الوباء العالمي كورونا (1)
آمال في مواجهة “كوفيد-19”
1-الأمل الأول: عقيدة المؤمن بالله واليوم الآخر
يتخذ المؤمنُ الأسبابَ، ولكنه:
– لا يترك نفسه حبيس مخاوفه المفْرِطة، فمخاوف الدنيا أهون بكثير من مخاوف الآخرة.
– يحسن ظنه بالله تعالى، ف”يتفاءل بالخير ليجد خيرا“.
– يعلم أن الله لا يؤاخذ إلا على ما كان في وسع الإنسان فلم يفعله، وقد “تجاوز الله عن أمة الرسول العظيم: الخطأ والنسيان وما استُكْرِهوا عليه“.
– يوقن بتعالي الله على الجميع حكّاما وعلماء وشعوبا وإمبرياليات متصارعة، فالتوحيد هو أن “تكسر جميع الآلهة” في قلبك وواقعك لتتعلق بالله تعالى …
لا يخاف من اتضحت عقائده الكبرى، لا يخاف من أيقن بالآتي:
– الله (نفيا للظمأ الأنطولوجي في الأزل).
– اليوم الآخر (نفيا للظمأ الأنطولوجي في الأبد).
– الأنبياء والرسل (تجنبا لفقدان الأمل في التاريخ).
– الملائكة (تعلقا بالسماء للنجاة من هموم الأرض وضعف حكامها وعلمائها ومثقفيها…).
– الكتب السماوية (ابتغاءً للحكمة في تجارب الأقدمين).
– القرآن الكريم (ارتباطا بالنور والأمل والشفاء في زمن التدليس والاستكبار على المستضعفين).
– القضاء والقدر خيره وشره (فرارا من فشل في الآن إلى انتصار ونجاح مرتقَب).
…
لا يخاف من أعادته الأزمات والكوارث إلى قراءة قول الله تعالى:
“ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون“.[1]
“وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت“.[2]
“أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة“.[3]
“وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا“.[4]
…
ليس هذا كلاما يزهِّد في الأخذ بأسباب الوقاية، ولكنه يطلبها بمزيد من الاطمئنان بالله واليقين فيه وحسن الظن به.
فالعقائد الراسخة تصبح في الأزمات أكثر رسوخا، وتلك التي تلاشت في قلوب أصحابها لا نرى بكاء الألم إلا يسقيها عندما تضيق السبل وتقل ذات اليد.
2-الأمل الثاني: “قانون التحدي والاستجابة”
مفاد هذا القانون هو:
“بقدر ما كان التحدي كبيرا ويدخل في مستطاع الإنسان، بقدر ما حوّلته استجابة الإنسان إلى مَكسَب”.
قد يكون التحدي فوق قدرة الإنسان على الاستجابة، فيعجز الإنسان عن تحويله إلى مكسب. وذلك مثل قساوة المناخ بالنسبة لشعوب “الأسكيمو”، وهي الشعوب التي لم تراوح مكانها بسبب عجزها أمام ظروف الطبيعة الجليدية القاهرة.
وقد يكون التحدي شبه منعدم، فيندر الابتكار وتقترب الفرادة من الانعدام. هذا هو –ربما-ما تعيشه بعض البلدان الإسكندنافية مثل: النرويج، والدنمارك، وسويسرا، والسويد… وغيرها.
أما إذا كان التحدي معقولا ويطلب استجابة الإنسان، فإن الانتقال من وضع إلى وضع جديد أكثر نضجا وارتقاء هو ما يحصل بعد تلبية طلب التحدي.[5]
قد لا نتفق مع “نظرية أرنولد توينبي” في كل جزئياتها، وقد نعتبرها وصفا للتاريخ لا يخلو من المثالية والإيديولوجيا… قد يحدث كل ذلك، ولكنها نافعة للإنسان وهو يحاول “الاستجابة” لكل “تحدّ” يعترض طريقه.
