لماذا يفرنسون التعليم؟
بقلم: الرحالي الفاروق
إذا كنا متشبثين بحق العروبة، ومتفقين على أن التعريب ضرورة وطنية، ومصلحة قومية، وأن الوصول إليه يتم في مراحل معقولة ومضبوطة، فما معنى هذا التباطؤ والتثاقل، واستمرار العجز في الإطار العربي؟
وما معنى التراجع في التعريب إلى الوراء، وسلوك طريقة أخرى؟
وما معنى قول بعض المسئولين في التربية الوطنية سابقا، أن التعريب عملية لا تتحقق إلا بعد عدة أجيال، وأنتم تعلمون أن الأجيال جمع جيل، والجيل عند علماء الاجتماع أربعون سنة، والجمع أدناه عند علماء اللغة ثلاثة.
ومعنى ذلك أن التعريب لا يتيسر إلا بعد مائة وعشرين سنة، أي بعد أن يصبح المغرب كله متفرنجا مائة في المائة.
وهل هذا إلا تلاعب بمقدارات الأمة ومصالحها الكبرى؟
هل هذا إلا تخاذل في نصرة الحق؟
أي نصرة اللغة التي عصفت بها العواصف، ولاقت الأمرين من أعدائها، وعاشت على وضع شاذ غريب بين أهلها، وهي لغة الآباء والأجداد، ولغة الوجود والتاريخ، ولغة العلم والحياة، ولغة الدين والعقيدة، فأين هي الغيرة والشهامة؟ وأين هي العزة والكرامة؟
إن اللغة هي التي تعبر عن الحاجات والمختلجات والمبتكرات والآمال والذكريات.
إن قيام اللغة، ونفوذ اللغة؛ معناه قيام الدولة ونفوذها.
التعريبُ: جعْلُ الشيء عربيا، كان هذا الشيء إنسانا أو كلاما، أو معنى من المعاني، فيدخل ترجمة الكتب، ونقل سائر المصالح من لغة أجنبية إلى لغة عربية، فمن أراد أن يعرب فليتعرب بقلبه ولسانه وسيرته، وليؤمن بذلك في ظاهره وباطنه؛ إذ المدار على الإيمان والإذعان، لا على القول واللسان.
وهذا الاستعمار الذي هو معنى من معاني الخبث والقبح، طمع في التعريب لا لشيء وإنما ليشوه صورته، ويلطخ سمعته، لأنه لا يؤمن بقضيته، ولا يعترف بمصلحته.
لقد سمعنا ما كان من معركة التعريب التي لم تنته من بعد، والتي لم تسفر عن سعد.
لقد حشر الناس أنفسهم في هذه المعركة، وحشرنا أنفسنا معهم بما نملك من القدرة والطاقة، اعتقادا منا أنها معركة تتصل بحياة الأمة الروحية، وشخصيتها القانونية؛ فإن أي وطنية كانت لا تتقدم إلا بسلاح الإيمان، ولا تتقدم إلا ببيان اللسان، وأن أي لغة كانت لابد أن تستتبع العقيدة والعادة، فمن كانت ثقافته الأولى بلغة من اللغات سار إلى عقائدها وعوائدها، أحب من أحب، وكره من كره، وفي تاريخ المغرب الحاضر عظة وعبرة لكل متبصر ومستبصر.
ولقد كان من سداد الرأي أن لا تكون ضجة ولا لجة في هذا الشأن؛ أي التعريب؛ فالمغرب منذ كان مسلما، وهو يعيش مؤمنا، ويسير عربيا صميما، لغته لغة الفرقان، ودينه دين القرآن، وقبلته وحضارته إلى الشرق، والشرق منبع الخير والفضل، وموطن الهداية والنور، فتمكنت اللغة بمرور الأيام، وكرور الأعوام من مشاعر هذا البلد ومظاهره أيما تمكن، ربيت بها أجياله الصغرى والكبرى، وصارت عليها أعماله الدنيا والأخرى، وكانت الدول التي تحكمه لا تعرف في سياستها وثقافتها غير السياسة الإسلامية، والثقافة العربية.
وليس معنى هذا أننا لا نعترف بتعاطي اللغات، وتواصل الثقافات، وأننا ننكر السير في الطليعة مع الطبيعة.
