟
أن تحلق بأجنحة من نور إلى عوالم النور وكواكب الغفران وقناديل الذكرو كلام الرحمن ؟
أن تصنع من كتاب الله بوصلة تحدد لك معالم السبيل، ونبراسا يضيء لك عتمة الحياة المجبولة على الكدر، يقوّم ما حاد من الأفكار، وما حنف من السلوكيات عن الطريق الواحد الممتد الطويل، ويهذب شعث الأخلاق ومارقها، وتستنصر به على الأمارة والهوى، وتستغيث بالحياة الكامنة في آيه من موت الأرواح على مقصلة الغفلة والتسويف والعادة.
أن تجعله الدستور الذي لا يحيد عنه إلا هالك ، تستشعر خطابه لك وبأنك المعني في كل أمر وفي كل نهي ..تستجيب لنداء “يا أيها الذين آمنوا”، وترعوي من الزجر والنهي والوعيد، وتشرق نفسك مع كل وعد جميل بالغد الجميل في رحاب الجنان .. تمني النفس، وتأمل في من وعد وصدق عباده وعده .. يقشعر منك الجلد لذكره سبحانه، وتذرف المآقي لآلئها، ثم ما تلبث أن تلين وتتنفس السكينة والطمأنينة..
تتجول في أفانين اليقين، ومروج الثقة، وبساتين الرجاء .. تمرض؛ فتهرع إلى آيه، وإلى قصة أيوب تتلمس من بين الحروف الرجاء والطمأنينة والثقة في قدرة الطبيب الشافي، وتضيق بك وتظلم في عينيك وقد قاربت من الإياس، فتهرع إلى قصة يونس تتربص بخيوط النور المتسللة من بين الظلمات الثلاث، وتتوالى عليك الملمات والمصائب، فتسارع إلى قصة يوسف تصعد مع خطاطتها وتنزل؛ بين فرج تتبعه شدة، وشدة ليس لها من عاقب إلا الفرج ..
تنظر إلى الدنيا ومتاعها الذي لا يعدو أن يكون حطاما تذروه الرياح، فتتخيل الصورة، فتسارع إلى الرضوان، وتختار الباقية على الآفلة الفانية.. وتنظر إلى مآلات صراع الخير والشر، والكفر والإيمان، والاستجابة والعصيان ، فتدرب النفس على موازين الحق، وتمرسها على العمل وعلى حسن الاختيار.
هل جربت أن يؤذَّن في روحك أن أقبلي، فهذا كتاب الله ، فماذا أنت صانعة فيه ومعه ؟
فقم، أيها الشارد السادر في الغفلة، وامسح عنك الوسن، واغتسل بدمعك وبعطر كلام الله، واستجب لداعي الشرف، وباعث إقامة حكم الآي و أمره؛ قبل إقامة حرفه
استفتح من الله واسأله المدد..
رتب حقائبك، واحجز مكانا لرحلة آمنة بفضل الكريم المنان إلى تدبر كلامه..
قبس من تأمل الوحي؛ يزرع البيداء زنابق، ويبدد ياسمينُ التدبر أشواكَ الغردق النابت فيك، ويجعل من العارض مزنة تسقي ما استقحل فيك، ويُنبِت الربيعَ في أحشائك الخاوية..
تدفئك أنوار التنزيل، وتسري فيك السكينة، وتستعيد ملامح الإنسان الكادح إلى ربه كدحا وقد استشرفه اللقاء.. وتأتيك مفاتيح ما استغلق عليك، وترتقي إلى العلياء؛ فتتعطر بما تعطر به مثلك الأعلى، والملأ الأعلى، والصحبة العلية..
يرقع أسمالك الخَلِقة، ويرتق فتوق خطوك المبعثر، ويحيل غربتك أشواقا منثالة إلى مُنَزِّل الوحي سبحانه، وإلى من نُزِّل عليه؛ صلى الله عليه وسلم تسليما..
وما أُنزِل عليه ليشقى..
ولا لنشقى..
ما شاء الله لا قوة الا بالله، مقالة رائعة.