أخلصوا للّٰهِ فعلّمهم اللّٰه
قَالَ سُفْيَانُ الثّوري رحمهُ اللّٰهُ: “إذَا زَهِدَ العبدُ في الدُّنيا أنْبتَ اللّٰهُ الحِكمَةَ في قلبهِ، وَأطلقَ بها لسانهُ، وبصّرهُ عيوبَ الدُّنيا وَدَاءَهَا وَدَوَاءَهَا”.
علىٰ صدىٰ كلماتِ مولانا سُفيان الثوري في القلوبِ نبدأُ مقالتنا ..
كثيرٌ منّا يعلمُ بقصةِ استشهادِ الفاروقِ عمرِ -رضي الله عنه- غير أنّ تفصيلةً بسيطةً اسْتوقفتني بها؛ وهي عندما طَعَنَ أبو لؤلؤة المجوسي -لعنةُ اللّٰهِ عليهِ- عُمرًا وضربهُ في كتفهِ وخصرهِ ضرباتٍ عديدةٍ ..
ولمْ يمنعْ ذلكَ عُمرًا مِنْ أنْ يُمسِكَ بعبدِ الرحمنِ بنِ عوفِ -رضي اللّٰهُ عنهُ- مِنْ خلفهِ ليؤم الناسَ بعدهُ، وَلذلكَ عندي دلالاتٌ أسرُدُهَا كالتالي:
1-أنّ طعنَ المجوسي لرجلٍ في الثالثةِ والستينِ مِنْ عُمرِهِ طّعناتٍ عَديدةٍ أخرجتْ أحشاءه علىٰ ظهرِ بطنهِ لمْ يمنعهُ مِنْ أنْ يُفكرَ في صلاةِ المُسلمينَ، وَأنْ يَغارَ علىٰ دينِ اللّٰهِ -وهو في أشدِ لحظاتِ الموتِ- مِنْ أنْ ينشغلَ المسلمونَ بهِ وبمصيبتهِ.
2-وَأصَرَ أنْ يأخذَ هو بعبدِ الرحمٰنِ ليُّوَليهِ مِنْ بعدهِ وَلَا أنْ يتركَ لهمْ الأمرَ هكذَا دونَ قرارِ، فَهُوَ ابتدأ بهمْ الصلاةَ أميرَ المؤمنينِ يقتدونَ بهِ ويريدُ أنْ يخرجَ مِنْ بينهم علىٰ قرارٍ هو أميرهُمْ فيهِ، وَفي ذلكَ حكمةٌ تخرجُ مِنْ صُلبِ ممارساتِ القيادةِ العبقريةِ التي تتجاوزُ الفتنَ وتنأىٰ عَنْ الفَوضىٰ وَتَحتذرُ مِنْ العَبثِ.
3-وَفِعْلَتُه هذهِ بيّنتْ مدىٰ حِرصِ عمرٍ علىٰ الالتزامِ بآدابِ الصلاةِ وهو في هذا الوقتِ العصيبِ واتّباعهِ هدي الحبيبِ المُصطفىٰ -صلواتِ اللّٰه عليهِ وتسليمهِ- في أنْ يفعلَ تفصيلةً صغيرةً مِنْ شريعةِ هذا الدينِ العظيمِ، فهي إنْ كانتْ صغيرةً فهي في نفسهِ كبيرةٌ شديدةٌ أمامَ وجَلِهِ وخشيتهِ مِنْ اللّٰهِ في أنْ ينفرطَ عقْد المسلمينِ المصطفّينِ خلفهِ لأجلِ صلاةِ اللّٰهِ.
4-والعجيبُ صَلَابةُ جُموعِ المسلمينَ رغم اختفاءِ صوتِ عُمرٍ في بدايةِ الصّلاة، رغمْ أنّ هذا المجوسي قَدْ طعنَ ثلاثةَ عشرَ صحابيًا وَاسْتُشْهِدَ منهم سبعةٌ، ولكنّ معظم مَنْ كانَ في المسجدِ أكملَ الصّلاةَ وَلمْ تحدثْ بعضَ الفوضىٰ إلا في الصفوفِ الأولىٰ؛ نظرًا لأنهَا مكانُ الحادثةِ.
إنّ الصحابةَ -رُضوانُ اللّٰه عليهم جميعًا- قَدْ عرفوا قدرَ الصّلاةِ جيدًا وَرعَوهَا حقّ رعايتِها، وَهُمْ ليسوا بأنبياءِ وَلكنهمُ تعلموا مِنْ اللّٰهِ، وَمِنْ رسولِ اللهِ ﷺ مُباشرةً، فقدْ فَقِهَتْ قلوبُهُم معنىٰ الصلاةِ في نفوسِهم بالقدرِ الذي يقتضي مِن ربِّ العبادِ أنْ يفرضهَا علىٰ رَسُولِ اللّٰه ﷺ عِنْدَ عرشِهِ مِنْ فوقِ سبعِ سماواتٍ كالرُّكنِ الوحيدِ في الإسلام الذي قضىٰ اللّٰهُ أنْ يفرضهُ علىٰ رسولِه ﷺ عندهُ وَهو في حضرتهِ، فَإذَا همْ قَدْ دَخلُوا في الصلاةِ خرجتْ نفوسهمْ مِنْ علىٰ الأرضِ، وهمْ عليها يؤدّونَ الحركاتَ، وقلوبهمْ في السماءِ تُصلي مَعَ ربِّها.
