ومنْ أحْياها ..
أنت تستحق أن تُحَب، تُمنح الاهتمام، أنْ تأخذ كلَّ تلك الأنظار في لحظَتِك هٰٓذه، أنْ تُكْرَم بالعطايا ،وتُتَوّج بالمشاعِر…..
لأنك ببساطة آيةُ اللّٰهِ على أرضه، وقد أكرمَك مِن ذي قبل بأنّك أنت، فوجَب على منْ دونه-عزّ وجلّ- أنْ يُكرِموك كما أنّك تُكرمِهم وتُحبّهم وتهتّم لأجلِهم ….
ليس لشيء إلا لأنّك وجدّت فى نفسِك ما وجده هابيل أنّه لا مدعاة لهذه الأرواحِ -التى تعود من روحِ اللّٰه- أن تلعن بعضها البعض، أو تكره روحٌ أختها، أو تقتل أخرى جارتها.
ربما تهون آلاف الأسباب التى تجعل منك ما تُظهر به العداء لغيرك أو تُضمر له كراهيتك عدا أن يتوعدَك أحدُهم بالقتل، ويختلف الأمر مع هابيل أنّه هنا أخوه الذى يتوعده بالقتل، فلا هى ساحة معركة وإنما خبيئة فتنة اشتعلت فى صدر قابيل ويخشى هابيل أن يُلامِس جَمرُها.
وإن دقّقت نظرتك، وآنست الإتساعَ داخلك، لوجدت أنما هذه الحياة بأكملها فتنةٌ تتلبّس فينا ثوب قصة “ابنَى آدم” فى كلّ مواقفها، والنجاة منها فى قرباننا الذى نقدمه للّٰه، وعلى أية حال سيكون إخلاصنا؟!
وما كان رد هابيل لعدوانية أخيه إلّا صوت الطبيعة الطاهرة فينا وصدىً لوقارِ أرواحنا، فلن يُضاعف خطيئة أخيه بخطيئته، ولن تمتد نواياه بأى سوءٍ تجاه أخيه؛ فقد سلب نفسه من خوفِ الدنيا لتعمرها الروح السماوية المُضاءة فى “إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ” التى تُخيف كل شيء ولا تخاف.
ربما تعتقد أن ما فعله قابيل مردودٌ إلى الحسد والبغى كأولِ فسادٍ فى النفسِ البشرية، لكن لو رجعت قليلا لوجدّت أول نضوبٍ فينا يعود إلى طمعنا فيما ليس فى أيدينا رغم ضمان كلِّ ما حولنا، عندما طمع آدم فى تفاحة إبليس رغم كلّ ما ضُمن له فى الجنّة، فكذا سار قابيل يسلب منه الطمعُ صالحه فى نيل جارية أخيه المضيئة منه، فتمكّن منه الحسدُ والبغى، وتوالت عليه فواسِد نفسه إلى أن توّج بقاه المحتوم بالفناء بقتلِ أخيه.
نعم قد جُبلنا على هذا الطمع فى طبيعتنا البشرية، ولكن فُطرنا على أن نقاومه كذلك ونجاهد أنفسنا فى اللّٰه، فهذا هو الأصل فينا، قُتل هابيل لكنّه انتصر على نفسه قبل أن ينتصر على أخيه؛ لأنه أدرك حقيقة المطلب وسعى إليه ولم يُتعب نفسه فيما ضُمِن له كما فعل أخيه، فصان بصيرته، وأخلص فى قربانِه للّٰه وسعى فى أطيب ما لديه غير آبه بما تتقاذفه الأحداث على ظهره؛ فيقينه راسخ بأنّ العاقبة للمتقين.
ولكن حقيقة الدُنيا تؤكد أنّ الإنسان بارعٌ فى توريث الفواسدِ من جِبّلةٍ لأخرى على طولِ امتدادِ الجنس البشري فى خارطة الزمان؛ فقد عاش قابيل القاتل وعاشت معه طِباعه الدنيئة يُثَقِلها بمبادئ البقاء الأبدى وهو يتعلمُ من الغرابِ كيف يوارى فى الترابِ منْ نافسه فى أبَديته تلك، ومات هابيل وماتت معه فضيلته ضِمن قانونِ الدنيا ومادتها، وبقيت قريبة جدًا من سماءِ الروحِ البشرية تلتقطها كلُّ نفسٍ ما ضلّت بصيرتها.
ومن ثوابتِ منهجِ الله السماوي أنّه جعل فيما دونه شواهد تدلُّ عليه وتُثبِتُ فرديّةَ نجاح أحكامه وأوامره، وتُسقطُ على غيرِ مُتّبعيه عِلّة الالتزام به، كانتشارِ الفسادِ فى البرّ والبحر، لماذا؟!… لعلّنا نتذكّر؛ هكذا حكى لنا القرآن أنّه جليٌ للجميع بأن ما نُصابُ من فتنٍ وبلاءاتٍ ليس إلاّ لأننا بعُدنا عن منهجِ الله، فكانت هذه الفتن والفواسد خيرَ دليلٍ وتذكيرٍ لهذا المنهج السماوي.
ولأجلِ ذلك جاء قتلُ قابيل لأخيه خير دليلٍ على صحةِ منهجِ الله، ولأجل ذلك بدأت الآيةُ الكريمة بعد سرد القصة “أنّه منْ قتل نفسًا بغيرِ نفسٍ أو فسادٍ فى الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا…” لتدُلّنا أن كلّ شذوذٍ عنْ منهجِ الله شذوذٍ عن كلّ أصلٍ خُلقنا لأجله وقتلٍ لحقيقةِ ما فى أنفُسنا بكبتِ الحقيقة الإلٰهية فينا وانحسارِ بواعثِ النورِ فى دواخلنا، وليُنبّه فينا من البداية حقيقةَ الدُنيا من البلاءِ بأنّه حقيقتها الوحيدة؛ لأنّ الفساد والبغى من أصولِ جذورِها التى استقامت فى طينتنا يوم اهتزّ فيه صبرنا، وتحذّرنا بأنه من استباح أمره على أمر الله فى نفسٍ واحدة كانت له جميعُ الأنفسِ سواء.
فهكذا هى الدُنيا وهذا ما ينبغى أنْ نصبر عليه ونتعلّم من عواقبه، فنرجع إلى أنفُسنا، ونُدرك أنّا فى الدنيا لنعيش ولأجلِ الآخرةِ نحيا، فما يكون لنا منها إلا ما يُوصلنا إلى الآخرة، فنحيا فقط لأجلِ لقاء الله ونُحيى كلَّ نفسٍ فُتِنّا فيها أو فُتِنت هى أو فُتن فيها غيرنا، لأن يجعلنا الله سببًا تحيا به أنفُسنا لنُحيي غيرنا؛ ولأجلِ ذلك كتب الله علينا فى عقِبها بأنّه “منْ أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا…”