اهتمام الإسلام بالنسب
من مقاصد الشريعة الإسلامية بقاء النوع الإنساني؛ واستمرار وجوده ما وُجدت الحياة الدنيا، إلا أنها لم تجعل وسيلة ذلك إباحة اتصال ذكران بني الإنسان بإناثه على وجه الشيوع كما هو الحال بالنسبة للحيوانات؛ لأن هذا الأسلوب لا يليق بالإنسان، وتكريم الله له ومكانته الممتازة بين مخلوقات الله تعالى، قال ربنا جل جلاله في كتابه العزيز: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70]
ولهذا شرع الله تعالى الزواج، وجعله السبيل الوحيد لإيجاد النسل وبقاء نوع الإنسان في الأرض ما دامت الحياة الدنيا قائمة، ولأن هذه السبيل هي اللائقة بالإنسان.
وإذا كان الزواج الشرعي هو وسيلة إيجاد النسل، أي الأولاد، فإن الولد الذي خلقه الله من ماء الزوجين ينسب إليهما؛ لأنه بهذا النسب يظفر برعايتهما وتربيتهما على وجه مقبول مناسب لكرامة الإنسان.
ومن هنا “اهتم الإسلام بالنسب اهتماما كبيرا، ويتجلى ذلك في أنه يعتبره من الضروريات الخمس التي جاء للمحافظة عليها، وتدور قواعده على ضبط أحكامها.[1]
ولا تمكن المحافظة على النسل إلا عن طريق الاعتناء بالنسب، والعمل على طهارته من كل عوامل الاختلاط التي تؤدي إلى ضعف النسل وانقطاعه.
وإذا كان الإسلام قد عاقب الزاني المحصن بأقصى عقوبة لم يعاقب بها غيره من المجرمين، فما ذلك إلا لأن الله يريد استمرار وجود الإنسان على الأرض، وهو سبحانه يعلم أن الزنى يؤدي إلى اندثار البشر والقضاء عمن خلقه ليعمر الأرض ويستفيد مما في الكون من نعم؛ لأن الزنى يؤدي إلى اختلاط الأنساب، واختلاط الأنساب يؤدي إلى عدم اهتمام الآباء بالأبناء، وتهاونهم في المحافظة عليهم، وهذا ما يؤدي إلى انقطاع النسل وارتفاع النوع الإنساني من الوجود[2].
وقد نبه القرآن الإنسان إلى ما في النسب من الفوائد، واعتبره نعمة من النعم التي يمتن الله بها على عباده؛ قال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} [الفرقان/54]؛ فهذه الآية تنبه الإنسان إلى مظهر من المظاهر التي تدل على عظيم قدرته تعالى وبديع صنعه، حيث أنه قدر على أن يخلق من الماء بشرا سويا هو أدم وزوجته[3]، ثم جعله يتكاثر عن طريق التناسل الذي يتم أثناءه التلاقح بين النطفة التي يحتوي عليها ماء الرجل (المني)، الذي وصفه في آية أخرى بأنه ماء مهين {ألم نخلقكم من ماء مهين} [المرسلات 20] أي قذر، وبين البويضة التي تكون في رحم المرأة الذي نعته القرآن بأنه قرار مكين {فجعلناه في قرار مكين} [المرسلات 21] أي حصين.
وبعد تمام مدة الحمل الذي يتصور فيه الجنين بقدرته تعالى من النطفة والبويضة، يخرج إلى الدنيا في أحسن تقويم ليتكاثر ويملأ الأرض، وتتكون منه شعوب وقبائل”[4].
والغالب في استعمال النسب أن ينسب الإنسان إلى أبيه، ولهذا لما أبطل الله تعالى نظام التبني وأمرنا بإرجاع نسب الأولاد بالتبني إلى أنسابهم الحقيقية قال تعالى: {ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله}[الأحزاب: 5]. قال القرطبي في هذه الآية: “وأرشد بقوله أقسط إلى أن الأولى والأعدل أن ينسب الرجل إلى أبيه نسبا”[5].
