في الزواجِ والحبِّ والدين
بقلم: عبد الرحمن علوش
الحبُّ مغامرةٌ، والمُغامرةُ نتيجتها في قانون الحياةِ إما نفعًا وإما ضرًّا، وفي مذهبِ الحبِّ إما نفعا وإما انتفاعا، هكذا هو الصادقُ من الحبِّ؛ إنّ المُحبَّ المخلصَ لا يرىٰ الضرر إلا من وجهةٍ واحدةٍ بأنه هو أنبلُ النفعِ؛ قناعةً طيّبةً بالعطاءِ من نفسه في سبيل منْ يحب…
وهل يكون العطاءُ هنا إلا عطاءُ النفوسِ؟!! فهي نفسٌ واحدةٌ تحيا على نبضِ قلبيْن اثنين، فأي معنىً للفقدِ هنا إذْ يؤخذ من النفسِ ويعودُ على ذاتِها!! هذا هو عطاءُ المُحبّين، بَذلٌ تُحبُّه النفسُ وتتشوّفُ فيه الحياةَ بمعناها الخالصِ من السعادة…
وليس لنا في هذه الحياةِ الدنيا معنىً خالصٌ من السعادة من دون حُزنٍ يأوي كَسْرَتنا إليه، وإليك صديقي ما تعنيه السعادةُ في طرائقِ الدنيا ونواميسِها: السعادة باختصار هي أجمل صورنا من العزاء النفسي، وبشيءٍ من التفصيل، منحْةٌ إيمانيةٌ من الله تُزيل عن القلبِّ غُمّته عندما نتجاوزُ منفانا من الحزنِ مع منْ نحُب، تلك الرابطة الوجدانية التي تُرضي حاجةَ فضاءٍ ثوريٍ فينا لا يهدأ إلا أن تشغلَه روحٌ جميلةٌ تأسرَ كيانَه، فنسكنُ إلى ركنٍ في سلامِ أرواحنا من أثرِ وجودِ إحداهنّ في تتمةِ وجودنا….
حينها نُكافؤ بنصيبنا من السعادةِ على سبيلين: هما الوجود والوجدان؛ فتهونُ كلُّ المشقاتِ مهانةً تجلبُ في طيّها سعادةَ لحظتنا، ولحظتُنا هي كلُّ أيامنا لو حافَظنا على نصيبِ قلوبنا من زكاةِ الإيمانِ….
وعلى هامشٍ من صفحاتِ القلوب فإن الإيمانَ بالله هو نهرُنا العذبُ بين أُجاحِ هذه الدنيا، بينما كان الإيمانُ بشريكٍ يخطو الحياةَ معنا بخطواتنا فيها هو أحدُ فروعِ هذا النهرِ الجاري، لا ينقطعُ النهرُ بانقطاعه، غير أنه -في معايير النهر ومادته- خيرُ ما يزدانُ به النهرُ.
وهنا نأتي من حيثُ ما أردت أن أُأصّل وأبني عليه كل ما بسطته أعلى؛ تمحيصًا لبَعثاتِ أفكارِنا، وتنقيةً لنواضجها، عندما كانت النفسُ من نفسِ حبيبها، وفيها كالواحدةِ التي تحيا على أنفاسِ قلبيْن كان قبلها كتاب الله من الأزل يعكسُ أصالة هذا المعنى حيث قال الله -تعالى-: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا ...} [الروم : 21]
وفي قوله -تعالى-: {۞ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ۖ …} [الأعراف : 189]
الآيةُ الكريمة بُنيت على دلالتين هما: وحدانية الأصل واتساق المشاركة مأخوذين من حرف الجرّ (من)، شريطةَ شيءٍ واحدٍ هو الزواجِ، سنة الله في كوْنه يومَ أن التقى آدم بحواءِ التي هي من ضِلعه….
