أدبيات العمل التطوعي عند أبي العباس السبتي
إن المبادرات التطوعية والأعمال الخيرية التي يتسابق إليها كثير من الشباب بحماس قل نظيره وبأسلوب ومنهج يبعث على التفاؤل ويدل في نفس الوقت على وعي الإنسان، ليس من إبداع الجمعيات أو المؤسسات المدنية أو الأحزاب السياسية، إنما هو خلق تربى عليه المواطن المغربي منذ مئات السنين.
ومن ينقب في التاريخ المغربي سيجد صورا مشرقة في العمل الخيري وحالات من المبادرات التطوعية التي تعتبر نماذج يحتدى بها في هذا المجال.
إن المبادر إلى فعل الخير والساعي إلى مساعدة الآخرين هو في الحقيقة إنسان يشاطر الآخرين آلامهم وأحزانهم فيبادر إلى تفريج كرباتهم وقضاء حوائجهم.
والأصل في هذا التصرف سنة النبي صلى الله عليه وسلم، حيث عمل عليه السلام بعد هجرته من مكة إلى المدينة على المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين، فشاطر الأنصار المهاجرين أموالهم وديارهم.
هذه السنة الحميدة قد أحياها بمراكش رائد العمل الخيري الأول أبو العباس السبتي الذي اعتبر المشاطرة هي العدل، فشاطر إخوانه المؤمنين من الفقراء كل ما كان يملك.
وقبل التعرض لتلك المواقف التي جعلت أبا العباس متميزا في هذا المجال لا بد من تتبع سيرته الذاتية قصد معرفة أن العمل التطوعي يجب أن يكون مبدأ تربويا في كل الأسر ينشأ عليه الأبناء من أجل بناء مجتمع يقوم على التكافل والتضامن:
1-مرحلة الطفولة: تمهيد لمذهب الصدقة
كان أبو العباس السبتي، وهو طفل صغير، صاحب عقل راجح وذهن متوقد، تحدوه رغبة في التعلم، ومما يحكى عنه أن أمه أدخلته عند حائك ليتعلم الحرفة مقابل أجر، لكن نفس أبي العباس الشغوفة بالعلم منذ نعومة أظافره جعلته يفر من معمل الحائك ليلتحق بكتاب الشيخ أبي عبد الله محمد الفخار (دفين تطوان) فتلتحق به أمه لتعيده إلى الحائك بعد معاقبته.
ولما تكرر هذا الأمر تدخل الشيخ مقترحا على الأم أن تترك الصبي كي يتعلم القرآن مقابل مبلغ من المال.
وتسجل الروايات حدثا وقع لأبي العباس في هذه المرحلة، اعتبروه تمهيدا لمذهب الصدقة والإحسان الذي اشتهر به، فقد سأل شيخه ذات يوم عن قوله تعالى: “إن الله يأمر بالعدل والإحسان”.
فتعجب الشيخ من سؤاله، وكأنه رأى في الطفل الصغير علامات المؤمن الذي يتدبر الأشياء ويبحث عن مكنوناتها لذلك دفعه حدسه وهو المعلم الذي يقرأ أفكار تلامذته للقول بأن العباس سيكون له شأن في مستقبل الأيام.
حدث آخر يظهر جانبا من شخصية أبي العباس، تلك الشخصية التي تستحضر رقابة الله في كل عمل، فقد أراد شيخه أن يختبر تلامذته فأعطى كل واحد منهم طائرا وسكينا وأمرهم أن يذبح كل منهم طائره في مكان لا يراه فيه أحد.
فذبح كل صبي طائره إلا أبأ العباس الذي قال للشيخ:
ـ“لم أجد مكانا لا يراني فيه أحد، أينما توجهت إلا وأتذكر أن الله يراني ويراقبني”
فقال الشيخ:
ـ”بارك الله فيك يا بني”
وبعد هذا الاختبار أصبح الشيخ يحبه ويصحبه معه إلى داره.
ولم تمض سوى سنوات حتى حفظ القرآن والرسالة لأبي زيد القيرواني وتعلم فنون العربية والأدب.
2-مرحلة الخلوة: تدبر القرآن
كانت الخلوة بالنسبة لأبي العباس هي الحرص على قراءة القرآن بشكل يومي حتى يصبح القرآن رفيقه الذي لا يستطيع أن يفارقه، أما التفكر في خلق الله فهو لتربية النفس على التواضع والزهد في الدنيا وعدم الاغترار بها.