“كورونا” هو “التحدي”، والاستجابة” لن تتم إلا عن طريق: اكتساب مناعة طبيعية وتلقائية ضد الفيروس، محاصرة الفيروس جغرافيا، ابتكار لقاحات وأدوية للعلاج، الثبات النفسي لتدبير الأزمة وعقلنة السلوك في مواجهتها…
3-الأمل الثالث: خبرة الإنسان وتاريخ الوباء
ليس “كورونا” هو الوباء الأول الذي تتعرض له البشرية، وإنما هو وباء من أوبئة عديدة. ليس إنسان هذا العصر هو إنسان العصور السابقة، ولا إنسان 2020 هو إنسان 1920، ولا هو إنسان 2013 حتى… لا يطرأ على الإنسان أي تحول على مستوى مظهره الخارجي، ولكنه يتحول داخليا وخلويا بشكل ملموس. فالإنسان الذي أربكته الإنفلونزا الإسبانية عام 1918 هو الذي اكتسب المناعة ضدها فيما بعد، والإنسان الذي أربكه أحد أنواع “كورونا” عام 2013 هو الذي يواجه اليوم أكثر هذه الأنواع خطورة (“كوفيد-19”)…
دعونا الآن نعرض تاريخ الإنسان في مواجهته للأوبئة:
– طاعون جستنيان (541-750 م): مقتل بين 30 و50 مليون شخص (نصف سكان العالم في ذلك الوقت).
– الموت الأسود (1347-1351 م): نوع من الطاعونمقتل 25 مليون شخص.
– الجدري (القرنين 15 و17 م): مقتل 20 مليون شخص.
– الكوليرا (1817-1823 م): مقتل الملايين.
– الإنفلونزا الإسبانية (1918-1919 م): مقتل أكثر من 50 مليون شخص.
– إنفلونزا هونغ كونغ (1968-1970 م): مقتل نحو مليون شخص.
– المتلازمة التنفسية الحادة الوخيمة (2002-2003 م): مقتل 774 شخص.
– إنفلونزا الخنازير (2009-2010 م): مقتل ما بين 151 و575 ألفا من الأشخاص.
– إيبولا (2014-2016 م): مقتل أكثر من 11 ألف شخص.[6]
إننا نلاحظ انخفاض عدد الوفيات جراء الأوبئة عبر التاريخ، وذلك بسبب التقدم العلمي الذي أحرزه الإنسان في مجالات: الطب والبيولوجيا والأدوية…
تستفز الرأسمالية المتوحشة الطبيعة وتستغلها أبشع استغلال، ولكنها تجد نفسها مضطرة إلى الإنفاق على “علم الأوبئة” وإنقاذ الجميع في بعض المراحل التاريخية المفصلية… كذلك هو حاصل اليوم، وكذلك تتسابق الإمبرياليات اليوم لإيجاد اللقاحات والأدوية الناجعة في القضاء على كابوس “كورونا” المرعب.
الحصيلة مخيفة، ولكنها عكس ذلك إذا استثنينا منها خوفنا على أرواحنا وإذا ما قورنت بحصيلة الأوبئة التي سبقتها.
كل ذلك يرجع إلى عدة أسباب، منها:
– التقدم العلمي:
غياب الاستثمار الإيجابي للتقدم العلمي هو الذي أدى إلى ما نعيشه من: أوبئة فتاكة، حرائق غابوية، تلوث المياه والهواء، ثقب الأوزون… العلم في يد الرأسمالية المتوحشة، هو كارثة القرن الحادي والعشرين. ورغم ذلك، لا تريد الرأسمالية أن تفنى مع الفانين. فالفناء يخدمها في حدود (“تقليل الأفواه” بتعبير عبد الصمد بلكبير)، وتسعى إلى إيقافه إذا تجاوز حده. واليوم، وفي ظرف وجيز، تم التوصل إلى اللقاحات والعلاجات… منها ما هو في المرحلة التجريبية (روسيا، ألمانيا، أمريكا…)، ومنها ما هو في مراحله الأخيرة (الصين، فرنسا…).
ليس العلم هو النقمة، ولكن كونه في يد الرأسمالية المتوحشة هو ما يعتبر كذلك. وللتوحش حدود، لأنه يستحيل أحيانا إلى رحمة رغم عن أنفه وبأقل الخسائر (إنقاذ الرأسمالية والاستثمار في الأوبئة والكوارث).
