مقدمات في بناء منظومة أخلاقية
مساءلات توليدية
طرحنا في مقال سابق عنونَّا له ب:” العراء الوجداني ومشروع التخليق وتجديد سؤال القيم” مجموعة تساؤلات؛ من المستبعد من خلالها حصر مشكل الأخلاق والقيم، وأبعد منه؛ طرح الحلول بشكل دقيق ومطلق من خلال مقالة من بضع كلمات، وإنما كان الهدف من خلال تلك الورقة؛ التنبيه إلى وجود خلل في رؤية الإنسان للإله وللكون وللذات الإنسانية، ما بين تشكيك في القيم، وجحود لها، وفصلها عن التعامل مع الماجريات، وبين تنميط للعنصر البشري، وصناعة كائنات استهلاكية متشابهة لا مكان للضمير في قراراتها ولا للروحانيات في مشروعاتها. وطرحنا على إثرها بعض الخلاصات التي مفادها أننا في حاجة إلى استعادة الروح والقيمة ومضامينها الشعورية والتفاعل الوجداني المغيب بسبب هيمنة التحليل العقلي والتأويل العملي في غياب السرديات الكبرى والصغرى على حد سواء، وبأن إعادة تركيب منظومة القيم أو صياغتها أو تفعيلها يحتاج إلى الكثير من النظر والبحث. ولعلنا في هذه الورقة البحثية نكمل طرح التساؤلات، ليس بهدف – هنا أيضا- قولبة الإجابة عنها، وطرح الحلول الجاهزة وادعاء تقديم فعل منجز، وإنما لأجل طرح مزيد تساؤلات توليدية بغية تعميق التفكير والمساهمة في بلورة النظر في موضوع القيم، وبهدف صوغ مقدمات مفترضة قد تشكل أرضية عامة لموضوعات إحياء الأخلاق والقيم.
إن زخم التحولات، وتسارع المتغيرات؛ قد أفرز مشاكل أخلاقية عديدة جعلت من الإنسان وحشا ضاريا يهدد سلامة وراحة مشاركيه دروب الحياة. من تكنولوجيا نووية، وعنف بمختلف أنواعه، وأسلحة دمار شامل، وتلوث بيئي، وانفجار تقنية ومعلوميات، وإرهاب بكافة أنواعه، واستغلال للبشر والتعامل معهم على أنهم آلات خدمةً لأجندات الحداثة، وقرصنة واختراق للخصوصية، وابتزاز عن طريق سرقة الصور الشخصية، وغش مصرفي، وهندسة وراثية… وغيرها من الإشكالات التي أفرزها التطور والإفراط في استخدام الحد السالب المدمر من العلم والتقنية.
ولعل أول ما سيعترضنا من أسئلة، بناء على رصد هذه الظواهر المستحدثة المستهجنة وغيرها، وتأثيرها سلبا على سلامة المجتمع وراحته النفسية؛ سؤال السببية والمنشأ الذي يفرض علينا الاستفسار عن السبب في وجود مأزق أخلاقي، هل هو راجع بالضرورة إلى تقادم مدونات الأخلاق القائمة، أم إلى عدم تفعيلها وعدم تنزيلها على واقع أصبح يعج بالمتناقضات والإشكاليات؟ أم لأن زخم المشاكل وتنوعها أصبح يتجاوزالمدونات ويلح عليها في البحث عن إعادة صياغة؟
ثم على فرضية أن الحل؛ في إعادة الصياغة، فهل سيتعلق الأمر بتوليف بين الجمال والمعرفة والروحانيات من جهة والأخلاقيات من جهة أخرى، أم أن التصور المفرق بين الأخلاقي والروحي، وبين الروحي والأخروي، وبين الأخلاقي والجمالي سيجعل عملية التوليف غير ممكنة؟ أم أن الأمر سيتعدى ذلك كله لإعادة صياغة مفاهيم جديدة عن الروحانيات وعن الأخلاق لإعطائها مفهوما جديدا موصولا بالحداثة يجعلها تنفتح على ممكنات نظرية أكثر سعة؟
إن مقاربتنا لمسألة الأخلاق والقيم من منظور إسلامي، كما هو العمل عليه في هذا المنتدى التخليقي؛ يجعلنا في حل من عرض أطروحات تختلف في زاوية رؤيتها مع الطرح الشرعي وعقد مقارنات معها، وييسر علينا البث من خلال منطلقات متفق ضمنيا حولها، لسنا مضطرين إزاءها إلى طرد النص، ولا إلى هدم الثقافة المعرفية لأجل الوعي بالكون، ولا حتى إلى تغييب معايير الجمال في الانفتاح على الوجود والموجودات، أو إلى تجاوز البصر والبصيرة في استشراف العالم واستقراء الكون وحل مشكلاته. وبالتالي الانطلاق منذ البدء من دور الأخلاق العلاجي كما هو متعارف عليه في الحضارة العربية الإسلامية المتمثل في مداواة أسقام النفس وأمراض القلوب ومحاربة الرذائل بأخلاق الفضيلة. لكن يبقى التساؤل الذي يطرح نفسه بشدة : كيف ينبغي تشكيل منظومة قيم أخلاقية بتصور إسلامي متكامل وطرح شرعي واقعي تمكننا من مواكبة العالم وتحدي صور الخلل الناشئة عن سوء التعامل مع المحدثات والماجريات، وتبني التوازنات القيمية التي تحد من النزوعات النفسية في أبعادها المدمرة سواء على مستوى الفرد أو الجماعة؟ كيف نحول مسببات الخسائر إلى مكتسبات لا تغفل في مشروعها الجدلي العراكي بين الخير والشر؛ دور الأخلاقيات والروحانيات؟ وما الأنساق التي يجب الحرص عليها في إطار إعادة بناء المنظومات الأخلاقية لأجل مواكبة التطوروتحدي الفوضى؟
