كورونا وتجليات رحمة الله
بقلم: رشيد بلزرق
حِكم الله في أفعاله لا تُحدُّ ولا تُقدَّر، ولا يدرك حقيقتها إلا الله وحده سبحانه!
ونحن -معشر البشر- لا ندرك إلاَّ جزءا يسيرا منها، ويتفاوت هذا الإدراك بقدر تفاوت الناس في العلم والإيمان وصفاء الذهن والروح واستعداد أدوات الإدراك لذلك!
وما تعيشه البشرية -عامة- وأمة الإسلام خاصة؛ ما هو إلاَّ تجلٍّ من تجلِّيات ذلك:
فبَيْنَ عشيَّة وضحاها، أمست البشرية مطالبة بالانكفاء داخل البيوت وإغلاق الأبواب وقطع الصلة بالعالَم الخارجي، وتنفيذ التوصيات الصَّادرة عن الجهات المختصة، والمتمثلة في الحجر الصحيِّ وغيره من وسائل الوقاية من هذا الوباء “فيروس كورونا”.
فكان الناس في الحبس والحجر متساوين.
لكنهم في نظرتهم إلى الأمر وتعايشهم معه بروحهم وقلبهم وعالمَهم الداخليّ مختلفين ومتباعدين، تباعد الثُّرَيَّا عن الثَرَى !! نعم؟ فنظرة أهل الإيمان والرسالة الوجودية ليست هي نظرة غيره؛ لأنهم -وببساطة- ينظرون إلى الحدَث على أنه أحد تجليات قدرة الله وحكمته في الفعل والتصرف فيزدادون إيمانا بما اعتقدوه في ربهم، فتنشرح صدورهم وتزداد نفوسهم اطمئنانا مع إيمانهم برحمة ربهم سبحانه وتعالى.
كما أنهم جعلوا من هذه الحالة -حالةِالحجر- فرصة للخلوة بنفوسهم، من أجل النظر في عيوبهم قصد تصحيحها والبكاء على ربهم والتقرب منه سبحانه تعالى.
وهذا ما عبر عنه شيخ الإسلام ابن تيمية -عليه رحمة الله-، لما هدده خصومه؛ فقال قولته الشهيرة التي طارت في الآفاق، ودوَّت في سمع التاريخ وتعطرت بعبيرها صفحات الكتب: “ماذا يفعل أعدائي بي؟ إن قتلوني فقتلي شهادة، وإن نفوني فنفيي سياحة، وإن سجنوني فسجني خلوة”!!
وبينما هو في سجنه مكبَّل في الأغلال، إذ أُدْخل عليه تلميذه الوفي ابن القيم -رحمه الله- فأُوصدت دونهما الأبواب؛ فقال وهو يبتسم: “فَضُرِبَ بَيۡنَهُم بِسُورٖ لَّهُۥ بَابُۢ بَاطِنُهُۥ فِيهِ ٱلرَّحۡمَةُ وَظَٰهِرُهُۥ مِن قِبَلِهِ ٱلۡعَذَابُ“.
فتأمل كيف رأى -ما يراه الناس عذابا-على أنه منحة ورحمة؟! وذلك لمِا كان في قلبه رضى الله عنه من نور العلم والإيمان!
وقريب من ذلك موقف شهيد كلمة الحق سيد قطب -عليه رحمة لله -لما تكلم عن تجربته مع السجن فقال:
“في بداية الأمر ضاقت علي نفسي حتى تأملت قول الله تعلى: “مَّا يَفۡتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحۡمَةٖ فَلَا مُمۡسِكَ لَهَاۖ وَمَا يُمۡسِكۡ فَلَا مُرۡسِلَ لَهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُٱلۡحَكِيمُ“.
ومما قال-رحمه الله-: “رحمة الله تتمثل في الممنوع تمثلها في الممنوح، ويجدها من يفتحها الله له في كل شيء، وفي كل وضع،وفي كل حال، وفي كل مكان، يجدها في نفسه وفي مشاعره، يجدها فيما حوله، وحيثما كان -ولو فقد كلَّ شيء مما يعد الناس فقده هو الحرمان -ويفتقدها من يمسكها الله عنه في كل شيء وفي كل حالة وفي كل مكان، ولو وجد كلَّ شيء مما يُعدُّه الناس علامة الوجدان والرضوان! ومامن نعمة يمسك الله معها رحمته حتى تنقلب هي بذاتها نقمة.
وما من محنة تصفها رحمة الله حتى تكون هي بذاتها نعمة، ينام الإنسان على الشوك فإذا هو مهاد، وينام على الحرير -وقد أُمسكت عنه رحمة الله- فإذا هو قتاد ..”.
الأحد 04 شعبان 1441 هـ / 29 مارس 2020