– سيطرة الدولة المركزية:
وهذه السيطرة هي ذات حدين أيضا: ضبط للشعب، وإعادة إنتاج للسلطة في زمن الوباء. ليس مهما هذا العنصر الأخير، فزمن الوباء يطلب الضبط ويوجه الاهتمام إليه أكثر من أي شيء آخر. الدولة المركزية هي ما لم يكن متاحا كما هو اليوم عندما مات الملايين بسبب الأوبئة القديمة، ووسائلها الحديثة هي ما كانت الإمبراطوريات والمجتمعات التقليدية تفتقر إليه.
للقرار السيادي دور كبير في زمن الوباء، ولوسائل الدولة الحديثة أهمية أكبر في هذا الزمن.
– وسائل التواصل الاجتماعي العولمية:
إنها ذات حدين أيضا: نشر للرعب، وحمل على الانضباط والالتزام والوعي بخطورة الوباء وسبل مواجهته والوقاية منه.
سرعة انتشار المعلومة هو ما كانت المجتمعات تفتقر إليه زمن الطاعون والجدري والكوليرا والإنفلونزا الإسبانية… واليوم، يعرف الجميع ما له وما عليه في هذه المعركة التي ملأت: القنوات التلفزية، المواقع الإلكترونية، مواقع التواصل الاجتماعي…
4-الأمل الرابع: “ثورة الملك والشعب الثانية”
في 20 غشت 1953 م، نُفِي محمد الخامس رفقة الأسرة الملكية. فكان ذلك سببا لانطلاق ما سمي “ثورة الملك والشعب”، حيث انتفض جميع المغاربة في وجه المستعمِر الفرنسي الذي نحّى ملكهم (1952) ونفاه خارج أرض الوطن. لقد كانت هذه الواقعة ملحمة مشهودة، توافق فيها: العرش / إدارة الدولة من جهة، والشعب / إدارة المجتمع من جهة ثانية.
وبعد ذلك، تحالفت جميع الفئات والطبقات الوطنية وتهيأت لمواجهة الاستعمار الفرنسي بكل ما أوتيت من قوة مادية ومعنوية. فتناقضت مع الاستعمار، لأنه كان يهدد وجودها ويضرب مصالحها جميعا.
يقول عبد السلام الموذن: “إن التناقض المذكور[7] بكل أوجهه وجوانبه السالفة، هو التناقض الجوهري الذي حكم المجتمع المغربي في نهاية المرحلة الكولونيالية. لكن رغم جوهريته، لم يكن لوحده كافيا للقضاء على الاستعمار الكولونيالي وتخليص الوطن من نيره. إذ من أجل ذلك، كان لا بد أن تتناقض مع الوجود الكولونيالي، مصالح كل طبقات وفئات المجتمع، أو على الأقل أغلبيتها الساحقة، وهذا بالضبط ما تحقق في تلك الفترة”.[8]
لقد واجهت كل الطبقات والفئات الاجتماعية الاستعمارَ الفرنسي، فما هي هذه الطبقات والفئات إذن؟
هذه الطبقات هي:
– الفلاحون الذين تمت بلْتَرَتُهم.
– الحرفيون والتجار الصغار.
– المثقفون التقليديون أبناء الحرفيين والتجار والفلاحين.
– البورجوازية المغربية التي نمت في أحضان الرأسمال الكولونيالي.
– المثقفون العصريون أبناء البورجوازيين.[9]
هذه هي الفئات التي واجهت الاستعمار العسكري الفرنسي، معبرة بذلك عن “ثورة ملك وشعب”.
وذلك هو التناقض الذي كان قائما في المرحلة الأخيرة للاستعمار، والذي همّت جميع الفئات والطبقات الوطنية لحلّه عمليا.
فما هو التناقض القائم اليوم بسبب أزمة “كورونا”؟
وكيف يسعى المغاربة إلى حلّه عمليا؟
التناقض القائم اليوم هو: تناقض بين جميع الفئات والطبقات الاجتماعية الوطنية، وبين رأسمالية متوحشة أنتجت أزمة بيئية معولَمة وتستثمر فيها.
يسعى المغاربة لحل هذا التناقض، ولو مرحليا (فالموت لا يرحم أحدا)، بتحالف كافة الطبقات والفئات ضد ما أنتجته الرأسمالية المتوحشة (“كوفيد-19” والاستثمار فيه).
