رباط العربية ..
بقلم: حماد القباج
علّمَنا التاريخُ في دروس الوعي بأن استهداف لغة كل أمة وسيلة قوية من وسائل إضعاف كيانها والتحكم في مستقبلها ..
وقد وظّفت الإمبريالية هذه الوسيلة في غزوها للعالم الإسلامي؛ وعمِلَت على إضعاف اللغة العربية بتهميش حضورها وخنق حيويتها ..
ولقد كانت أرض الكنانة أول وأكبر ساحة احتدمت فيها المعارك بين الغزاة والحماة؛ حيث تصدى فرسان الإنشاء وقادة البيان لجحافل الغزو الثقافي وأبلوا في تلك المعارك البلاء الحسن؛ فكانوا أبطالا {صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23]
ولا يسع المثقفَ العربيَ الحر إلا أن يقف وقفة إجلال واحترام؛ أمام: راية الرافعي ونظرات المنفلوطي ودراسات عبد السلام هارون وأسمار محمود شاكر ..
ولم يتخلف عن هذه المعركة المصيرية المصلحون في سائر البلاد الإسلامية؛ وكان لمغربنا الأقصى فرسانه الذين رابطوا ونافحوا، وناضلوا وكافحوا؛ وتناوب على حمل الراية أبطال لم يكن أولهم عبد الله كنون والرحالي الفاروق وإخوانهما، ولن يكون آخرهم عبد العلي الودغيري وفؤاد بوعلي وائتلافهما ..
ومن أبرز من ترك بصمته في هذا السِّجِل المشرف؛ العالم والمثقف الجزائري محمد البشير الإبراهيمي[1] الذي أولى هذه القضية الخطيرة عناية كبيرة؛ وبيّن ما تنطوي عليه اللغة العربية ذاتها من أسباب القوة وعناصر الكمال، وما تتميز به عن سائر اللغات، ثم فصل القول في أفضالها على العلم والمدنية، بالرغم مما كان يدعيه الاستعمار، والعلماء الخادمون لسياسته من أن العربية قاصرة عن ميادين العلم، عاجزة عن مسايرة التطور والتجديد، وأن العرب في القديم لم يفعلوا أكثر من ترجمة ما عند الغير من علوم، فلم يكن لهم حظ في ميدان الابتكار والتجديد.
فنَّد الإبراهيمي هذه الأباطيل بأسلوب العالم المتمكن النزيه، فبيّن أن أسلافنا الأوائل، عندما واجهوا حضارات الفرس والروم واليونان والهند؛ نهلوا منها ما يفيد دون عقدة نقص، بالرغم من بساطتهم، ثم تجاوزوا ذلك إلى التفاعل الحي مع هذه الحضارات؛ فصححوا وأضافوا ووافقوا وابتكروا، وما يزال الباحثون النزهاء يؤكدون أن ما في حضارة الغرب، اليوم، من خير، هو من بقية عصارة ذلك الفكر المبدع الأصيل.
قال رحمه الله في مقالة بعنوان: (العربية: فضلها على العلم والمدنية، وأثرها في الأمم غير العربية):
“قامت اللغة العربية، في أقل من نصف قرن، بترجمة علوم هذه الأمم، ونظمها الاجتماعية وآدابها، فوعت الفلسفة بجميع فروعها، والرياضيات بجميع أصنافها، والطب والهندسة والآداب والاجتماع، وهذه هي العلوم التي تقوم عليها الحضارة العقلية، في الأمم الحاضرة والغابرة، وهذا هو التراث العقلي المشاع الذي ما يزال يأخذه الأخير عن الأول، وهذا هو الجزء الضروري في الحياة، الذي إما أن تنقله إليك فيكون قوة فيك، أو تنتقل إليه في لغة غيرك فتكون قوة في غيرك، وقد تفطن أسلافنا إلى هذه الدقيقة، فنقلوا العلم ولم ينتقلوا إليه”.