كلا ثم كلا، بل ذلك مما يزيد في قيمة الشخصية، وتنمية مداركها، وتكييف آفاقها، ولقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه، أن يتعلم اللغة السريانية للحاجة إليها، فتعلمها في زمن قليل، ومن تعلم لغة قوم أمن من شرهم، وعلم بمكرهم، ومن أقوالهم كل لسان بإنسان.
ومن أمثالهم: الناس بأزمانهم أشبه منهم بآبائهم.
وإنما القصد أن تكون اللغة الوطنية هي قطب الرحا، تعتمد في مراكز التعليم، ومصالح الإدارة، ومرافق الحياة بأسرها، بحيث تكتسي صبغة القداسة في حياة الأمة، لا ينازعها منازع، ولا يسبقها سابق، ولا يملك الصدارة غيرها؛ فهي أم الوطن الأولى، تغذيه وتربيه، يجب البرور بها، والقيام عليها قبل غيرها.
وإنما القصد أن نأخذ العلوم بلغتنا لنهضمها كما كان الأولون يفعلون، وليتأتى للشعب أن يستفيد من الوسط المثقف بواسطة لغته، وأما الاستفادة من اللسان الأجنبي فلا تتعدى صاحبها إلى غيره.
ولم يزل المغرب كما قلنا مسلما عربيا، لم يتحلل من مروءته، ولم يتحول عن لغته إلى أن بُليَ بشيطان الاستعمار، فمن ذلك الوقت انخدش وجه لغته، وفترت بعض الفتور، ولكن بلاد المغرب بلاد الطائفة الظاهرة على الحق، لن يكتب لها أن تعرف استعمارا طويلا، مثلما عرفه غيرها من البلدان القاصية والدانية.
فهي أقصر بلاد استعمارا، وأكثر بلاد الله انتصارا، وتلك السنوات المعدودة لا يمكنها أن تنسي معالم العز والمجد، ولا أن نقضي على اللغة والتاريخ، ولا أن تضللنا وتحيرنا إلى هذا الحد المتخيل.
حقا إننا كنا عند الفترة الأولى من الاستقلال، في أمس الحاجة إلى الإسراع بتحويل تركة الاستعمار من قوانين ورسوم، وخطط ومصالح وخرائط إلى لغتنا وطبيعتنا ومصالحنا، لأن طبيعة الاستقلال غير طبيعة الاستعمار، ولأن مصالح الاستقلال غير مصالح الاستعمار، ولكننا أخذنا التركة وأقررناها على حالها لأمر يعلمه الله.
وعلى ذلك فإن هذه البلاد لا تستحق أن توجد بها ضجة ولو مصنوعة، إذ سلسلة تاريخها بحمد الله موصولة لا مقطوعة، وأربعون سنة لا تعد شيئا في تاريخ أمة عاشت قرونا متطاولة المدى، مرفوعة الرأس، موفورة الجانب، خطبت ودها أم الشرق والغرب ونصرت من كان متاخما لها من أهل الأرض بلوائها المعقود، ونفيرها المشهود.
والحق أن اللغة العربية تعوقها عوائق، وتقف أمامها عراقل، وأكثر هذه العراقل منصوب من أبنائها، ومنسوب إلى أوليائها، وبعض هذه العراقل، وهو شيء قليل يمكن أن يعزى إلى سيطرة الاستعمار على الأمة العربية جمعاء، فهو الذي أخذ من نفوذها ومن أدبها، بدل أسماءها بأسمائه، وأوضاعها بأوضاعه، ومدارسها بمدارسه، وتلك طبيعة القوة والضعف {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140] يتصوبون مرة ويتصعدون أخرى، تبعا لحكم القدر في نظام هذا البشر.
غير أنه لما ثار تيار التحرير، وعافى الله الأمم من هذا الداء العضال، وأخذت الأمم العربية كغيرها من الشعوب، تقرر مصيرها، وتبني مستقبلها، وتدير شؤونها، أفليس من المصلحة أن تفكر في وحدتها على أساس قوي متين من اللغة والعقيدة والتاريخ؟
ليندرج في ذلك وحدة التعريب والتعليم، ووحدة المواسم والأعياد، ووحدة الأهداف والأعراف.
