معركة لغة التدريس في دول الجنوب: معركة حضارية
بقلم: الأستاذ محمد مصطفى القباج
المدير العلمي لأكاديمية المملكة المغربية
في المستهل لا بد من الإشارة إلى أن اللغة، في مختلف تمظهراتها الوطنية، مركب أساسي من مركبات الشخصية الإنسانية، باعتبارها – كما يقول هيدجر – دالة الوجود ومسكن الكينونة[1].
من ثمة فإن كل الأصناف المعرفية والإبداعية لا تكون أصيلة وذات صلاحية اجتماعية إلا إذا صاغت منتوجها في اللغة التي تمتلك شرعية دستورية تنتظم بها شؤون المجتمع، وذلك ما يصطلح عليه المختصون باللغة المشرعنة.
هذه المنزلة التي تتبوأها اللغة تستوجب أمرين:
1 من جهة التفكير المستمر والدائم في خدمة اللغة من أجل تطويرها
2 ومن جهة أخرى الحرص على عدم الوقوع في التجزئة اللغوية للمنجز المعرفي والإبداعي.
يعني هذا بكل وضوح: أن لا يكون جزءا من المعارف والإبداعات معبر عنها باللغة المشرعنة، وجزءا آخر معبر عنه بلغة أخرى دخيلة في نفس النسق الاجتماعي؛ وخاصة النسق التربوي – التعليمي.
وإلا فإن المصير الذي ستؤول إليه اللغة المشرعنة هو إبادتها وموتها كما أبيدت وماتت لغات ولهجات عديدة، كما ورد في إحصائيات منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو).
ترتبط بهذه البديهيات المشار إليها أن التجزئة اللغوية، أو ما يتعارف عليه بالتناوب اللغوي؛ تخل بوحدة الشخص وتضعف الانتماء الوطني.
ومن الأكيد أن الشرخ النفسي والاجتماعي تعمق مخاطره العولمة المكتسحة التي تجهز على السيادات بمنطق هيمني فاق بدرجات عليا الهيمنة الاستعمارية التي ابتليت بها العديد من دول الجنوب التي كان يوصم أهلها بالبدائية والبربرية.
أعتبر أن إدوارد سعيد كان مصيبا عندما اعتبر إنسان العولمة اليوم، وإنسان الاستعمار أمس يوجدان في موقع حضاري، ثنائي اللغة أو متعددها، ذلك ما أطلق عليه الثنائية الضدية؛ التي يكون مفعولها، في نهاية المطاف: ضعف ملكة الفهم والإدراك التي يعوضها اليوم الاستلاب التكنولوجي الذي يضرب المقدرة اللغوية في مقتل[2].
إن تعريض أي لغة مشرعنة إلى الثنائية الضدية يتأسس على فكر استعماري (pensee colonial) ما زال يحاول أن يبقى على قيد الحياة بكل ما يتاح له من وسائل، وهو فكر يصنف اللغات أفقيا.
لذلك فإن الوقوف في وجه المد الاستعماري ماضيا والعولمي راهنا؛ يفرض من وجهة نظر الفيلسوف السينغالي (سليمان بشير دياني) فكرا جديدا لما بعد الاستعمار (pensee post-colonial) بشر به مؤتمر باندونغ لدول عدم الانحياز الشهير[3].
ومن الأكيد أن هذا الفكر التحريري سيقف سدا منيعا في وجه كل محاولة للمساس باللغة المشرعنة، وهي عندنا في المغرب: العربية والأمازيغية.
لكل الاعتبارات المذكورة أرى أن أي مبحث معرفي أو إبداع أدبي غني أو ممارسة تعليمية بغير اللغة المشرعنة لا ينتمي إلى أهل هذه اللغة وإنما هو منجز دعائي غرائي موجه لغيرهم.
وبصريح العبارة المنجز المعرفي والأدبي بغير اللغة العربية هو لبنة تعلي صروح فضاء لغوي لا ينتمي إليه.
إن المعركة التي يخوضها اليوم أهل اللغة المشرعنة في بلادنا كما في معظم دول الجنوب هي معركة حضارية بامتياز، للوقوف في وجه كل من يشكك في قدرة العربية والأمازيغية على تدريس كل الأصناف المعرفية والإبداعية.
وليس من الغريب أن بلادنا، بمجرد أن أحرزت على استقلالها السياسي بادرت إلى الإعلان عن المبادئ التحررية الثلاثة: التعريب والتوحيد والمغربة.
فكان طرحا مبكرا لقضية لغة التدريس ولغة الحكامة الإدارية ولغة الإبداع.
لا يعني هذا الاختيار التحرري أن البلاد ستكون معزولة أو منغلقة أمام أي لغة أو فكر يفيدان في الإثراء اللغوي أو العلمي.
