الأخلاق القرآنية في متن العلاّمة دراز وسياقه التاريخي
الجزء الثاني: من فكر العلامة دراز
ثالثا: ميزان السنة والبدعة في فكر العلامة دراز
1-توطئة:
يقول الرسول العظيم (ص): “من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ” (عن عائشة (ض)، رواه البخاري ومسلم)، ويقول: “من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردّ” (عن عائشة (ض)، رواية لمسلم). فما كان من الباحث عن خلاصه في دنياه وآخرته، إلا أن يتساءل: ما هو أمر النبوة المقصود في الحديثين السابقين؟ هل المقصود هو كل ما كان يفعله النبي (ص) أو يتركه، مهما كانت الغاية منه، وبغض النظر عن نوع التصرف النبوي الذي ينتمي إليه؟ أم أن المقصود هو ما فعله أو تركه، وكان من أمر الدين، لا غير؟ وكيف نميز أمر الدين عن غيره من أمور الاجتهاد الدنيوي؟
لن نجيب على هذه الأسئلة من معرفتنا الخاصة بمباحث “الشريعة الإسلامية”، فالعودة إلى من هم أوثق منا في هذا الباب أولى. ولن نكتفي بتلخيص ما قالوا من غير تعليق أو تعقيب، فالمتن التراثي يكتسب حياة جديدة بالمساءلة والاعتراض المسؤول، المستحضِر لشرطنا التاريخي والدور التاريخي للدين في زمننا الخاص وزمن العالم ككلّ. إن معيار السنة/ البدعة ليس أمرا مفضولا في تاريخ المسلمين، وإنما هو مكتنز لعدة معانٍ:
– تنظيم مجتمع كان شِيعا من القبائل، فكان “التوحيد السياسي” ب”التوحيد العقدي”، وكان الضبط والتنظيم بالأحكام، عبادات ومعاملات وأنكحة وجنايات.
– توفير وعاء ضخم لإيديولوجيات وتشريعات الدول المتعاقبة: دولة الخلفاء، دولة الأمويين، دولة العباسيين… إلخ. وفي تاريخ المغرب الأقصى وقع نفس الأمر، حيث كثر تداول معيار السنة/ البدعة بين الدولة والمتمردين عليها، ثم بين الفرق المختلفة من نفس الدولة… إلخ.
– تداول معيار السنة/ البدعة في الزمن المعاصر يحمل عدة دلالات: في سياق دفاع الدول والمجتمعات عن خصوصياتها، في سياق تبرير ممارسة سياسية وطنية أو عولمية/ تقدمية أو رجعية للعديد من الحركات الدينية، في سياق حاجة الشعوب إلى معنى في زمن سيادة اللامعنى (إلى معيار في زمن تفكيك المعايير)… إلخ.
وهكذا، فقد كان لزاما علينا العودة إلى التصور الشرعي لمعيار السنة/ البدعة. فوجدنا أن كتاب “الميزان بين السنة والبدعة”، للعلّامة محمد عبد الله دراز، قد حقق المراد، من: تلخيصٍ لأقوال المتقدمين، وبيانٍ مطلوبٍ لتصوره بالدليل نقلا وعقلا، ووقوفٍ عند أصول الابتداع (أي عند ما يسبّبه). فلنطّلع، إذن، على “الميزان” الذي اتخذه العلامة دراز معيارا للتمييز بين السنة والبدعة، ولننظر إلى أي حد يمكن لهذا المعيار أن يخدمنا في شرطنا التاريخي الراهن؟ إلى أي حدّ يمكننا استدعاؤه لصالحنا لا لصالح أعدائنا المستعمِرين وأياديهم في دول الجنوب عامة، وفي الوطن العربي خاصة؟
2-في تعريف البدعة:
لا تخرج التعاريف عن ثلاثة: بالجوهر، بالتاريخ، بالنقيض. التعريف بالتاريخ هو ما ألمحنا إليه أعلاه، وبالجوهر هو ما يبنى على التعريف بالتاريخ، أو الذي يقف عند ما يتمّ به التعريف في “الحقيقة الشرعية” حسب المدارس والمذاهب. وبتحديد هذا التعريف الأخير، يتحدد التعريف بالنقيض مباشرة. فالأول نقيض الثاني، والثاني نقيض الأول. وهكذا، فإننا نستنتج أن فاقد نظريةٍ في التاريخ، أو من يمتلكها على غير حقيقتها، سيجد نفسه فاقدا للجوهر في تعريف البدعة، مهما أبدع وتفنّن في تبني مقولات هذه المدرسة أو تلك.