إن بناء المجتمع الإسلامي المتخلق يبدأ أولا وآخرا بامتثال النصوص وتثويرها، والإصاخة إلى تعاليمها، واستنطاق إمكانياتها، والتحرر من التدجين الفكري المشرعن، والوثوقيات الخاطئة التي حجمت الحرية التفكيرية والتعبيرية عند المسلم، هذه الحرية التي تعينه على تمثل خياراته الكبرى وذلك عن طريق نسق يجمع بين امتلاك ضوابط المعرفة، وتدريب العقل، وتطهير القلب، وتربية البصر، وتهذيب البصيرة. هذا البناء الذي سيستدعي مزيد تفكير ومزيد طرح لإشكاليات هي وليدة محاولة التطوير والنظر في آليات الاشتغال المعينة على بلوغ بناء تخليقي متكامل محكم تطبيقي أكثر من كونه تأصيليا. وبالتالي سيجد المشتغل بهذه الأنساق نفسه أمام أسئلة ملحة تخص ضوابط المعرفة من جهة، وضوابط الاجتهاد من جهة أخرى لأجل إرساء دعائم منظومة قيم تساير الحداثة، فيتساءل إن كان ملزما بالخروج من النص لأجل الدخول إلى العالم، أم استصحاب النص في رحلة سبر المتغيرات. بل وأمام زخم الأسئلة الوجودية التي تطرح نفسها بشدة، سيجد نفسه، في رحلة نزوحه نحو عالم غير العالم الزمكاني المعتاد، أمام إشكاليات معرفية عويصة؛ قد تقود الى الارتكاسات الكبرى إن لم يستطع تجاوز الرؤية الفلسفية الأحادية إلى رؤية فلسفية شاملة تمكنه من اجتراح وجودي، واشتباك تصالحي مع الذات ومع الغير في حدود المعطى الديني، وإن لم يمتلك القدرة على تقديم أطروحات في علم الجمال والفلسفة والفنون، وإن لم يفرق بين اختيار التخليق كمشروع تأسيسي أو كرهان مستقبلي، وإن لم يتمكن من خلق التوازنات بين المناط العقلي والموروث الحيواني والأطروحة السيكولوجية والمدونة الأخلاقية، وإن لم تكن له القدرة على تحرير الدرس الأخلاقي من استبداد خطاب الموعظة الدينية السائد الذي يطرح، في عمومه، وصفاته العلاجية دون تدقيق في أسباب المرض ومداخله.
ولعل فيما سيأتي أهم الحقول التي سيجد نفسه مضطرا للاشتغال عليها من أجل إيجاد ردود شافية كافية على سؤال الكيف في استحداث مشروعه التخليقي؛ بعد إعادة تحرير المفاهيم ومناطات الأحكام وضوابط المعرفة. ولعل كل نقطة فيما سيتم عرضه في حاجة إلى إسهاب وتفصيل في مقالات مستقلة نكتفي هنا بجمعها على سبيل الجرد :
1- إعادة النظر في تصوراته عن المشروع الحضاري، وإعادة فهم مشروع الاستخلاف وآليات مواجهة الاختلاف بإيجاد حاضنة حضارية تستوعب الزخم الثقافي وتباينه، وتدعم سياقاته.
2- الاشتغال على أسباب الانتكاس الديني والارتكاس الدنيوي
3- إعادة تحرير بعض المفاهيم والمصطلحات مثل مصطلح العبادة بين المفهوم والتطبيق العملي، ومصطلح الأخلاق والفضيلة ومفهومهما، ومفهوم الاختلاف وغيرها.
4- إعاد تحرير مفهوم الحرية
5- إعادة النظر في التعامل مع النص الديني التخليقي بغية تفعيل مناطاته تيسيرا لبناء منظومة القيم وتطويرها لأجل مواكبة المستجدات
6- تحرير ضوابط المعرفة
7- تجاوز الالتباسات المعرفية
8- فهم الواقع من خلال تمثله وتجاوز الثقافة المعرفية إلى الوعي
9- تحريرالمفهوم العلائقي والحقوقي وذلك عن طريق ترسيخ بعض القيم المغيبة أو تجاوز هيمنة بعض القيم السائدة وتعويضها بقيم تتماشى مع روح التغيير سواء في تطوير الإصلاحات السياسية أو تحقيق التنمية أو التخليق الذاتي
هذه التساعية أنموذج مبسط ومختصر لكم الحقول التي يفترض أن يخوض مكابدتها كل باحث عن ردود شافية عن سؤال الكيف، وكل ساع إلى تأسيس مشروع تخليقي ، مما سيجعله ينتقل بين الأنساق المعرفية والجمالية والأخلاقية لأجل تغيير الشرط الحضاري بالإلمام من جهة بشروط التحضر، ومن جهة بمعيقات هذا التحضر والمشكلات التي تهدم مشروعه التخليقي، وبالطريقة المثلى لصياغة أجوبته على ما تم طرحه من تساؤلات بل وعلى طرح مزيد مساءلات تعرج به إلى منظومة قيم متكاملة قادرة على استيعاب المتناقضات وحل الأزمات انطلاقا من النص.