إن قضية لغة التدريس ليست قضية الراهن، بل كانت على مر السنين منذ الاستقلال إلى يوم الناس هذا مثار المزايدات والمضاربات تذكيها فئات مجتمعية لم تدرك بعد ضرورة وضع حد للفكر الاستعماري وتعويضه بفكر ما بعد الاستعمار كما دعا إليه الفيلسوف السينغالي دياني.
فكر ما بعد الاستعمار أو فكر التحرر، إذن، هو الإطار المرجعي الذي ينبغي أن تناضل من أجله دول الجنوب لصيانة انتمائها الحضاري، وهذا لا يعني الرفض المطلق لفكر الآخرين، ولكن الحرص الواعي والمصر على صلابة وتجديد النسق التربوي – التعليمي في بلادنا ليقف موقف الندية مع الأنساق الأنجلوساكسونية أو الأنساق الفرنكوفونية؛ يعني الإجهاز على لغتنا المشرعنة (عربية وأمازيغية).
المفروض قبل الاستنجاد بتلكم الأنساق الخارجية أن نعمل جاهدين على معالجة الاختلالات التي يعرفها نسقنا التربوي – التعليمي من فساد وغش وعنف وضعف في البنيات والعمل على رفع منسوب جودته المعرفية والبيداغوجية والديداكتيكية.
حين ننجح في هذا المجهود بفكر تحرري وباللغة المشرعنة آنئذ يمكن التفتح على الأنساق الخارجية بمنطق الإثراء والتفاعل المتوازن.
لكن مع الأسف الشديد أن ورثة الفكر الاستعماري يعمقون أزمة نسقنا المغربي ويسهمون بنصيب وافر في انتشار المدارس الأجنبية والمدارس الخاصة، ونشر الفكرة الخاطئة بأن الترقي الاجتماعي متاح أكثر بلغة أجنبية، وأن سوق الشغل مفتوح على مصراعيه لخريجي المدارس الأجنبية والمدارس الخاصة.
إن الذي يعمق أكثر خطر الهيمنة والاستلاب في النسق التربوي – التعليمي في بلادنا؛ هو الإصرار على تبني فكرة إصلاح النسق؛ والحال أن ما هو عاجل وجوهري هو تثوير النسق الذي دعوت له منذ ثمانينيات القرن الماضي[4].
دعوت إلى أن الحاجة ملحة إلى ثورة تربوية – تعليمية جذرية في المضامين والمفاهيم والمقررات، تنهي العمل على شحن الذاكرة بدل إكساب المهارات والقدرات التي تقوي الذكاء، وبذلك يكون نسقنا تحريريا (divergent) وليس نسقا دمجيا (convergent) ينتج كائنات ببغاوية ذات الميول السلبية نحو ممارسة أساليب الغش بأشكاله بما في ذلك الغش الذي يستعمل أدوات التواصل المعلوماتي.
المؤهلون لإنجاز هذه الثورة التربوية – التعليمية؛ هم علماء التربية والفلاسفة وعلماء الاجتماع والنفس بمختلف فروعها أكثر من السياسيين والنقابيين وعلماء الدين ورجال الأعمال والخبراء الأجانب.
وقد سبق لمنظمة اليونسكو أن حددت أهداف التثوير التربوي – التعليمي في أربعة من المستهدفات:
1- تعلم كيف تتعلم
2- تعلم لتعمل
3- تعلم لتعيش في انسجام مع الآخرين
4- تعلم لتكون
في ظل هذه المعطيات الموضوعية يظهر أن ورثة الفكر الاستعماري يقلبون الحقائق؛ إذ عوض القيام بالجهد التثويري لتعميم لغة التدريس بالعربية في الأسلاك التعليمية الابتدائية والإعدادية والثانوية والجامعية؛ يسعون إلى فرنسة أو نجلزة كل الأسلاك.
وهذا المقلب المرضي يضمر نيات تعرض الأمن اللغوي لكل المخاطر الممكنة، التي قد تخرجنا من التاريخ، وتسرع وتيرة الانصهار من جديد في مناخ الهيمنة والاستلاب. كينونتنا كبلد عربي مسلم تحتم علينا أن نصون كرامة اللغة المشرعنة لا أن نفرض لغة دخيلة.
والذين يتبنون غير هذا تنقصهم الدراية العلمية ولا يفعلون النهج المقارن بالاطلاع على الأنظمة والأنساق التربوية – التعليمية في دول القارات الخمس.
