خلق المراقبة بين المبدأ والتطبيق
بقلم: حسن بوجعادة
إذا كان جزاء الإنسان المتقاعس في عمله والمتنصل من مهمته في القوانين الوضعية هو معاقبته بأساليب ترده عن غيه وتقوم سلوكه كالسجن والغرامة، فإن الشريعة الإسلامية تقرر، إضافة إلى المساءلة والمحاسبة في الدنيا بما يردع المذنب، العقاب الأخروي حيث يحاسب الإنسان عن أفعاله وأقواله وتصرفاته ويسأل عن المسؤوليات التي كلف بها.
فعلم الإنسان بأن الله مطلع عليه، يرى حركاته وسكناته ويعلم ما يخفي صدره وما توسوس به نفسه، كل ذلك يربي فيه خلق المراقبة الذي يجعله دائم الاتصال بالله عز وجل، حريصا كل الحرص على الامتثال لشرعه والخضوع لأمره والسعي إلى مرضاته.
وهذا يوضح بجلاء أن الانحرافات التي نراها في حياتنا والتصرفات المشينة السائدة في مجتمعاتنا هي نتيجة لغياب خلق المراقبة.
كما أن الاستهتار بالمسؤولية وسوء التدبير وغياب الجدية وعدم التفاني في العمل في كثير من المجالات هو ثمرة مرة لعدم التخلق بخلق المراقبة.
فكيف يمكن أن نوطن النفس على هذا الخلق لإعداد الفرد الصالح؟
وكيف يمكن أن نجعل من المراقبة حصنا يحمي المجتمع من تفشي الاستهتار وغياب المسؤولية؟
1- حقيقة المراقبة:
“المراقبة هي ملاحظة الرقيب وانصراف الهمم إليه؛ فمن احترز من أمر من الأمور بسبب غيره، يقال إنه يراقب فلانا ويراعي جانبه، ويعني بهذه المراقبة حالة للقلب يثمرها نوع من المعرفة وتثمر تلك الحالة أعمالا في الجوارح وفي القلب”(1)
قال ابن القيم: «المراقبة دوام علم العبد وتيقنه باطلاع الحق سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه؛ فاستدامته لهذا العلم واليقين به هي المراقبة، وهي ثمرة علمه بأن الله سبحانه رقيب عليه ناظر إليه سامع لقوله وهو مطلع عليه كل وقت وكل لحظة”(2)
وفي موضع آخر يقول رحمه الله مبينا مكانة المراقبة ” فالمراقبة أساس الأعمال القلبية كلها وعمودها الذي قيامها به، ولقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم أصول أعمال القلب وفروعها كلها في كلمة واحدة هي قوله في الإحسان: “أن تعبد الله كأنك تراه“(3)
قال الإمام القشيري: “المراقبة علم العبد باطلاع الرب سبحانه وتعالى عليه واستدامته لهذا العلم مراقبة لربه وهذا أصل كل خير له.
ولا يكاد يصل إلى هذه الرتبة إلا بعد فراغه من المحاسبة فإذا حاسب نفسه على ما سلف وأصلح حاله في الوقت ولازم طريق الحق وأحسن بينه وبين الله تعالى مراعاة القلب وحفظ مع الله تعالى الأنفاس راقب الله تعالى في عموم أحواله فيعلم أنه سبحانه عليه رقيب ومن قلبه قريب يعلم أحواله ويرى أفعاله ويسمع أقواله”(4)
2 – المواطن التي تكون فيها المراقبة:
والمراقبة التي تؤثر في تقويم سلوك المرء وتحسين أخلاقه وتقوية صلته بربه تكون في ثلاثة مواطن:
قال الحارث بن أسد المحاسبي: “والمراقبة في ثلاثة أشياء: مراقبة الله في طاعته بالعمل، ومراقبة الله في معصيته بالترك، ومراقبة الله في الهم والخواطر لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك).
ومراقبة القلب لله عز وجل أشد تعبا على البدن من مكابدة قيام الليل وصيام النهار وإنفاق المال في سبيل الله”5
الموطن الأول: مراقبة الله عز وجل في الطاعات
استشعار العبد بأن الله يراه ويراقبه عند أدائه للواجبات وقيامه بالطاعات يجعله حريصا على الاجتهاد في أعماله وتحري الإخلاص فيها سعيا إلى رضا الله عز وجل.