لقد تحالفت ضد هذا الخطر المفاجئ كل الفئات والطبقات التالية:
– البورجوازية الكبيرة المغربية بكافة مؤسساتها وقوانينها وآلياتها المتعددة (مع التساؤل عن 1000 شركة فرنسية، وأخرى أجنبية، تمتص فائض القيمة من العامل المغربي، وتستفيد من: يد عاملة رخيصة، وبنيات تحتية ميسَّرة، وخامات محلية، وإعفاء ضريبي…).
– الفقهاء والدعاة والوعاظ المستقلون، باعتبارهم يمثلون فئات واسعة من شباب المغرب المنتمين إلى الطبقة الوسطى أو ما دونها من الطبقات.
– الأحزاب الوطنية التي تمثل الطبقة الوسطى وتدافع عن مصالح ما دونها من الطبقات.
– النقابات ممثّلة الفئة الشغيلة في مختلف القطاعات.
– الحركات والجماعات الدعوية الإسلامية، باعتبارها تمثل الطبقة الوسطى أو ما دونها من الطبقات.
…
هذه هي الفئات التي تواجه اليوم “كوفيد-19” وطنيا، وانتصارها في هذه المعركة لن يكون إلا وطنيا ناتجا عن تحالف وطني.
5-الخوف يفنينا والأمل يحيينا
كفانا خوفا وذلاّ، فلنأخذ بأسباب الوقاية والعلاج ولنتهيّأ لعالم ما بعد “كورونا”.
كفانا خوفا وذلا، فلسنا إلا أسبابا صغرى في معادلة كبرى.
كفانا خوفا وذلا، فالمعركة لم تبدأ مع “كورونا” ولن تنتهي بزوالها.
كفانا خوفا وذلا، فالحياة ليست وحدها هي الحقيقة الكبرى. ففي الموت حياة، وفي الحياة موت. وليس ذلك على مستوى واحد، وإنما على جميع المستويات: العضوية والنفسية والاقتصادية والسياسية والثقافية…
كفانا خوفا وذلا، فأسرى فلسطين يعيشون اليوم معركتين: معركة الاستقلال الوطني وطرد الكيان الغاصب اللعين، ومعركة مواجهة “كرونا” داخل السجون الإسرائيلية.
كفانا خوفا وذلا، فلا خير في أمة تعيش غربتها وتيهها وانحرافها والقرآن بين أيديها.
كفانا خوفا وذلا، فالمغاربة أمة عظيمة أنجبت عبد الرحمان ابن خلدون من بين أنقاض الطاعون.
كفانا خوفا وذلا، فالموت أنواع، والحياة أنواع. فكم من ميت حي، وكم من حي ميت.
كفانا خوفا وذلا، فالعلماء يدعون إلى تحري سبل الوقاية والعلاج، ولكنهم لا ينسون أدوارهم المتمثلة في تهدئة النفوس وطمأنة القلوب.
كفانا خوفا وذلا….
5-راجع “فلسفة التاريخ”، لجاسم سلطان. يتحدث جاسم سلطان في هذا الكتاب عن ست نظريان في فلسفة التاريخ: نظرية ابن خلدون، نظرية أرنولد توينبي، نظرية هيجل، نظرية ماركس، نظرية مالك بن نبي، نظرية عماد الدين خليل. لقد كان هذا الكتاب من أوائل الكتب التي قرأتها، وهو كتاب يوصى به للمبتدئين حتى يشكلوا صورة عامة عن التيارات الفكرية والفلسفية الرائجة. قد يكون هذا الكتاب حاملا لبعض الأخطاء المعرفية في التعامل مع المدارس الفكرية والفلسفية، ولكنه مهم كلبنة أولى في المسار الفكري لأحدهم.
6-مقال: “من الموت الأسود إلى فيروس كورونا… 10 أوبئة غيرت مجرى التاريخ البشري”، موقع “الجزيرة-نت”، المصدر: الصحافة الأمريكية.
7-يقصد التناقض بين “الطابع الوطني للطبقة العاملة المغربية، وبين الطابع الكولونيالي للطبقة البورجوازية الفرنسية السائدة التي تقوم بتحويل وتهريب الجزء الأعظم من أرباح الرأسمال إلى الخارج”. (نفس المرجع أسفله، نفس الصفحة)
8-عبد السلام الموذن، الدولة المغربية، منشورات الملتقى، الطبعة الثانية، 2018، ص 45.
بارك الله فيكم. مقال يشفي الصدر ويريح البال.