التربية الإيمانية والتربية الإنمائية
بقلم: الرحالي الفاروق
من المتواتر عند أهل المعرفة والبصيرة الذين عاركوا الدنيا واختبروها من قبل ومن بعد، أن النهوض بالحياة في إطارها العام، يستلزم أولا الاهتمام بكائن الإنسان؛ إذ هو القوة الفعالة التي تفجر الطاقات والينابيع، وتحرك الأجهزة والدواليب، وتخلق الخوارق والمعجزات، وتضع حدا للأزمات والمشكلات، ويستدعي ثانيا النظر في طبيعة الأرض، والبحث عن ثرواتها، وتخطيط برامج إصلاحها، ومناهج توزيعها، إذ هي المجال الفسيح الذي تظهر فيه عبقرية الأفكار، وسياسة العدل والانتصار، والميدان الواسع للقوة والعمل، والمصدر الطبيعي للحياة والإنتاج، فهي منشأ الخير والازدهار، وموضع القوة والابتكار، وهذا للعاملين والمالكين، وليست للمحتكرين ولا للمغتصبين.
والله جلت عظمته أنشأ الإنسان من الأرض واستعمره فيها، فكانت بينهما علاقة مادية، وارتباط طبيعي كما قال: {ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين}[1].
ومن ثم كان لا مناص من العناية بالإنسان في الحاضرة والبادية على السواء، ولا غنى عن تعهد تربيته وثقافته لكل أمة تتعشق التقدم والسعادة وتترجى الحصول على العزة والسيادة، {والذين أحسنوا الحسنى وزيادة}[2].
ولما كان الإنسان حاملا للأمانة ومنتدبا للخلافة، خاطبه الله بقوله: {اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنين}[3].
ومعنى الآية والله أعلم: اعملوا بقصد وبنشاط فإن الله سبحانه سيراقب العمل، وأن رسوله سيتلقى نتيجة الأمر بالعمل، وأن الجماعة ستستفيد من وراء ذلك العمل، وإذا فالعاملون تحت رقابة من الله والرسول والناس – وكل منهم مأمور أن يعمل ضمن مجتمعه على حسب تربيته ومستوى معرفته، والعمل المتعدي خير من القاصر على صاحبه، إلا أن الإنسان يعمل لنفسه بحكم الطبيعة التي تحركه، وحقوقه الشرعية التي تملكه، وأن عمله مقيد بما لا يضر مصلحة الجماعة الذي هو فرد من أفرادها وعضو من أعضائها.
ومن أجل ذلك يمكن أن تحوم حوله القوانين العادلة، التي تتحرى المنفعة الشاملة، والتقارب بين أفراد العائلة.
وفي هذا الموضوع مواد خالدة تزيده قوته ومتانة، كقوله تعالى: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله}[4].
وفحوى هذا الخطاب والله أعلم: أن كل واحد مكلف بالعمل في الأرض ابتغاء الخير والفضل وهذا ما يقضي على آفة البطالة والعطالة، فإن الإسلام لا يسمح للقادر بترك العمل، وحتى في يوم الجمعة الذي هو عيد من أعياد المسلمين فإنه لا مجال لترك العمل بمقدار ما تهيأ فيه للصلاة – وأن العمل لله مقدم على العمل لغير الله وهذا ما يبين أن العمال وقت ممارستهم لعملهم من حقهم أن يؤدوا وظائف دينهم كالصلاة في وقتها المحدود.
ويلزم أن يكون ذلك ضمن قوانين العمل، والقوانين طبعا تصاغ من تقاليد الأمم وعقائدها وحاجاتها؛ كقوله تعالى: {فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه}[5]، فالرزق المطلوب لا يحصل إلا من تقلبات الإنسان في مناكب الأرض وجوانبها القريبة والبعيدة، وتحركاته المستمرة في الحقول والمعامل والمصانع، كقوله تعالى: {والأرض وضعها للأنام فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام والحب ذو العصف والريحان}[6].
امتن الله تعالى بالأرض التي جعلها مسرحا للخلق منفذا لمنافعهم كما قال تعالى: {والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم}[7]، كما أنه سبحانه جعل ما عليها من المال والمتاع زينة وشهوة للابتلاء والاختبار: هل يسير المرء على هدي من الله، أو على ضلال؟
إقامة للحجة عليه، وإلا فهو سبحانه أعلم به.
وقال جل شأنه: {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها}[8].
وهذا أمر بإصلاح الأرض وعمارتها، ونهى عن إفسادها وإهلاك حرثها ونسلها، بالتحدي للعقائد والشرائع التي تحفظ النظام والكيان، وبإقرار المناكر والمظالم التي تخرب البيت والمكان، فإن تحكم الشهوات والأهواء، والخروج عن مقام العدل والسواء، قد يسبب الفوضى والاضطراب، ويشجع الإثم والإرهاب وقد قال صلى الله عليه وسلم كما رواه الإمام الترمذي: “التمسوا الرزق في خبايا الأرض“.
فهذه نصوص ثابتة، ومواد قائمة تدل على مدى اهتمام الإسلام بالإنسان والأرض جميعا، وطلب الرزق في خباياها معناه: إنشاء الزراعة والغراسة، واستنباط المياه العادية والمعدنية واكتشاف المنابع الغازية والنفطية، واستطلاع المناجم ذات الأهمية وما سوى ذلك من المنافع الذاتية والآثار التاريخية.