أما الذكر بالنسبة لأبي العباس فهو أعظم الكلام وأحسنه وأجمله عند الله، وهو اللغة التي كان يتحدث بها كالتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير.
وفي الخلوة يتجلى رقي فكر الإنسان الذي يبتغي تزكية النفس وتربيتها على التحلي بمكارم الأخلاق بمنأى عن الفتن التي تدنس حياة الناس.
وكان من ثمرات الخلوة التي قضاها أبو العباس بجبل جيليز التدبر قصد الوصول إلى حقيقة الشيء وإدراك جوهره ومعرفة خباياه، والآية التي سبق لأبي العباس أن سأل شيخه عن تفسيرها ستوجه أبا العباس لتدبر كل الآيات التي تحث على الصدقة كقوله تعالى:
“وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين” (سبأ 39)
وقوله:
“من ذا الذي يقرض قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون” (البقرة ـ 245)
وقوله:
“إن الانسان ليطغى أرآه استغنى” (العلق 6 ـ 7)
3-أسرار الصدقة عند أبي العباس
في الصدقة والعمل التطوعي تمتزج لدى المؤمن مشاعر الرحمة بمشاعر السخاء فيكون الأقرب للناس وأكثرهم لهم نفعا، وتلك هي منزلة الأفضلية التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم.
وأبو العباس قد وصل إلى المقام الذي يجعله يحس بآلام الناس وأحزانهم، فيجعل من الجود والعطاء وسيلة لتخفيف آلامهم وأحزانهم.
وقد عظم أمر الصدقة عنده لدرجة جعلته يعتبر أن أغلب العبادات تتضمن سرا من أسرار الصدقة:
ففي الصلاة يتصدق المؤمن بوقته بغية الوقوف بين يدي الله عز وجل.
وفي الصوم يكون إحساس المؤمن بالجوع دافعا له للتصدق لأنه يشعر عند صيامه بحاجة الفقير والمسكين.
أما الزكاة وإن كانت تمثل العطاء فهي تربي المؤمن على ضرورة المواظبة على التصدق.
أما في الحج، فيتجرد المؤمن من ثيابه التي اعتاد أن يرتديها، ويظهر عبوديته لله تعالى.
4-العدل
كان أبو العباس ينظر إلى هموم الناس فيرى فيهم الفقير الذي لا يجد ما يسد به رمقه، ويرى المسكين الذي يكد ويجتهد دون أن يستطيع أن يوفر لأسرته ما يكفيها من الطعام، ويرى فيهم الأرامل اللواتي فقدن أزواجهن ولا يجدن طعاما لأبنائهن, ويرى المرضى الذين أنهكهم المرض.
وكأنه يتساءل:
ما قيمة المال الذي يكون بين يديك في حين أن كثيرا من الناس لا يجدون حتى اللقمة التي تسد رمقهم؟
هل يليق بالمرء أن يتنعم بالطعام والشراب في حين أن الآخرين يموتون من الجوع؟
وهل في امتلاك المال ما يجعل مالكه أفضل من الآخرين؟
الجواب عن تلك الأسئلة تقتضي الرجوع إلى موقف الأنصار يوم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم ومعه المهاجرون رضي الله تعالى عنهم، حيث آخى بين الأنصار والمهاجرين، فطلب من الأنصار أن يشاطروا إخوانهم المهاجرين أمولهم وديارهم.
لقد رأى أبو العباس أن ما فعله الأنصار يمثل العدل الذي ينبغي أن يتخذ كمبدأ في مجال الصدقة: وهو أن تشاطر الفقراء والمساكين والمعوزين ما تملك.
لقد كان موقف الأنصار هو المرجع الذي اعتمده أبو العباس لتأسيس مذهبه في الصدقة، فعقد النية مع الله ألا يأتيه شيء إلا شاطر فيه إخوانه المؤمنين.
فكان أبو العباس يطوف على البيوت يسأل عن كل أرملة مات زوجها وعن كل فقير لا يجد ما يسد به رمقه وكل يتيم ومسكين ومريض، فيعطي هؤلاء ما يكفيهم من الشطر الذي خصصه لهم، والتزم بذلك مدة عشرين سنة دون أن يخالف هذا المبدأ.