الموطن الثاني: مراقبة الله في المعاصي
مراقبة الله تعالى والخوف من عذابه وبطشه هو الذي يجعل العبد يحجم عن المعصية ويتراجع عن فعل المنكر، وبذلك تكون المراقبة في هذا الموطن أشبه بالناصح الأمين الذي ينبه من المعصية ويحذر من مغبة ارتكابها، فيردع ويزجر بقوة فيحول دون ارتكاب المعصية واقتراف الخطيئة.
الموطن الثالث: مراقبة الله في الأفكار والنيات
إن الله عز وجل قريب من عباده، يعلم نواياهم وما تكن صدورهم ويعلم حتى الأفكار والخواطر التي تراودهم، يعلم كل ذلك جملة وتفصيلا، قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۖ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيد} (قـ 16)
وقال أيضا: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} (البقرة ـ 284)
لذلك فإن المؤمن الصادق يعمل على تصحيح نيته ويجاهد نفسه كي يتخلص من كل النوايا الفاسدة عند كل عمل صالح يريد القيام به.
3 – القرآن و التربية على مبدأ المراقبة:
تدبر كتاب الله عز وجل والوقوف عند الآيات التي تشير إلى علم الله عز وجل الذي أحاط بكل شيء، ثم التفكر في قدرة الله عز وجل وعظمته قصد الإنابة إليه والتمسك بشرعه، يربي النفس على التخلق بخلق المراقبة الذي يردع النفس عن غيها ويحررها من هواها ويحميها من نزغات الشيطان.
قال تعالى: (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾(الطلاق ـ 12).
إن الله عز وجل عظيم … قدير… أحاط بكل شيء علما.
يعلم أحوال الأمم التي عاشت في سالف الأيام، والأحداث التي وقعت في غابر الأزمان.
يعلم الأحداث والأزمات التي تقع في العصر الحاضر، يعلم حقائقها وتفاصيلها، لا يعزب شيء من ذلك عن علمه في مشارق الأرض ولا في مغاربها.
يعلم ما سيقع في مستقبل الأيام وكذا أحوال الناس الذين لم يولدوا بعد: جنسياتهم، صفاتهم، طبائعهم وعقائدهم و كل ما يتعلق بأحوالهم الاجتماعية والاقتصادية، وحتى الأحداث التي لم تقع لو أنها وقعت فإن الله يعلم كيف ستكون، قال تعالى في شأن أهل النار: (وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ).(الأنعام 27 ـ 28)
وقال تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} (الأنعام ـ 59)
هناك أمور غيبية وأشياء خفية لا يعلمها إلا الله عز وجل، فلا يطلع عليها لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، وهذه الأمور الخفية ذكرها الله تعالى في سورة لقمان حيث يقول جل جلاله: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًاۖوَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (لقمان ـ 34 )
ولو حاول كل الخلائق إنسهم وجنهم فسخروا كل إمكانياتهم وقدراتهم وحاولوا الاطلاع على هذه الأمور والكشف عنها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا ولذهبت كل جهودهم سدى.
إن الذي يعلم هذه الأمور الخفية يعلم أيضا كل ما في البر والبحر يعلم المخلوقات والموجودات والجمادات والنباتات، يعلم الحركات والسكنات، وحتى الأشياء الدقيقة التي يصعب رؤيتها بالعين المجردة فإن الله يراها ويعلمها ولو وجدت في ظلمات الأرض والبحر، قال تعالى: (إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء) (آل عمرن الاية5).
4 ـ تجليات خلق المراقبة:
المراقبة درجة من درجات الإحسان، والإحسان كما جاء في الحديث النبوي: “أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك“.
وكي يصل المرء إلى مقام الإحسان لابد من تحقيق المراقبة، وهذه الأخيرة هي التي تعينه على استحضار عظمة الله عز وجل والحياء منه ثم المسارعة إلى طاعته والابتعاد عن معاصيه.
قال أبو حامد الغزالي: “ولن تصل أيها الطالب إلى القيام بأوامر الله تعالى إلا بمراقبة قلبك وجوارحك في لحظاتك وأنفاسك حين تصبح إلى أن تمسي.