“يقول المستعمرون عنا: أننا خياليون، وأننا، حين نعتز بأسلافنا نعيش في الخيال، ونعتمد الماضي، ونتكل عليه، يقولون هذا عنا، في معرض الاستهزاء بنا، أو في معرض النصح لنا، إنهم يريدون أن ننسى ماضينا، فنعيش بلا ماض، حتى إذا استيقظنا من نومنا، أو من تنويمهم لنا، لن نجد ماضينا نبني عليه حاضرنا فاندمجنا في حاضرهم، وكل ما يريدون”.
“إنهم يخلدون عظماءنا في الفكر والأدب والفلسفة والفن والحرب، إنهم لا ينسون الجندي ذا الأثر فضلا عن القائد الفاتح، وهذه تماثيلهم تشهد، وهذه متاحفهم تردد الشهادة”.
“وإني أتخيل أن لهم -في تحريف الكثير من أسماء أعلامنا- مأربا يوم كانوا يـأخذون العلم منا، كأنهم ألهموا يومئذ أن الزمان سيدول، وأن دورة الفلك علينا بالسعد ستنتهي، وأننا سنعود إلى الأخذ عنهم، فحرفوا أسماءنا لتشتبه على أبنائنا، فلا يعرفون “أفيروس” هو ابن رشد، وأن “أفيسين” هو ابن سينا، وأن “جبر الطار” هو جبل طارق، وهكذا ينطق بها أبناؤنا اليوم، ولا يهتدون إلى أصحابها حتى يقيض الله لهم من يكشف الحقيقة”.
وقال في مقالة بعنوان: “اللغة العربية في الجزائر، عقيلة حرة، ليس لها ضرة”:
“اللغة العربية في الجزائر ليست غريبة، ولا دخيلة، بل هي في دارها، وبين حماتها وأنصارها، وهي ممتدة الجذور مع الماضي، مشيدة الأواخي مع الحاضر، طويلة الأفنان في المستقبل، لأنها دخلت هذا الوطن مع الإسلام على ألسنة الفاتحين، ترحل برحيلهم وتقيم بإقامتهم، فلما أقام الإسلام بهذا الشمال الإفريقي إقامة الأبد وضرب بـحرانه فيه، أقامت معه العربية لا تريم ولا تبرح، مادام الإسلام مقيما لا يتزحزح، ومن ذلك الحين بدأت تتغلغل في النفوس، وتنساغ في الألسنة واللهوات، وتنساب بين الشفاه، والأفواه، يزيدها طيبا وعذوبة أن القرآن بها يتلى، وأن الصلوات بها تبدأ وتختم، فما مضى عليها جيل أو جيلان، حتى اتسعت دائرتها، وخالطت الحواس والشواعر، وجاوزت الإبانة عن الدين إلى الإبانة عن الدنيا، فأصبحت لغة دين ودنيا معا”.
وكما هزّت صولاتُ الإبراهيمي أرض المغرب العربي؛ فقد دوّى صوت العلامة العُرْفي[2] في المشرق؛ والذي دعا إلى العودة للاهتمام باللغة العربية، وطالب العرب بالاعتزاز بلغتهم التي حفظها القرآن حفظاً أبدياً، لأنها الخطوة الأولى في جمع الصف العربي، وأن التفريط بها؛ يُعَدُّ تفريطاً بوحدتنا إلى الأبد.
قال في كتابه (سر انحلال الأمة العربية ص 142):
“لا شك أن تقديم أبناء يعرب لغةً إفرنجية على لغتهم؛ هو جريمة واقعة على الآباء الذين يسردون الأعذار المستندة على سخافات غير منطقية؛ إلى أن سَرَتِ الفكرة إلى أبنائهم، فبلغ الشغف منهم بلغات أوروبا، أن يرطن أحدهم مع نفسه، إن لم يجد من يخاطبه بتلك اللغة، يُريد أنْ يريهم عزَّه بمعرفتها، واحتقار أمته بعدم وقوف أبنائها عليها.