الواقع؛ أن شيئا من هذا لم ينتجز، وأن الوحدة التي ترددت أصداؤها ظلت أملا باطلا، وحلما ضائعا، نظرا لعوامل الاختلاف الموجودة بين الأمم العربية، واستفحال هذا الاختلاف في أنظمة الحكم وسياسة المجتمع.
ولو أراد الله بهذه الأمة خيرا لاجتمعت على ما جمعها الله عليه {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، وحبل الله الذي نعتصم به ونجتمع عليه هو: كتابه العزيز الذي من أخذ به نجا، ومن زاغ عنه هلك.
وإذا؛ فلا يستطيع التعريب أن يبرز للعيان، ويخطب بفم الزمان، ولا يمكن أن يظهر أثره في إذاعات الشعب العربي، وإدارته وتجاراته وصناعاته وكتابته وصحافته، إلا إذا كان هناك إيمان قوي بالتعريب، لا مخادعة فيه ولا مخاتلة، وإلا إذا قامت سلطة لغوية واحدة لا تحالف فيها ولا تنافر – وما دام الإيمان به متضعضعا، وما دامت السلطة متفرقة، فلا يزول النفوذ الأجنبي عن أدمغتنا وألسنتنا، وكل جهد مع الاختلاف فسيبوء بالفشل، وكل إيجاب في الظاهر فسيؤول للضياع.
وهنا يمكن أن نتساءل، ما هي نتائج المجالس اللغوية التي أجهدت نفسها من قبل؟ وما هي فوائد التوصيات العربية التي تعددت وتكررت؟ وما هو العمل الظاهر الواضح التي تمخضت عنه معاهد التعريب في واقع الأمة العربية؟
إن الذي نراه ونشاهده أن هذه الجهود تذهب أدراج الرياح، وأنها لا تغير من الواقع شيئا، ولذلك نؤكد أن النظريات غير الحقائق، وأن الوحدة غير الاختلاف، وأن التعريب الجزئي غير التعريب الكلي …
التعريب له جانبان:
أحدهما: تعريب التعليم والإدارة تعريبا جليا وعمليا، وهذا التعريب شيء ضروري لحياة اللغة وضمان وجودها ونفوذها، فلا مبرر لتأخيره وتعطيله ولا مناص من الشروع فيه طبق برنامج صحيح وتصميم واضح، وغاية معروفة لا دَلَس فيها ولا وَلَس، حتى يكون كل مواطن على بينة من أمر التعريب، في بدايته وفي نهايته.
وثانيهما: تعريب المصطلحات العلمية والتقنية، وهذا شيء يدخل في دراسة عميقة من مجلس لغوي عام يتكفل – ببحث المعاجم اللغوية، والدواوين الأدبية، والمظان الخطية، لبعث الكنوز الموجودة في تضاعيفها، والغائبة عن ذكر أبنائها.
ولا يخفى أن اللغة العربية لغة ثرية وغنية بالكلمات التي تتلألأ نورا وإشراقا، وتترقرق حياة وماء، كما يتكفل بتوفير المواد اللغوية، وتوسيع دائرتها بطرق النحت والاشتقاق والقياس، تلك الطرق التي كانت تستخدم إبان عز الدولة العربية، ومجد اللغة وازدهارها، وكما يقوم بتقرير إدراج الكلمات الأجنبية التي لم يوجد ما يقابلها في العربية، والكلمات العامية التي تغلب في الاستعمال، وتقترب من اللغة الفصحى، على أن يكون لهذا المجلس سلطة تخوله إصدار القرارات اللغوية، ومجلة تساعده على نشر ما حرر من مواد، وما قرر من استعمال.
وتعتبر هذه المجلة بمثابة الجريدة الرسمية عند أهل السياسة، في تنفيذ كل ما تم نشره بها على الفور، بمجموع الأقطار المعتزة للعروبة، إذا أمكن ذلك، وتأتى الوصول إلى تعريب عام، وهذا التدبير خطوة مؤقتة، دعوة مستعجلة، ريثما ينهض الشعب العربي من تأخره الفكري، وتخلفه الخلقي، فيصبح قادرا على الصنع والوضع، وتصدير الأسماء والمسميات، وما ذلك على الله بعزيز.