تلكمُ المعاني السابقة من العطاء البشري لتغدوا حَدَثا واقعيا بالزواج، وبدونه تبيت حدْسًا روائيًا وضربا من ضروب الخيالات الحالمة في النفس، الحب عهدٌ في ذمةِ الأيام لما تبقى من العمر، فهل نُكاتب العمر كلّه على بعض الليالي المُراهِقة؟!! أليس لكل شيءٍ شرارته التي تضمن حرارة البدايات ثم تنطفئ تاركةً أرضا مُخصّبةً لما سيأتي بعدها، هذه هي ميكانيكية حب البدايات، سنقتنع جميعنا بعد أيامٍ أن كل ما كان قبل الزواج هي شرارة حبٍ كان شبابنا يحدو على ثورتها، وأما ما بعد الزواج فهو ناموسٌ روحي يطمئن له رُشدُنا، ومُصابنا الأعظم لو أحرقنا قلوبنا في بدايات تلك الشرارة، وجعلنا من حراكِ فوارغنا وأقفال تعلّقنا جحيما على أنفسنا، فنخسر أمسنا ويومنا….
هل حُبُّنا الروائي قبل الزواج يُغنينا عن قضايا معيشتنا ويكفينا مواثيق العطاء؟! هل يسدُ عنّا ديون الكفاح وما بعد الزواج؟! لا والله، وإن فعلنا فقد خسرنا قضيتنا وما وكّلنا فيها مِن أعمارنا، الموازنة أسلم لنا من اختناقنا في فيض الإناء وأروى لنا من عطشنا أثناء فقره؛ ولذا فنحن لا نتجنىٰ على الحب الخَيولِ قبل الزواج، ولكن البناء أساسه المُعايشة والأحداث والمواقف، فعلى أي أساسٍ نبني عليه الحب وهو فاقدٌ لمعاني البناء؟! وإلا فقد يتهافت علينا الحاجز الحصين بين الحقيقة والمجاز، و الواقع والخيال، فهل نرضىٰ بأدبيّاتِ أنفسنا سجنا لنا من قبل لنسُدّ به طُرقاتِ مستقبلنا؟!
إن ما يعنيه لنا الحب هو ما نرى منه بعد الزواج في خِضَم رحلتنا وليس ما تختاله لنا آمالنا البشوشةُ على بوابة الأيام، أن نبني لأجل الحب بعد الزواج أولى من بنائنا له قبل الزواج، بمعنى أن نصيرَ صانعي منهج، وليس لنا في الإقتضاء أسوةٌ خيرٌ من شريعتنا الإسلامية، فحينما نختار نختار على هذا الأساس (فاظفر بذات الدين تربت يداك) و(منْ ترضون خلقه ودينه)، كوصفةٍ نبويةٍ تُقرّ رعشاتِ قلوبنا يومَ أن يُرهقنا الإختيار، ومن بعدها تصتف عندنا في ممراتِ أُلفتنا البشرية شرائط القبول، وتوافق الطباع، بمعناهما الشامل الذي يحمل معه ضمنياتِ التآلف والتجانس الروحي ويضمن لنا الراحةَ النفسية والقبول الشكلي ويُجاوز ظلمَ النفس وشريكها….
فصلُ الإختيار يندرج تحت باب الجمال على معنيين: هما جمالُ الخُلُقِ والخَلقِ، أولهما قطعيٌ ثابتٌ والآخر نسبيٌ مُتغير، فما ظنّكم بقدرة مما سبق من هذه المعايير أن تستحوذ على قلوبكم فيما تبقى لكم من العمر بعد الزواج؟!! الجواب غير واضحٍ وبيّن، فمن دون أن يخفى علينا جميعا بأن الحب الذي نحن نفهمه وندركه ليس فيه معايير، مهما فعلنا وخطّطنا، ويظل هو محض رزق الله لنا من العطاء، ولكن ربما منهجية شريعتنا هي أفضل وصفةٍ لإيجاد الحب كأنه رحلةٌ من الشراكةِ الوجوديةِ والوجدانية نحو الله، ولا عناء في استشعارِ ذلك ما دامت القلوب مقصِدُها إلى الله.
إن فلسفة الزواجِ في الإسلام تأخذ صلابة روابطها بإعلان قدسية تلك العلاقة من مدلول قول الله المعجز:
{وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء : 21]
في هذه الآية تأملاتٍ كثيرة ترِد على أذهاننا، أولها هذه اللفظة البيّنة من (الإفضاء)، لِتشعر معها بما هو فوق العطاء، وأزيْد وأكرم من ذلك حتى يؤول إلى الفيض، فتعجب من خصوصية هذه العلاقة وتميّزها بالمِنحِ والهبات الغريزية؛ لسد حاجة الجسدِ والشعور معا؛ ليؤكد ختامُ الآيةِ الكريمة على قداسةِ محرابِ تلك الرابطة بعد أن وصفها (بالميثاقِ الغليظ).