لا يقول عاقل إن تعلم اللغات أمر مذموم؛ بل نقول إنه حسن جداً؛ فقد أمرت الشريعة به، ويراه العقل حسناً؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه أن يتعلم اللغة العبرية مع ضعف اليهود يومئذٍ، لأن معرفة لغة أمة يساعد على كشف حالها والوقوف على أسرارها والاطلاع على نواياها..
وإنما الذي نذمه ونرى أنه المرض الذي تجب معالجته؛ هو هجر اللغة العربية وإهمالها، والاعتناء بغيرها أكثر منها، ومما لا مراء فيه أن هذا المرض إنْ دام ولم تشعر الأمة بانتشاره، فستذهب اللغة العربية من نفس البلدان العربية، ولا سيـما أن المدارس العربية في وهن وانحطاط”اهـ.
إن اللغة ليست مجرد أداة للنطق ووسيلة للتواصل فحسب؛ بل هي لكل أمة: وعاء القيم والمبادئ، وعنوان المجد والحضارة ..
والعربية هي لسان خاتم النبيين ولغة القرآن الكريم الذي {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 192 – 195]
إن قوة اللغة العربية في المجتمع والمؤسسات؛ حصانة هامة في معركة العولمة الشرسة التي تسعى لابتلاع الشخصية العربية وصهرها في بوتقة واحدة ثم إعادة تشكيلها بصورة مشوهة؛ سماتها: ضعف الشخصية وهوان التبعية وتقديس ثقافة الآخر والذوبان في خصوصياته والخضوع لأطماعه ..
لست ضد الانفتاح على الثقافات، ولا ضد الاستفادة من النافع من نتاج الحضارات؛ لكنني ضد الاحتلال والاستلاب، والسياسات الإمبريالية التي تتخذ اللغة مدخلا ..
وفي مغربنا على سبيل المثال؛ لم يَعُدْ خافيا أن فرنسا عملت على إضعاف اللغة العربية في (مستعمراتها)، وبالموازاة مع ذلك؛ فإنها تعمل على تقوية لغتها وجعلها مهيمنة في الإعلام والفن والأدب والإدارة والمجتمع ..
وقد وضعت خُططا وبرامج لتنشئة مغاربة منبهرين ثقافيا، مستلَبين فكريا، أُشربوا في قلوبهم حب الفرنسية إلى درجة الولع بها نطقا وتواصلا وتربية ونمط حياة ..
منهم: نور الدين عيوش (رئيس جمعية زاكورة للقروض الصغرى والتربية)؛ الذي يسهر على تنفيذ أجندة اعتماد اللغة الدارجة بدل العربية الفصحى في المنظومة التعليمية، وإقصاء الكتاتيب القرآنية من التعليم الأولي!
وقد دعا إلى “اعتماد الدارجة كلغة للمدرسة”، مؤكدا على أن “هذا هو الوضع السليم؛ لأن المدرسة يجب أن تبدأ باللغة الأم”، موضحا أن “هذا ليس جديدا، بل كل التجارب العالمية خلصت إلى أن التعلم باللغة الأم يكون أفضل ويعطي نتائج أحسن”!
واعتبر أن اللغة الأم الأساسية في المغرب “هي الدارجة، وأكثر من 90 في المائة من المغاربة يتحدثونها”، مشددا على أن “نجعل هذه اللغة الأم أساسا في المراحل الأولى لتعليم أطفالنا”.
إن هذه الدعوة تدل –في جملة ما تدل عليه-؛ على تجاهل خطير للدستور الذي يؤكد بأن اللغة الرسمية هي اللغة العربية!
كما تدل على المستوى العلمي للرجل الذي لا يميز بين اللغة واللهجة؛ بينما يعلم صغار المتعلمين؛ أن الدارجة لهجة وليست لغة، وقد تسمى تجوزا: اللغة العامية.
