كلُّ الأشياءِ تدلُّ على اللّٰه
بقلم: عبد الرحمن علوش
نظرتُ إلى جُوَيْرية ابنة أختي وهي لم تتم ربيعها الأول بعد -حفِظهما الله وراعاهما- نظرةَ إشفاقٍ لي ولها، ونظرتُ لحالي منها وقد وهبني اللهُ عقلاً أعرفه به وقلبًا به أتعبّد إليه وعلّمني ما لم أكن أعلم حتىٰ ولو أشدّ الأشياءِ بداهةً، علّمني أن طفلةً ما بين يدي، وأن أُشير إليها متفوهًا بلفظ “طفلةٍ” هكذا كما أُحدِّثكم وتفهمونني.
أيبدو لك الأمر في غايةِ البساطة؟!!
هو ليس كذلك!!!!
هو من عطاءِ الله لي، وهو ما لا تستطيع أن تعلمه چُويرية بعد ولا تعرفه…
يتبادرُ في ذهني أن فكرها لا يتعدى إرادةَ الأكل أو غاية أن تضع في فمِها أيَ شيءٍ يقع أمام عينيها؛ الله لطيفٌ بعبادِه: وفي ذلك خصوصيةٌ في ألطافه؛ لأنه من عنايةِ اللهِ لها أن وضع فيها تلك الفطرة التي تساعدها على النجاة لفترةٍ أطول، حتى ذلك الصراخُ المُعتاد الذي لا تصحو چُويرية إلا به لهو من معية اللهِ لها أنْ جعل لها إنذارها التحذيري التلقائي قبل وقوعها في خطر فيصل إليها من هو أقرب في أسرعِ وقت، هذه من تفاصيل كمالِ صنعِ اللهِ في الأشياء، سبحانك لا نُحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.
لديها أُذنٌ تسمعُ بها وعينٌ تُبصر بها وقلبٌ تحيا به، وستتعلّم بهم جديدًا لعُمرها ولحياتها، حياةٌ وإدارك، أينبغي لها أن تمتنَّ لربّها على ما أحاطها بكلّ هذه النعم؟!!
إنْ كان هذا يجول في خاطري تجاه الصِغار فماذا يجبُ علينا نحنُ الكِبار؟!!
يا لحالنا إذْ كنا وما نزال غرقىٰ!! غرقىٰ في بحرٍ من نِعم اللهِ!!
لكنّ مِن نِعمته علينا أنّه ميّزنا بهِبةِ الإيمانِ به فنشكره على عطائه لنا فلا نغرق في ذلك البحر فتغترّ نفوسُنا….
أؤمنُ دومًا برسائلِ اللهِ تأتيني من السماء فيما أُبصِّرُ به نفسي بالحديثِ معها عنِ الله، فبعدها بعدّةِ أيامٍ أتت على أُذني مَهابَةٌ منشاويّةٌ من وقارِ صوتِ مولانا المنشاوي، هذا القارئ الحزين -رضي الله عنه-، تأخذُ جمالاً وجلالاً من آثارِ آياتِ اللهِ حينما قال:
{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل : 78] …..
فأسرتني الآياتُ إلى زاويةٍ ثقيلةٍ في نفسي: كلُّ آيةٍ في كوْنِها هي عالمٌ من الحقِّ المُبين في حضرةِ صاحبِ الحق، وأويتُ إلى ركنٍ شديدٍ أصبحتْ فيه الشفقةُ هي كلُّ رِدائي من نسيج أنفاسٍ تخرجُ عزيزةً على الحياة، على حالي وحال هذا الكائنِ الأرضي!!
فلعمري كم هو ضئيلٌ ضعيف!!!
وهذه المرة ومعها لذةُ التداركِ حيثُ فهَّمَني الخبيرُ العليم، واسترجعتُ نفسي ساعتها للإجابةِ على السؤال القرآني:
{هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)} [الانسان : 1-3] …..