ولم أجد في أي أبدجياتٍ لغوية تصف خلاصة المشاعر في الصفة الزوجية أعظم بيانا ووصفا من قول الله -تعالى-: { لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا …َ} [الروم : 21] ، يضعنا القرآن الكريم هنا نحو هدوءٍ من نوعٍ آخر: هدوءِ النفسِ وسكونها، ومن يتتبع لفظة (لتسكنوا) في القرآن الكريم يجدْها وردت في آيتين من آيات الله: هما الليل والزواج، وجاءت مع الليل (لتسكنوا فيه)؛ ليدل حرفُ الجر (في) مع (الليل) على صفته الزمانية؛ ويدل حرفُ الجر (إلى) مع (الزواج) على صفته المكانية، وكأنه الباريء اختص الزوجةَ بمباعثِ السكينة لروح زوجها تُؤوي إليها حاجيّات نفسه إلى الراحة كما الليل يُداومُ حاجةَ يومنا.
ومن الأشياءِ الموجبةِ للتدبر هو اختصاص الله -عز وجل- بجَعْلٍ إلٰهي لهذه الشراكة الزوجية في الآية الكريمة:
{…. وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم : 21]
في هذا الجَعْلِ حركةُ عطاءٍ ربوبي ليس لنا دخلا بها إلا أن نتزاوج على شريعته، وعطفا على تفرّد وصف القرآن فوق كل وصفٍ وإعجاز لغته فيما لا يقتربُ منها شيءٌ ولو لقليلِ بيانها، فنجد في المودةِ ما هو أعمق من الحب وفي الرحمةِ ما هو أكثر براحًا من العشق، وفي الإثنين معا ما هو أشمل وأكمل من الأُخريين، تُرى هل يُمكن أن تكون هذه المعاني الفوقيّةُ من المشاعر نهجًا فِطريا فينا إن اتبعنا مُراد الله، وما دونها إما انحرافا زِغنا إليه أو بلاءا أُبتلينا به؟! جملة الإجابة على هذا التساؤل يطويها قدر الله ورزقه، لكنّني أرى أنه بمجرد حدوث التزاوج والمُصاهرة يأتنا من مودة الله ورحمته ولو شيءٌ فيما بيننا يُطيّب أيام العمر الممزوجةِ بخطواتنا.
يحكي لنا لفظُ القرآن ببراعته عِظمَ مكانةِ هذه السُنةِ الكونية في مسيرتنا الروحية إلى الله: سيرةٍ يخطّ سطورَ مسعاها الدينُ والدنيا نحو جهةٍ واحدة ومرجعيةٍ منفردة هي الآخرة، المؤمنون يملكون نصيبا كافيا من زينةِ الإيمانِ بالله في قلوبهم ليستقرّ عندهم أن (الآخرة هي دارُ القرار)، وهم موصولون بها دائما في قولهم وعملهم، الزواج ضمن أركان رحلتهم هو مَدَدٌ بالوصلِ سهلاً لهذه الدار، الزواجُ عندي صورةٌ دنيويةٌ من هذا القرارِ الأُخروي لم ولن يتجاوز عتبةَ مقاييس الدنيا التى ما استقامت لقلبِ مؤمنٍ أبدا، هذا المعنى الكفاحي إلى الآخرة وارتباطه بامرأةٍ صالحة نجده ﻓﻲ ﻗﻮﻟﻪ -صلى الله عليه وسلم- ﻟﻤﺎ ﺳﺄﻟﻪ ﺍﻟﻤﻬﺎﺟﺮﻭﻥ ﺃﻱ ﺍﻟﻤﺎﻝ ﻧﺘﺨﺬ
ﻓﻘﺎﻝ: ((ﻟِﻴَﺘَّﺨِﺬْ ﺃﺣﺪُﻛﻢ ﻗﻠﺒًﺎ ﺷﺎﻛﺮًﺍ، ﻭ ﻟﺴﺎﻧًﺎ ﺫﺍﻛِﺮًﺍ، ﻭ ﺯﻭﺟﺔً ﻣﺆﻣﻨﺔً، ﺗُﻌِﻴﻨُﻪُ ﻋﻠَﻰ ﺃﻣﺮِ ﺍﻵﺧﺮَﺓِ))
وقوله -صلى الله عليه وسلم- {أن هذه الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا المرأةُ الصالحة}.