ومعلوم أن الترويج لهذه اللغة داخل في المخطط الاستعماري الذي عمل على تمزيق الوطن العربي كما رسمته اتفاقية (سايكس ـ بيكو)، خصوصاً بعد الدعم الأمريكي لمشروعات تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ من خلال مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي نادت به إداراة بوش الصغير ..
وعن هذه المكيدة القديمة المعاصرة يقول العرفي في محاضرته (اللغة العربية رابطة الشعوب الإسلامية): “القول بترويج اللغة العامية توكيد للتفرقة التي أدرك أعداء العرب والإسلام أنها تكون سبب تنفيذ برامجهم التي تُؤَمِّن مطامعهم ومنافعهم، لأنهم أتقنوا معرفة أسباب النـزاع والشقاق والتفرق ونشروه بين المسلمين باسم الدين أو المصلحة أو المنفعة أو العادة أو غير ذلك حتى استحكم في نفوسهم؛ فبهذا وحده غلبوا المسلمين على أمرهم وأصبحوا أولياء أمورهم، يتحكمون فيهم كما تشاؤه الأهواء والمطامع، وبهذا يدوم الاستعمار ويبقى الاستعباد ناشباً مخالبه وأظفاره في جسم الأمة؛ حتى لا تقدر أن تتحرك فإذا أبدت قليلاً من الحركة أسكتها بقية الجسم، فأهلك نفسه بيده”اهـ
قلت: وهذا واقعنا بالحرف.
والغريب هذه المرة أن عيوش ومن يقف خلفه؛ صرحوا بشكل واضح بدعوتهم لإعفاء التلاميذ من حفظ القرآن الكريم؛ مما يؤكد أن مطلب إضعاف اللغة العربية له مقاصد غير بريئة؛ على رأسها: تكريس فصل الناشئة عن القرآن ..
إن النخبة المستلبة الموظفة لخدمة ثقافة الآخر ومصالحه؛ تمشي وفق خطة مدروسة تم تفعيلها منذ اليوم الأول للاحتلال الفرنسي ..
ومنذ ذلك الحين وهي تعمل على إضعاف حضور العربية والقرآن؛ في المنظومة التعليمية وغيرها؛ وقد رأينا كيف تم التقليص –بالتدرج- من مادة التربية الإسلامية ومن مقرر حفظ القرآن الكريم ..
مع أن الواقع أثبت بأن حفظ القرآن الكريم كان دائماً مصدر قوة لطلبة العلوم بما فيها العلوم العصرية، وأن النخب الثقافية والعلمية التي أخذت حظا وافرا من القرآن الكريم، تتمتع بشخصية قوية متشبعة بمبادئ إيجابية وأخلاق كريمة وكفاءات مهمة ..
[1] محمد البشير الإبراهيمي (1306-1385 هـ) (1889-1965)؛ من أعلام الفكر والأدب في العالم العربي، ومن العلماء العاملين في الجزائر، وهو رفيق النضال لعبد الحميد ابن باديس في قيادة الحركة الإصلاحية الجزائرية، ونائبه ثم خليفته في رئاسة جمعية العلماء المسلمين، وعالم مثقف وكاتب كبير تبنى أفكار ونضال تحرير الشعوب العربية من الاستعمار، وتحرير العقول من الجهل والخرافات.
[2] ولد الشيخ محمد سعيد العرفي في مدينة دير الزور في سورية عام 1896، ودرس في الابتدائية في المدرسة الرشدية بدير الزور، وأجازه مفتي محافظة الفرات العلامة الشيخ حسين الأزهري والشيخ محمد السحيمي الشرقاوي شيخ الشافعية بمصر، والشيخ محمد النجدي من هيئة كبار العلماء بالأزهر. انتخب عام 1924 عضواً في المجمع العلمي العربي بدمشق، تعلم اللغة التركية والفارسية والهندية مع بعض المعرفة باللغتين الإنجليزية والفرنسية.