قال في “شرح منتهى الإرادات”[6]: “وتبعية النسب للأب إجماعا؛ لقوله تعالى: {ادعوهم لآبائهم}[الأحزاب: 5]“.
ويقول ابن القيم: “إن النسب في الأصل للأب”[7].
ولكن هذا لا يعني أنه غير منسوب إلى أمه أو لا ينسب إليها؛ لأن نسبه إليها ثابت قطعا لانفصاله منها، وإنما المقصود أن الإنسان ينسب إلى أبيه عادة.
أما إذا انقطع نسب الولد عن أبيه كما في اللعان، فإن نسب الولد يكون للأم فقط؛ قال ابن القيم وهو يتكلم عن أحكام اللعان بين الزوجين: “الحكم السادس: انقطاع نسب الولد من جهة الأب؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن لا يدعى ولدها لأب ..، الحكم السابع: إلحاق الولد بأمه عند انقطاع نسبه من جهة أبيه ..”[8].
ومما تتعين معرفته في هذا الموضوع؛ أن في النسب حق الولد وحق الوالد وحق الله تعالى، فمن حق الولد أن يثبت نسبه من أبيه الذي خلقه الله من مائه، لتكون له الحقوق التي قررها الشرع له، ولهذا لا يملك الوالد نفي نسب ولده بعد ثبوته.
وفي النسب حق الوالد؛ فمن حقه أن ينسب إليه الولد الذي خلقه الله من مائه بنكاح شرعي صحيح، وما يترتب على هذا النسب من حقوق للوالد على ولده.
وفي النسب حق الله؛ لأن الله تعالى أمر بهذا النسب القائم على هذه الرابطة المادية، وهي إيجاد الولد وخلقه من ماء الأب ..
ونظرا لاجتماع تلك الحقوق الثلاثة لا يملك أحد نفي نسب الولد بعد ثبوته، أو إثباته لغير صاحبه، ولهذا أبطل الله تعالى التبني، لأنه من قبل تزوير النسب؛ فلا يجوز شرعا أن ينسب الإنسان إليه من ليس ولده حقيقة، كما كان يفعل أهل الجاهلية وكذلك لا يملك أحد أن ينفي نسب مولود عنه إلا وفق شروط معينة بحثها الفقهاء في بحث اللعان، وعلى هذا فإن طبيعة قواعد النسب التي يثبت بموجبها نسب الولد لا يجوز الخروج عليها ولا الاتفاق على ما يخالفها، ولا التنازل عنها، لأن فيها حق الله وحق الولد، فهي تشبه قواعد النظام العام عند القانونيين التي لا يجوز الخروج عليها أو الاتفاق على ما يخالفها.
وفي هذه الطبيعة للنسب وقواعده أهمية كبيرة جدا في استقرار العائلة وثبوت الأنساب وعدم اختلاطها أو التلاعب بها، وصيانتها من الأهواء والنزوات، كما أن فيها ضمانة قوية لثبوت نسب الولد والمحافظة على مركزه الشرعي في المجتمع، وما يترتب على هذا المركز من حقوق له أو عليه، وإبعاد الغرباء عن طريق التبني من مشاركته في نسبه الحقيقي، وهذا كله مما انفردت به الشريعة الإسلامية، واختصت به، مما لا نجد له مثيلا في الشرائع القديمة والقوانين الوضعية القديمة والحديثة[9].
_________________________________________
1-الضروريات الخمس التي جاء الإسلام للمحافظة عليها هي: الدين والنفس والنسل والمال والعقل. انظر: الموافقات: 2/10.
2-عبد الله دراز في شرحه على الموافقات: 2/10.
3-يقول الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء/30].
4-أحكام الأسرة في الشريعة الإسلامية (2/13).
6-شرح منتهى الإرادات ج3، ص320.