من الباحثين المغاربة الذين أكدوا على جدية هذا النهج المقارن: الدكتور محمد عدنان التازي الذي نشر بحثا عبر الوسائط الإلكترونية أكد فيه أن “قراءة عرضية تبين أن كل الدول المتقدمة تدرس سائر العلوم بلغاتها الوطنية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية وروسيا واليابان والصين والكوريتين وإسرائيل […] ولا يوجد استثناء لهذه القاعدة التي تشمل كذلك حتى الدول القليلة السكان مثل إيسلندا التي لا يتجاوز عدد سكانها 350 ألف نسمة […] هناك 19 دولة تتصدر العالم تقنيا تدرس العلوم بلغاتها الوطنية. الصين التي تعد لغتها من اللغات التصويرية، عدد رموزها بالآلاف، منها 3000 على الأقل تجب معرفتها ليمكن التعامل بها؛ ومع ذلك فإنه لم تقف هذه اللغة عائقا لتدريس العلوم لها […] بعض الدول العربية قامت بدراسات حول هذا الموضوع من بينها مقارنة بين تدريس الطب بالعربية وبالإنجليزية في كليات سعودية أكدت أن الطلبة الذين يدرسون بالعربية يزيد عدد سرعة القراءة عندهم بـ 43 بالمائة وقدرة الاستيعاب بـ 15 بالمائة مع زيادة المشاركة أثناء الدروس، وأيضا زيادة في نسبة التحصيل العلمي بـ 61 بالمائة مقارنة بالطلبة الذين يدرسون الطب باللغة الإنجليزية.
هناك نتائج مماثلة لدراسة مقارنة بالكليات المصرية[5].
لا بد أن أعرج على الآراء النيرة للساني الدكتور عبد القادر الفاسي الفهري، فقد تصدى لموضوع لغة التدريس وتأدى للقول بفكرة أطلق عليها “الثلاثية”، مؤدّاها أن النسق التعليمي المغربي يمكنه تبني لغات ثلاث: العربية والإنجليزية والفرنسية؛ على أن تكون الأولوية للعربية، وفسح المجال لاختيار لغة ثانية (الإنجليزية) أو لغة ثالثة (الفرنسية)، ويعزز ذلك بتحليلات لغوية ومصطلحية تعكس سعة في العلم.
لكني أرى أن القول بالثلاثية في صيغتها المفتوحة قد يؤدي، بشكل غير موعى به، إلى غلبة الثانية أو الثالثة، وبذلك نسقط في المحظور أي السقوط في فخ الهيمنة لتكون النتيجة تدني اختيار الأولى بتحالف معسكر الفكر الاستعماري وغلبة الثانية والثالثة.
في الخلاصة أرى أنه، بخصوص ما يجري من مجادلات بصدد لغة التدريس في بلادنا، أنه من الحكمة بالنسبة للدولة والبرلمان والمجتمع المدني والمؤسسة المدرسية الحفاظ على المادة الثالثة من القانون الإطار لتفعيل الاستراتيجية كما هي عليه، وكما قدمت أمام جلالة الملك، على أن يكلف فريق من الأكاديميين للقيام بدراسة مقارنة في ظرف زمني محدود من خلال عينة تمثيلية للأنساق التعليمية في القارات الخمس للوصول إلى الصيغة العلمية والمنطقية حول قضية لغة التدريس في بلادنا، وأن ينكب نسقنا على تقويته وتجويده والحد من اختلالاته المادية والمعنوية.
إن الهندسة اللغوية في أي نسق من الأنساق ليست أمرا هينا؛ إنها تقتضي التروي وعدم العجلة احتراما لمقتضيات الدستور المغربي.
وأؤكد إذا كان الأمر يحتاج إلى تأكيد، أنه لا أدعي الدفاع عن اللغة العربية فهي مؤهلة لتدافع عن نفسها، مثلها في ذلك مثل اللغة الأمازيغية؛ لكني أتبنى طرحا أنثروبولوجيا مؤطرا بما يسهم به تاريخ الأفكار في تجلية التعايش المتوازن بين مختلف الفضاءات الحضارية.
المصدر:
محمد مصطفى القباج؛ عم يتحدثون (القسم الثالث)؛ (ص 15-25)؛ الطبعة الأولى 2019؛ دار أبي رقراق للطباعة والنشر.
وأصل المقالة: مداخلة ألقاها الأستاذ القباج في الجلسة العلمية للمؤتمر الوطني الخامس للغة العربية؛ المنعقدة بالرباط يوم الجمعة 9 مارس 2018.
[1] انظر: مارتن هيدجر، الكينونة والزمان، ترجمة: فتحي المسكيني، مراجعة إسماعيل المصدق، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، 2012.
[2] انظر: عبد الإله بلقزيز، نقد الثقافة الغربية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2017.
[3] انظر: soulaymane bachir diagne et jean-loup amselle, enquete dafriquee(s), universalisme et pensee decolonialle, albin michel, paris 2018.
[4] انظر: محمد مصطفى القباج، التربية والثقافة في زمن العولمة، سلسلة المعرفة للجميع، الرباط، 2004.
[5] انظر: محمد عدنان التازي، الأسس العلمية لضرورة تدريس العلوم باللغة العربية في المغرب، توزيع إلكتروني، 2019.