فأجابتني العينُ بالبكاء ورحلتْ تركتني مع أبعاضي آنسُ لحظتي من تهوين نفسي مستغرقًا في الإحساس بالضعف في حضرة القوي وفي الشعور بالعجز في حضرة المُعين وفي الخرور مُتكئا إلى العدمِ في حضرة صاحب الوجود.
ربما هذا الإحساس بالشفقةِ والشعور بالضعف والقصور أمام كل تلك النعم المُحيطةِ وغيرها من غيبيّاتِ العقول والإدراك لهي أعظم الدلائل على وجود الله؛ لأننا حينها نستشعر تخفيفَ الله لنا، ذلك الشعور بالسند الروحي الذي لا ينبغي لأحدٍ إلا لله، {يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء : 28]……
فإن شعور النفسِ بالضعف في حضرة الله يعكس جوابَ الفطرة السليمة على سؤالها المُلح: كيف الوصول إلى أبدِ الراحة؟!
وهو أن نصل بالتسليم المطلق لله كما يُدلل جوهر الإسلام ويحكيه لنا مُسمّاه وكما تفعله شرائعه وتربيه في أصل النفس، وهذا المُنتهىٰ من الراحةِ مقرونٌ بقَدْرِه القياسي بما أُهِلّ وهُيّأ له الإنسان في هذه الدنيا من مُدركاتِ الوجود والإحساس على شيءٍ من الخصوص، (وليس ذلك إلا للمؤمن) كما أخبرنا الحبيب ﷺ، ومقرونٌ بقَدْرِه الحقيقي بمكانه في الجنةِ على شيءٍ من الإطلاق والتعميم.
ولذ فإن مسيرة رحلتي في الحياةِ تقوم على نهجِ قول الإمام أبو حامد الغزالي: (شرفُ الإنسانِ وفضيلتُه التي فاقَ بها جملةً مِن أصنافِ الخلقِ باستعدادِه لمعرفةِ اللهِ سبحانه، التي هي في الدنيا جمالُه وكمالُه وفخرُه، وفي الآخرةِ عدتُه وذُخرُه، وإنما استعدَّ لمعرفةٍ بقلبِه لا بجارحةٍ مِن جوارحِه، فالقلبُ هو العالِمُ باللهِ، وهو المتقرِبُ إلى اللهِ، وهو العاملُ للهِ، وهو الساعي إلى اللهِ، وإنما الجوارحُ أتباعٌ وَخَدَمٌ وآلاتٌ، يستخدمُها القلبُ ويستعملُها استعمالَ الممالكِ للعبدِ، واستخدامَ الراعي للرعيةِ)
إن العابد المؤمن عُمرُه إعماره على استعدادين:
أولهما: استعداده لمعرفة الله وثانيهما استعداده لملاقاةِ الله، وبتنشئة النفس عليهما تكون النفس الكادِحة كالمسافرةِ إلى ربها يكاد يقتلها الظمأ من قلة الماء في صحراء دنياها فتذهب تبحث تشتاق إلى رويّتها في أقل القطراتِ التي تدلها على الله وتُعينها إلى الله، فإذا ما جاءها نهرٌ يُريحها من عَناءِ دنياها وجدت الله عنده فيوفيها حسابها على ما عانته من تحملٍ وصبر وأعطته من صلاحٍ وشكر….