فاعلم أن الله تعالى مطلع على ضميرك ومشرف على ظاهرك وباطنك ومحيط بجميع لحظاتك… وخطواتك …. وسائر سكناتك … وحركاتك وأنك في مخالطتك وخلواتك متردد بين يديه، فلا يسكن في الملك ساكن ولا يتحرك متحرك إلا وجبار السماوات والأرض مطلع عليه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ويعلم السر وأخفى، فتأدب أيها المسكين ظاهرا وباطنا بين يدي الله تعالى تأدب العبد الذليل المذنب في حضرة الملك الجبار القهار”(6)
قال ابن القيم:” هي التعبد باسمه الرقيب، الحفيظ، العليم، السميع البصير، فمن عقل هذه الأسماء، وتعبد بمقتضاها حصلت له المراقبة والله أعلم”.
قال أبو حفص لإبن عثمان النيسابوري: إذا جلست للناس فكن واعظا لقلبك ونفسك ولا يغرنك اجتماعهم عليك فإنهم يراقبون ظاهرك والله يراقب باطنك” (7)
المراقبة لله تعالى والحياء منه سبحانه أن لا يراه حيث نهاه، وفي هذه المراقبة من كمال الإيمان بالله تعالى والاستغراق في تعظيمه وتقديسه أكبر معد النفوس ومؤهل لها لضبط النفس ونزاهتها في الدنيا، وسعادتها في الآخرة.
قال محمد رشيد رضا: “وكما تؤهل هذه المراقبة النفوس المتحلية بها لسعادة الآخرة تؤهلها لسعادة الدنيا أيضا؛ انظر هل يقوم من تلابس هذه المراقبة قلبه على غش الناس ومخادعتهم؟ هل يسهل عليه أن يراه الله آكلا لأموالهم بالباطل؟ هل يحتال على الله تعالى في منع الزكاة وهدم هذا الركن الركين من أركان ډينه؟ هل يحتال على أكل الربا؟ هل يقترف المنكرات جهارا؟ هل يجترح السيئات ويسدل بينه وبين الله ستارا؟
كلا؛ إن صاحب هذه المراقبة لا يسترسل في المنكرات”. (8)
5-الأثر التربوي لخلق المراقبة:
النجاح في منصب من المناصب أو وظيفة من الوظائف يتوقف على خبرة الشخص الذي كلف بها ومدى معرفته بطبيعتها، لذلك يتم إعداده وتدريبه وفق مناهج تعليمية وتربوية، لكن الإخلال بالمسؤولية وانتشار الفساد في كثير من القطاعات وتدني مستوى الأخلاق لدى كثير ممن كلفوا بمهمة من المهمات يؤكد لنا أن التعليم المجرد من الأخلاق والمعرفة الخالية من المبادئ تكون عديمة الجدوى وأن الكفاءات في غياب الخوف من الله لا يمكن أن تعطي النتيجة المرجوة منها.
وبالتالي صار لزاما أن تصبح التربية على خلق المراقبة من الأولويات ومن صفات الموظف الناجح.
فالمعلم الذي يعطي لتلامذته عصارة قلبه ويجود ببنات أفكاره هو إنسان يستحضر مراقبة الله ويخشى عقابه.
والموظف في قطاع من القطاعات الذي يلتزم بالوقت في حضوره لمقر عمله ولا يغادره قبل الوقت هو إنسان يدرك أن الله يراقبه.
والتاجر الذي يتحرى الصدق في تجارته فيتفادى الغش والتزوير والتضليل يعرف جيدا أن الله يراه ويراقبه.
ورجل السياسة الذي يكرس نفسه لخدمة الناس ويخصص وقته للاستجابة لمتطلباتهم ولا يجعل من منصبه وسيلة لزيادة ثروته ولا لتحقيق مصالحه الشخصية والعائلية, ويؤدي مهمته بصدق وإخلاص يعرف أن الله يراه ويراقبه.
والمواطن الصالح الذي يساهم وفق إمكانيته وفي حدود وظيفته في إصلاح مجتمعه ويساهم في نشر الخير بين أفراده يدرك جيدا أن الله يراه ويراقبه فيسعى إلى مرضاته.
الهوامش والمراجع:
1-موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين (1/307)
2-ابن القيم الجوزية –مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (2/64)
3-ابن القيم الجوزية – إعلام الموقعين عن رب العالمين (4/156)
4-الرسالة القشيرية-(1/329)
5-الحارث ابن أسد المحاسبي (1/181)
6-أبو حامد الغزالي- بداية الهداية –ص :28
7-ابن القيم الجوزية – مدارج السالكين (2/64)
8-محمد رشيد رضا – تفسير المنار – (2/117)