عقلنا البشري يعرف التسليم والخضوع للنصوص الشرعية ويصدّقها بعد أن يحتضنها القلب مؤمنا بها، وقناعة الأول في الحكمة منها والثاني في الاطمئنان بها، والاطمئنان يزيد بالتجربةِ وحكايا الأثرِ الطيّب، فهل لنا أطيب من أثرِ الحبيب -صلى الله عليه وسلم- لنطمئنَ بسيرته!!! ولذلك فإن أقرب النماذج لدي شاهدةً على تفوق صلاح الزوجة ودينها فوق كل انتقاءٍ واختيار هي في زواج المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بالسيدة خديجة -رضي الله عنها- ، وبالنظر من أعلى المشهد النبوي ومن منظور الهم الرسالي يمكن أن نُقرّ تساؤلا يرِد خواطرنا: هل فضيلة الزواج لازمةٌ في حياتنا والمرأة الصالحة مؤثرة لتلك الدرجة التي وصل إليها تأثير أم المؤمنين السيدة خديجة -رضي الله عنها- في حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وكلنا يعلم ما فعلته أم المؤمنين لتساهم بإيمانها وقلبها وأموالها في إقامة أعظم رسائل السماء إلى أهل الأرض دينا قيّما ومنهاجا صالحا للبشرية!!! وهل فضل المرأة المؤمنة في حياة الرجل وفي رسالته الدينية في الحياة صورةٌ حيّةٌ منسوخةٌ تكاد تقترب من فضل أمنّا السيدة خديجة -رضي الله عنها- في حياةِ الرسول -صلى الله عليه وسلم- وفي رسالةِ السماء إلى الأرض!!
بعد كلّ ما مددنا بوِصال معانيه فوق لا بد أن نختم تساؤلاتنا بتساؤلٍ أخير: ما هي حقيقة ظننا بالحب؟! وهل يتعارض الدين يوما مع ما نحتاجه من الحب!! الحب عندنا هو ظنٌ يقومُ على مُوارباتِ استفهاماتنا النفسية، فهذا الشتات الإدراكي العجيب في فَهمِنا للحب هو أكثر الأشياء اتّساقا مع طبيعة النفس البشرية، ولولا هذه العبثية المُنتقاه لما شعرنا بجماليةِ الحب؛ ولذا فإن ديننا متمثلا في القرآن والسنة النبوية يفهم الحب على أنه رحلة: رحلةٌ من الكفاح، والمعاني، والمشاعر، والعطاء، رحلةٌ إلى الآخرة، ويدرك على نحوٍ خاص قصورَ تعريفِنا لأنفسنا، فكمالية الدين تظهرُ على ضلالاتِ أرواحنا وزلّات أنفسنا حيث يصنع لنا منهج من شيءٍ ليس له منهج، وهذا المنهج يقوم على مباديء عدة أسردها كالآتي:
١..الدين يضمن لنا ما هو فوق الحب، والفوقية هنا من الواقع والمُعايشة.
٢..وتلكمُ المعاني من السكينة والمودة والرحمة ليس شرطا أن تبتعد عن مفهوم الحب أو تقترب منه، ولكنها أكثر الأشياء قدرةً على توفير معناه الحقيقي في النفوس.
٣..معايير الدين لنا في مرحلة الاختيار تُحدّثنا عن أولوية الآخرة ولا تغفل عن نصيبنا الطيّب من الدنيا.
٤..الشريعة بمفهومها من الإيمان تربطنا بحب الله أبدا، فإن أُعطينا الحب البشري فمنةٌ من الله وفضل، وإن حُرمناه، فخيرٌ من الله وصبر، وأي معنىً للحِرمانِ هنا ما دام الله معنا!!!
٥..رؤية الدين للحب والزواج تُعطينا درسا في مطاوعة الواقع كما أمر الله وعِظةً في استعداد الآخرة كما أراد الله.