فبوادر الاجتماع والاقتصاد، ومظاهر الاستقرار والازدهار، تكمن في الإنسان الناهض بتربيته الخلقية والعلمية والعملية، وفي الأرض باستدعاء خيراتها واستخراج خاماتها، واستخدام زينتها.
أما إغفال الإنسان في تكوينه النفسي والفكري والعملي فمعناه إهمال جذر هذه القضايا التي تجترها السياسة في جهازها، وتعتد بمظهرها دون جوهرها؛ فالإشراف على دعايته وحضارته وتكييف فكرته ومهنته هي الحياة الأولى التي يمكن أن تحقق للأمة ما ترنو إليه من تقدم مادي وأدبي.
وما دام الإنسان متخلفا تربويا وعمليا فإن التخلف لازم لاجتماعه واقتصاده بحيث تكثر المشاكل والسيئات وتقل الخيرات والحسنات.
ومن جراء ذلك اتخذت السلالم وكانت توفيه الإنسان حظه من التهذيب، والتعمق في أنواع الاختصاص والسير إلى آخر مرحلة من مراحله هي أول باب الإلهام وآخر نهاية المطاف، وإنما العمل بالعلم والتربية، وإنما العلم بالتعلم والرياضة، وإنما الخطاب للعقول المرتاضة، فالله لا يعبد بالجهل، وحياة الجهل يكثر خطبها وخطؤها، وإلى القاعدة الاجتماعية يعود ضررها.
فمن أراد أن ينهض من التخلف الجاثم على صدره، وأن يقضي على العقم البادي في سيره، فلينهض بالإنسان قبل كل شيء ولتكن برامج التربية، ومناهج التعليم، وقوائم الأطر مستوية قبل أن تخطط خطوط التنمية، وقبل أن تظهر حظوظ التسمية؛ فإن الاقتصاد هو الاستقامة بمعناه العام، استقامة في النظر والتفكير، استقامة في التصرف والتدبير، ولا يتأتى هذا إلى بتربية إيمانية وتربية إنمائية.
ولا يمكن أن يطلب من الجيل الذي لا يجد رعاية ولا حماية؛ أن يكون قويا وناهضا وصالحا إذ مرحلة الشباب أخطر مراحل الحياة البشرية فهي في حاجة إلى التقوية والتدعيم حتى تسلم فطرته وتتقوم حياته.
ومن مركب النقص الاعتماد في مثل هذه القضايا الجوهرية على الأجنبي المشبوه لكثير من الأسباب والاعتبارات.
أما الشعوب التي تهمل شأن أبنائها في إتقان اللغة التي تقوم عليها الثقافة والحضارة، وفي تزكية النفس التي تقف بالمرء عند جميل العادات ومحاسن الأخلاق، وتعتمد تدريس العلوم الاجتماعية، والطبيعية والرياضية بلغات أجنبية، فإنها تهدم فوق ما تبني، وتسيء أكثر مما تحسن، لأن التعليم باللغة الأجنبية نوع من التربية السيئة، وطريق إلى الانحلال والانزلاق، وما أحوجنا إلى معاهد وجامعات تخلق من يخدم وطنه بنسبته وأصالته، وبعقيدته وطبيعته.
ومن كان يعتقد أن اللغة العربية غير قادرة على تعليم هذه العلوم، ومن كان يرى أن التربية الدينية لا تساير التربية الحديثة فقد أخطأ وكان بمعزل عن الحق والصواب، إذ هناك شواهد تاريخية وواقعية في الماضي وفي الحاضر تخطئ هذا الاعتقاد وتدفع حجاجه، وتقطع عناده.
وإذا كانت الحياة في عصر تقوم على أفكار الرجال وكواهلهم فلابد من تثقيفهم ثقافة أصيلة تخدم مصالحهم الاجتماعية، ولا بأس أن تطعم بغيرها من الثقافات الأجنبية على أساس المصلحة والتعاون؛ فالموظف المستقيم والمثقف ثقافة قومية وهو الذي لا يتربى على الحرية في شهواته، ولا تسيطر المادة عليه في حياته، هو الذي تنتفع به ظاهرا وباطنا، وهو الذي يمكن أن ينتج ويحفظ ما كان من الإنتاج.
وهذه أوروبا التي لا تجد لذتها إلا في الإنشاء والتعمير، وتعمل ليل نهار كخلايا النحل؛ نراها أحسن حالا وأقوى ازدهارا لما تحمله من وحي التربية وقصد التنمية، بينما أمم أخرى يشيع فيها الغش والفساد والتبذير والاختلاس، ويهيمن عليها مصالحها الشخصية ومنافعها الفردية.
فعلى الأمم المتخلفة أن تتعظ بغيرها، وأن تربأ بنفسها عن الحطط والنقائص ولا يتحقق هذا إلا عن طريق تربية اجتماعية صحيحة، وتعليم قائم البرامج، واضح المناهج، تام الأطر والتجهيز، لا تخفى أهدافه وغاياته في ظل إشراف الثقافة العربية والحضارة الإسلامية. وعلى الله قصد السبيل.
مصدر المقالة:
جريدة الميثاق عدد 151 سنة 1972.
[1] البقرة الآية 36.
[2] يونس الآية 26.
[3] التوبة الآية 105.
[4] الجمعة الآية 10.
[5] الملك الآية 15.
[6] الرحمن الآية 10.
[7] النازعات الآية 30.
[8] الأعراف الآية 56.