5-الإحسان
كان أبو العباس قد تدبر قول الله تعالى: “إن الله يأمر بالعدل والإحسان”
فوقف عند مفهوم العدل، اعتبره هو المشاطر، وقاده تدبره إلى مشاطرة إخوانه كما أسلفنا، ثم عاد فتدبر الآية مرة أخرى فوقف عند مفهوم الإحسان، فإذا كان الإحسان أرقى من الإيمان لدرجة يجعل العبد يعبد الله كأنه يراه وهي منزلة تجعل العبد دائم الخوف لله تعالى حريصا على أداء كل الطاعات بإخلاص، وساعيا في نفس الوقت إلى الوصول إلى رضا الله، فإن الإحسان عند أبي العباس أرقى من العدل والمشاطرة لدرجة يجعل المتصدق يتصدق بنصف ماله ويؤثر غيره في النصف الثاني، فعقد مع الله عقدا يلتزم بمقتضاه التصدق بثلثي ماله ويمسك الثلث الآخر.
فالتزم بذلك مدة عشرين سنة، حيث كان يخرج كل يوم يطوف على البيوت ويقضي حوائج الناس ويحث الآخرين على التصدق على الفقراء والمحتاجين ويبين لهم أنهم بذلك يتاجرون مع الله، وتجارتهم رابحة لن تبور.
6-شكر النعمة
الزكاة الواجبة كافية لعلاج مجموعة من المشاكل السائدة في المجتمع كالفقر والتسول والتشرد الذي يعتبر الأطفال اليتامي من ضحاياه، وكي تتحقق تلك الغايات المرجوة من الزكاة حدد القرآن الأصناف الذين تصرف لصالحهم، وهم المذكورون في قوله تعالى: “إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل، فريضة من الله والله عليم حكيم” (التوبة ـ 60)
هذه الآية تقرر فريضة يتعين على كل مسلم توفرت فيه الشروط أن يؤديها، وتلك حقيقة يدركها أبو العباس، لكنه بحث عن أصناف آخرين ينبغي أن يصرف عليهم على سبيل الإحسان، فعاد فتدبر قوله تعالى: “إن الله يأمر بالعدل والإحسان”
فأراد تجاوز مقام الإحسان بشكر النعمة، فقسم ما يأتيه إلى سبعة أقسام: قسم للنفس وقسم للأهل، ويصرف ما بقي لمستحقيها.
قال ابن مساعد وهو من أصحابه: “وانتهى أبو العباس إلى إعطاء تسعة أعشار والتمسك بالعشر، وهي النهاية، أي أنه يأخذ لنفسه الواجب للمساكين ويعطي للمساكن الواجب له، وهو المالك.”
7-الوجود ينفعل بالجود
بلغت الصدقة عند أبي العباس منزلة جعلته يعتبرها أصل كل خير في الدنيا والآخرة، وبالمقابل اعتبر البخل أصل شر.
وبذلك تكون الصدقة من منظور أبي العباس هي أول ما يستفتح بها المرء أعماله الصالحة، وبابا يسد عنه كل الشرور.
أليس كل ما في الطبيعة هو من عطاء الله، قد سخره الله للإنسان ووضعه تحت تصرفه كما في قوله تعالى:
“وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون” (الجاثية ـ 13)
ومن يتفكر في ذلك كما تفكر أبو العباس لابد أن يكون العطاء هو خلقه، حتى يتفاعل مع هذا الوجود، فيعطي دون أن يعرف طبيعة من وقعت في يده الصدقة، وكذلك كان أبو العباس يقول لأحد أصحابه حين يسأله: أعط ما عندك من تلقاه، ولو وقع في يد يهودي أو نصراني.
أليس الإنفاق سبب للزيادة كما في قوله تعالى: “من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون”
وقوله: “وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين”
فكل عطاء أو تصدق سبب للزيادة، هذا هو العمل الذي تنفعل معه الأشياء، كما ذكر ذلك عندما سأله شخص قائلا: “بم تنفعل لك الأشياء؟”
فأجاب: “هذا لا يعرف إلا بالعمل”
قصد هنا فعل الإنسان المتمثل في العطاء والتصدق وهو الذي تترتب عليه الآثار.
فلما سمع ابن رشد الحفيد بأبي العباس ومذهبه في الصدقة قال: “ذاك رجل الوجود عنده ينفعل بالجود”.