غير خاف أن قضية التعريب عزيزة مقدسة لا ينبغي أن تكون مجالا للتيارات السياسية، ولا مثارا للاستغلالات الثقافية، وأمة بدون لغة أو بلغة يسودها الفوضى، لا تستحق الذكر والثناء، ولذلك فلابد من إيمان صادق، وعمل ناطق، وعزيمة مشحوذة لا تعرف كلالا ولا ملالا.
ومن الذمام علينا أن نستيقظ في قضية كهذه تحفظ رمز الأمة، وتحمل شعارها الخاص، ونتناصر بالعمل لا بالسكوت، فإن السكوت ربما دعم المتقاعس والمتناعس، والآن برح الخفاء، فقد تهيأت أسباب العمل، وتقررت حرية الآراء، ولا سيما في الدفاع عن الحق، فلم يبق لواحد منا تعلة ولا معذرة: {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 38].
ومن الفرص الحميدة التي ظهرت في الأفق، والتي تستطيع نصر التعريب وإخراجه من حملة الكلام والدعاية إلى حملة الإنجاز والتنفيذ، قانون الدستور الجديد الذي وضعه جلالة الملك الحسن الثاني أيده الله.
وقد حكم هذا الدستور حكما صريحا، بأن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للبلاد، وبذلك يتعين السير في طريق التعريب الصحيح، بحكم الدستور الجديد حتى لا تبقى على المعارضة العمياء، التي تلعب على الحبلين، وتتغامز بالعينين.
ولا بأس أن نشير إشارة إلى ما آل إليه أمر اللغة اليهودية بعد قيام إسرائيل:
كانت هذه اللغة إلى عهد قريب لغة متأخرة قاصرة على نواميس الدين والعبادة، كما يقول العصريون، فاحتضنتها دويلة إسرائيل الغاصبة لفلسطين، والعادية على عرب فلسطين، وأدخلتها إلى معمل الحياة، فصهرتها وصقلتها حتى أصبح لها شأن ومجال في الصحف والمجلات الكبرى، تحرر بها الموضوعات العلمية، والقضايا السياسية، وما كان ذلك لولا همة أصحابها، وإيمانهم بضرورة حياتها.
على أن اللغات البشرية، والقوانين الحكمية، مهما يكن فيها من حيوية وصلاحية، لا تنهض بنفسها، وإنما تنهض بالرجال الذين تحدوهم ضمائرهم، ومشاعرهم إلى القيام على حفظ مصالحهم، وصون مآثرهم.
فالرجال هم الذين يخلقون المعجزات، ويصنعون اللغات، وهم الذين تقام بإيمانهم الشعائر، وتدفع بإيمانهم الكبائر.
وهذا كتاب الله، وهو ميزان العدل في الأرض، وخير ما ينهض بالبشرية ويسوي خلافها ومشاكلها، قد وضع على الرفوف، وأبعد من ساحة الصفوف، والناس منصرفون عن هديه، متصرفون بغير أمره، فكيف بما هو دونه من أحكام وألفاظ.
فالرجال هم المصلحون إذا صلحوا، وهم المفسدون إذا فسدوا: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 11، 12].
هذا ويمكن للباحث أن يحصر الأسباب التي تهدد حياة اللغة العربية، وتقطع عنها مادة الإصلاح والتجديد في كلمات ثلاث: الجهل – والضعف، والاختلاف.
ومن ذلك تعلمون أن الجمود الذي يردده بعض الناس، ليس آتيا من اللغة العربية؛ بل هي بحكم واقع التاريخ: لغة حية وخصبة ومتفتحة ومستعدة أن تنفق من كنوزها في كل وقت إذا آمن بها أهلها، واجتمع شملها.
وكم من كلمة أخذها العجم منها لصالح لغاتهم، وحرفوها لتوافق طبيعة لسانهم، بينما أهلها الأقربون يرمونها ويلومونها، وهم الملومون لجهلهم واختلافهم وانسياقهم وراء كل ناعق.
وبعد فسبيل الخلاص هو في تعاون القوم، ومواصلة الجهاد، وإخلاص العمل، من دون يأس ولا استسلام، فإن الحياة معركة دائبة والنصر فيها لمن آمن واتقى، وهذه كلمة الله إلينا: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2]*.
مصدر المقالة:
مقالة: ” التعريب ومقتضياته”؛ جريدة الميثاق؛ عدد 119-120؛ سنة 1970.