ولعل هذه الخلْجةُ الكريمةِ من خلجاتِ النفسِ من الاشتياق الدائم إلى الله عملا ومعنىً في القلوب ما توقع الجمال في نفسي كلما رأيت غيثَ السماءِ ينزلُ قطراتٍ على بقايانا الثابتة فنراها صورا من الدعم الربّاني ولذلك سُمي (الغيث) غيثا من الإغاثة والعون، وتذكرتُ معه إجابةَ الحبيب ﷺ لسؤالِ أصحابه -رضوان الله عليهم جميعا- وهم في يومِ مطرٍ؛ حيث حسر ثوبه حتى أصابه مطرٌ، وهم يسألونه: ما سبب ذلك يا رسول الله ﷺ ، فيقول لأصحابه: “لأنه حديثُ عهدٍ بربّكم” ، أنظروا كيف يربط ﷺ كل صغيرةٍ في حياته بالله، يبحث في أدقّ الأشياءِ عن الله، وكيف أنه جعل من الدنيا بكمالِه شاغلةً له بالله وليس عن الله، يعلّمنا في صورةٍ من جمال التعبير أن يكون لنا بالاً لا يهدأُ، فيذكر الله، ويربي فينا منهجًا روحيًا متعلقا بالسماء بألاّ نرىٰ من الدنيا موقعًا في نفوسنا إلا ما نرىٰ الله فيه فنحيا أن الأملَ كله لله، فنصبح في كل عملٍ نعمله نرجو في صالحه اشتياقنا إلى الله وفي كل نهيٍ نتجنّبه نبتغي في تركه خشيتَنا من الله.
إن رسول الله ﷺ بأخلاقه وبكل ما تركه لنا من مِنهاجٍ وسلوك لهو إعانةٌ وعنايةٌ إلٰهيةٌ للبشريةِ كلها لاكتشافِ مُقدّرات النفسِ من فطرتِها السليمة في سيرها إلى الله، ومن عظيم تلك المقدّرات في النفس السوية القويمة بالحق هي تعلّقها باستخراج الدلائل عن الله وعن صفاتِ الله من أبسطِ الأشياءِ فيها وحولها إلى أشدها تعقيدا واستبصارِ وجودِه في الأشياء، ما يربت على قلوبِنا، ويُعيد ترتيب مؤنِ يقيننا بالله إن اهتزت ويزيدها اتساقًا إذا ثَبُتت في النفوس؛ {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)} [الذاريات : 20-21]
نحن في الدنيا نتعبُ لنعلمَ عن معنى الله في قلوبنا، نُهدىٰ إليه ونطمئن به؛ والذين جاهدوا فينا لنهدينَّهم سُبلنا، وهو معنانا الأوْحد المُدرَكُ بكمالِه من معاني القلوب، ونصيبنا الوحيدُ في حظِّنا منها المضمون لأرواحنا في باقي رحلتها إلى الله، ولن يبلغ المعنى فينا كمالَه سوى عند انتهاءِ آجالِنا؛ يومَ تُصبحُ أبصارُنا حديدًا إلى حقيقتِها من الله؛ واعبد ربَّك حتىٰ يأتيَك اليقين، فيا تُرىٰ إلى متى نتوقف من عبادةِ الله؟!!!!
وبعد كل هذا الترحال القلبي والفرار النفسي وبِحاح صوتِ المسير مستمسكين بتطلّعات الروح إلى بارئها إيمانًا منّا بالغيب، موقنون بأن الله هنا رغم كل هذا البلاء الكبير وأننا نجده يومَ أن تنتهي ساعةُ الدنيا، على عتبةِ بابه نرمي بكلِّ آمالِنا، نداوم على تشبُّثِنا بطاقتنا إليه كادحين عناءا منّا وممّا حولنا، ولعلّك تتسائل في نفسك الآن: ماذا ليُغني هذا الإنسانَ الكسير -المُسافر في غبراءِ الدنيا إلى وجه الله- من الجمالِ شيءٌ سوى أنْ يرىٰ وجه الله؟!!
ساعةَ أن خطرَ بقلبي هذا الحَدْسُ الربّاني، عرفتُ غايةَ اللهِ من الآياتِ حينما قال -تعالى- :
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22) إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة : 22-23]
فلم استطع أن أستوعب في نفسي تخيّلَ قدرِ الجمالِ في تلك النظرةِ أو تفسيرَ معنى الراحةِ فيها!!! …
…..فاكتفيتُ بالبكاء..