هُم يُصلّونَ كأنهمْ يرونَ اللّٰهَ، ولا يُضامُ في رؤيتهِ أحَدٌ، فقدْ تعلّموا مِن الحبيبِ قولهِ ﷺ :
عَنْ جريرِ بن عبد اللّٰهِ-قَالَ: كُنَا عنْدَ النبي ﷺ فنظرَ إلىٰ القمرِ ليلة، يعني: البدر، فقال: “إنّكمْ سترونَ ربكمْ كما ترونَ هذا القمرَ، لا تضامونَ في رؤيتهِ، فَإنْ استطعتمْ أنْ لا تُغلبوا علىٰ صّلاةٍ قبل طلوعِ الشمسِ، وقبل غروبها، فَافعلوا“.
فكانتْ أنفسهم فيها واسعةً رَحبةً قدر مَا يُظِهرُ الدُّنيا لديهمْ ببلائهَا، وَشقائهَا، ومظانّهَا كهشيمٍ يُزرىٰ بدايةَ مساحاتٍ هائلةٍ مِنْ ملايينِ الجِنان، عليهمْ أنْ يمرّوا عليهِ قبلَ أنْ يصِلوا إليها، فوعتْ أرواحهم في كُلِّ مرةٍ يذهبونَ فيها للصلاةِ قول الحبيبِ ﷺ: “أرِحنَا بها يا بلال“.
فَمَا يكادُوا يخرجونَ منها إلىٰ دنياهم إلّا وَقَدْ أرَاحُوا أنفسهُمْ مِنْ هياجِ هشيمها فيهم، وَاستقامتْ فتنتُهَا عندهمْ فلا تقدرُ عليهمْ مِنْ أنفسِهِمْ في شيءٍ.
وَقَدْ ذكّرني حالهُمْ في الصلاةِ بِوصفٍ جميلٍ للعبقري مُصطفىٰ صادقِ الرافعي عندمُا كَتَبَ: فَلَمّا صَاحُوا “اللّٰهُ أكبرُ” ارتعشّ قلبُ ماريةِ وَسألتْ الراهب: ماذا يقولون ..؟
قال: إنّ هذهِ كلمةٌ يدخلون بهَا صلاتهمْ، كأنمَا يخَاطبونَ بها الزمنَ أنهم الساعةُ في وقتٍ ليسَ مِنْهُ وَلا مِنْ دُنياهمْ، وَكأنّهُمْ يُعلنونَ أنهمْ بَيْنَ يدّي مَنْ هو أكبرُ مِنْ الوجودِ؛ فَإذَا أعلنُوا انصرافهمْ عَنْ الوقتِ وَنِزَاعِ الوقتِ وَشهواتِ الوقتِ، فَذلكَ هو دخولهُمْ في الصّلاة؛ كأنهمْ يمحونَ الدُّنيَا مِنْ النّفسِ ساعةٍ أوْ بعضِ ساعةٍ؛ وَمحوهَا مِنْ أنفسِهِم هُوَ ارتفاعهمْ بأنفسِهِمْ عَليهَا.
انظُري!
ألَا ترِيْنَ هذهِ الكلمةُ قَدْ سحرتهُمْ سِحرًا فَهُمْ لَا يلتفتونَ في صلاتهِمْ إلىٰ شيءٍ، وَقَدْ شملتهمْ السكينة، ورجَعُوا غيرَ مَنْ كانوا، وَخَشَعُوا خُشُوعًا أعظمَ مِنْ الفلاسفةِ في تأملهِمْ..!
هُمْ يفهمونَ جَيدًا كيفَ لركعتينِ في جوفِ الليلِ أنْ تكونَ لهم خيرًا مِنْ الدُّنيا وَمَا فِيهَا، فكانوا يُسيئونَ الظّنّ بِمَنْ يتخلّفُ عَنْ صلاتيّ العشاءِ وَالفَجرَ، تفكّر معيّ في مجتمعٍ: ثُلّةُ مَنْ فيهِ تحيَا علىٰ يقينٍ رَاسخٍ بِأنهُ كيفَ لمؤمِنٍ بحق أنْ يَترُكَ الجماعةَ في صلاتينِ بأولِ اللّيْلِ وَآخرهِ؟
وَكأنّه أتىٰ بفعلٍ ليسَ مِنهمْ ولا ينبغي أنْ يَخرجَ مِنْ بينهِمْ، فَقَدْ عَبَدُوا اللّٰهَ، وَأخلصوا حتّىٰ وَعَتْ ضمائرهمْ دُنيا القلوبِ علىٰ أعتابِ صَلاتِهم؛ لأنهم خلعوا الدُّنْيَا مِن سعيهِمْ عِندهَا، فكانوا يُصلّونَ الصّلاةَ كأنّها هي الدُّنيا وَليسَتْ هي فيها، وَيعيشونَ الدُّنْيا كأنّها هي الزائدُ علىٰ أعمارهِمْ مِنْ الصّلاةِ وقدْ فُرِضَتْ عليهِم فيها، حتى استشعرت فيهم قول المولٰى -عزّ وجل-
{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام : 162]
عِندمَا قدّمَ الصلاةَ والنُسُكَ علىٰ المَحْيَا وَالممات، فهُمْ كذلك: قومٌ قدّمُوا صَلاتَهم ونُسُكَهُمْ علىٰ حياتِهِمْ وَمَمَاتِهمْ حَتىٰ وَإنْ كانت كلّها للّٰهِ.