فما هي الوجهة التي يولّيها العلّامة دراز؟
وباعتماد أي منهج عرّف البدعة؟
هل له من قول في “التعريف التاريخي”؟
وهل بنى “التعريف بالجوهر” و”التعريف بالنقيض” عليه؟
لا ينكر العلّامة دراز، كما رأينا سابقا، القابليات التاريخية للوحي، إلا أنه ينفي أن يكون هذا الأخير صنعا من لدن بشر. فمن المتوقّع إذن، حتى قبل أن ندرس تصور العلامة دراز لمعيار السنة/ البدعة، أنه لن يخرج في هذا التصور عن إطار:
– معيار السنة/ البدعة ظاهر ومكنون في الوحي، أي أنه أتانا من “خارج التاريخ” لنتصرف به “داخل التاريخ”؛
– وهو باقٍ على أصله في تغير الأحوال والشروط التاريخية؛
– ومن زاغ بابتداع معيار آخر، فقد زاغ لنفسه وهو في ضلال”.
فالخلفاء الراشدون، والأمويون، والعباسيون، والعثمانيون، وكل الدول المتعاقبة في الأقطار الإسلامية؛ كلها مطالبة بالرجوع إلى المعيار الذي وضعه الرسول العظيم (ص) لثنائية السنة/ البدعة، وإلا فإنها ستكون قد ضلت عن “المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك”.
هذا هو الجوهر العميق لتصور العلامة دراز لمعيار السنة/ البدعة. فلا اعتبار للتاريخ إلا من حيث هو قابليات للتصرف فيه ب”منهج الوحي”، وفي هذا “المنهج” يدخل معيار السنة/ البدعة، ويجب أن يتحدد في إطاره، ليكتسب خلوده من خلود الوحي.
البدعة نقيض السنة، والسنة “لا تتناول في حقيقتها إلا ما هو صواب وحق، أي الطريق الذي رسمه لنا كتاب الله وسنة نبيه”. وليس مقصودا بالبدعة مخالفة السنة، وإنما جعل هذه المخالفة من الدين. يقول العلّامة دراز: “ليس كل مخالفة للشرع تسمى بدعة، إنما البدعة جعل هذه المخالفة دينا، فمن تمحّل لمعصية حتى صبغها بصبغة الدين وأدخلها في حدود الشريعة، فقد ابتدع، كما أن كل من عمل عملا يغير به الأوضاع الشرعية كان مبتدعا، ولو لم يكن ذلك العمل في أصله محرما ولا مكروها (كإيجاب مندوب). أما الذي يعمل بالمعصية انقيادا لشهوته أو غضبه، وهو غير مستحلّ لها، فهو عاصٍ غير مبتدع”. ولا يدخل معيار السنة/ البدعة في العبادات وحدها، بل إنه يشمل كل ما “حدّدت له الشريعة حدودا واسعة أو ضيقة لا يحل لأحد تغييرها ولا تبديلها”.[1]
يلخص العلّامة دراز تصوره، أخيرا، لتعريف البدعة، في عنصرين أساسيين:
– “التغيير في التشريع الذي يجعل غير المشروع مشروعا، المشروع غير مشروع”.
– “التغيير في العمل مع اعتقاد مشروعية ذلك، وارتكابه باسم الدين”.[2]
3-في الأصول الأربعة للبدعة:
للبدعة أربعة أصول، في تصور العلامة دراز:
– تدخل العقل في الدين:
فهناك من يستغني بالعقل عن النقل، وهذا مذموم. و”هناك من يتدخل بعقله فيما ليس فيه نص من كتاب أو سنة، أو إذا كان ظاهر النصوص مما تنكره بديهة العقول. وهذان اتجاهان، ليسا مذمومين ولا محمودين مطلقا”. في الأول، وجبت مراعاة “المقاصد السامية للشريعة الإسلامية”. وفي الثاني، وجب “التأويل ليتناسب النص مع اليقينيات الضرورية”، ووجب –قبل ذلك-“التمييز بين الضروريات والنظريات والغيبيات، ومعرفة ترتيبها، وكيفية توصل العقل إليها، حتى لا تضيع حقيقة غيبية بأخرى ضرورية، والعكس، وهكذا دواليك”.[3]
– تحكيم الهوى في الدين:
وهنا، تزيغ “النفس عن فطرتها السليمة”، وتصبح لعبة في “يد الأغراض والشهوات الدنيا، فتهوى بها نازلة عن مطالبها القدسية إلى طلب الحظوظ العاجلة”.[4]
– عدم الرسوخ في علم العربية:
فمن يجهل “مفردات اللغة العربية، وطرائق العرب في تركيبها، وأساليبهم في المحاورة والمخاطبة بها (مثل: التكلم بالعام وإرادة الخاص به)”، سيسقط لا محالة في تغيير الشرع، إذا همّ باستنباط الأحكام.[5]
– الجهل بمقاصد الشريعة:
فعند غياب نص جزئي لاستنباط حكم جزئي، وجب “إرجاع الجزئيات إلى كلياتها”، “فلا يقال قد وجدنا من النوازل والوقائع المتجددة ما لم يكن في الكتاب ولا في السنة نص عليه، ولا عموم ينتظمه”.[6]
للبدعة، في نظر العلامة دراز، تصور واحد. ولذلك، فإن ما يستهدفها لا يخرج عن الأصول الأربعة أعلاه، وكلها تتناول العقل والهوى واللغة والمقاصد، في سكونها لا في حركتها، في مثالها لا في واقعها الجدلي. أليس في المثال مَعينا لمن أراده؟ أليس في السكون أصلا لمن احتاج إليه؟ بلى، فالمثال معين، والسكون أصل، في التاريخ لا خارجه، لذوي الوعي التاريخي الملموس وليس لغيرهم.
4-“ميزان” العلامة دراز لشرطنا:
إلى أي حد يمكن لمعيار العلامة دراز، فيما يخص تصوره لثنائية السنة/ البدعة، أن يخدمنا في شرطنا التاريخي الراهن؟ إلى أي حدّ يمكننا استدعاؤه لصالحنا لا لصالح أعدائنا المستعمِرين وأياديهم في دول الجنوب عامة، وفي الوطن العربي خاصة؟
بإمكاننا الاستفادة من “ميزان” العلامة دراز، على جبهات:
– جبهة الاستثمار الإيديولوجي: فتحت كل تعريف “وجود واجتماعي”، وهذا لا يدعو بالضرورة إلى إيقاف العمل بهذا التعريف، بمجرد انتهاء “وجوده الاجتماعي” الأول. فقد نستدعي المعيار الأول (معيار “الوجود الاجتماعي” الأول) أو منه، لشرطنا بقدر ما نحن في حاجة إليه، بغرض “الضبط والتنظيم وحماية الذات من الاختراق… إلى غير ذلك”. وقد نخدم تحت هذا المعيار من المصالح العامة، ما لا يريد النقيض منا تحقيقه أو يريد عرقلته تحت نفس المعيار. هذا هو المقصود بالاستثمار الإيديولوجي لمعيار السنة/ البدعة، وهذا ما يغفله “الحداثويون” الجاهلون بالأدوار التاريخية “للإيديولوجيات الدينية”.
– جبهة المعيار المنظم للفكر والعمل: وذلك في سياق تفكيك رأسمالي إمبريالي للمعايير، وفي سياق سلب الخصوصيات الأصيلة وتعويضها بأفكار دخيلة عولمية ومميتة. إن معيارا يحتاج المراجعة، لهو خير من “لا معيار”. ومن باب أولى أن نحافظ على معيارٍ بنَانَا لسنين، وحصّننا أمام العدوّ الاستعماري إلى الحدّ الذي لا نفقد معه ذاتنا. من باب أولى، أن نحافظ عليه في معيار عامّ يستوعبه ويستثمره لصالح الوطن وحدوده الكبرى.
– جبهة اللغة الشفهية والكتابية: فالرجوع إلى العربية الفصحى بهدف الاستنباط السديد للأحكام، مما هو مطلوب في سياق الاستهداف الفرنكفوني للغة العربية، شفهية وكتابية. وفي ذلك، تأمين للدولة بالحفاظ على لغة التواصل بين جميع أفراد الشعب، وبالحفاظ على لغتها الكتابية، لغة الإدارات والمؤسسات والتشريع، ولغة الشريعة التي تستمد منها أسمى المؤسسات شرعيتَها. وفيه أيضا، حفاظٌ على أواصر الوطن العربي والأمة الإسلامية، وتحصينٌ لاستراتيجية الإسلام (ومخها القرآن الكريم) من التفكيك الرأسمالي المتوحش.
– جبهة المقاصد في شرطها التاريخي: فالمنطق المقاصدي مطلوب لمزيد في الفسحة فيما وسّعه الله على المكلّفين، ولتلافي تعطيل كليات الشريعة، فتعمّ الفتنة وينتشر العبث و”شرع اليد”. ولا ينبغي أن يتم ذلك إلا في إطار نصوص الشريعة، حتى لا تصبح المقاصد “حداثوية”، وعلى النقيض من مصالح الأمة وأوطانها.
_______________________________________
1- محمد عبد الله دراز، الميزان بين السنة والبدعة، إعداد وتحقيق أحمد مصطفى فضلية، دار القلم، الطبعة الأولى، 2003، ص 43-49-50.