فلسفة الكذب
(الكذب بين الاستيهام والقول الفاعل المنجز)
كلما صفعتنا الأحداث المتسارعة حولنا، صرنا أكثر يقينا، الآن وأكثر من أي وقت مضى، بأن الثنائيات التي ألفنا مقاربة المستجدات من خلالها، وتأطير تبعاتها في صدق وكذب، وحق وباطل، ويمين ويسار، وظلم وعدل، وعلم وجهل، وتقدم ورجعية، وتقليد وحداثة، وتراث ومعاصرة وغيرها من المتقابلات التي كانت تصنف العالم حولنا إلى معسكرين متقابلين متناقضين؛ أصبحت عاجزة، في عالم يعج بالمستجدات ووبكل ما من شأنه تغييب المعاني، ويطالعنا كل يوم بجديد تناقضات؛ أن تقيم أسوارها المعتادة، وبرازخها الحاجزة عن امتزاج المتضادات كي تميز بين المتناقضات، وتفصل بين النزاعات، وتنفض الغبارعن اليقينيات التي أصبحت يتنازعها التشكيك، ليس ذاك القائد إلى اليقين وإلى الحق وإلى الوعي بالذات والعالم، وإنما مطعّم الحيرة والوهم والاستيهام والارتياب، وأن تستعيد فعاليتها العقلية وقوتها الإجرائية التي من شأنها أن تعيد للناس ثقتهم بالواقع.
واقع أصبح يحكمه الخداع، ويحركه الكذب، ويفقده التدافع قيمه ومعانيه. عالم فقدت فيه حتى الرذائل شكلها ووضوحها، وأصبحت تخرج علينا في أشكالها السائلة الجديدة، تارة متقنعة متخفية متلبسة بأضدادها، وتارة بكل “عنفوانها” فارضة نفسها على أنها الحق. حتى ما عاد يكفينا أن نطرح سؤال الماهية لتحديد هويتها، بل أن نبحث أبعد من ذلك على تداعياتها وإفرازاتها ونتائجها؛ كي نستطيع التفريق بينها وبين ما تقدم نفسها نائبة عنه.
ولعل الكذب؛ المثال المراد مقاربته من خلال هذه الورقة، والرذيلة التي أصبحت تأخذ وُجوهًا جعلت التزاحم يقدمها على أنها الحق والواقع، مثال حي على هذه التقلبات والخداعات. فالشكل الذي أصبح يتلبس به، في عهد الحداثة والسيولة، لم يعد فقط يعمل على حجب الحقائق المطلقة، وإنما على تزويرها أوإتلافها، والمكر بها، وصنع بدائل لها تحاول مضاهاتها وطرح نفسها على أنها الحقيقة الحقة. فصار قولا فاعلا منجزا بعد أن كان مجرد كلام ملفق بنية الخداع. فإذا كان الكاذب “التقليدي” حينما يكذب، يكون قصده التحايل على الآخر وخداعه، فإن الكذاب الحداثي متفنن في التدليس وفي الافتراء وتزوير الحقائق ونقضها، بل بارع في الكذب على نفسه وتصديقها .يختلق الكذبة ويصدقها ويتخذ إثرها إجراءاته. وما دعاوى القضاء على الإرهاب إلا واحدة من تلك الكذبات التي سوغت الاحتلال، وإبادة المظلوم، واستنزاف ممتلكاته، وتشريده.
ينتقل الكاذب من القول إلى الإجراء، ومن الكلام إلى الفعل. معرفته بعدم سلامة ادعاءاته حاضرة بقوة، وسوء نيته دينامو فعله، وهي وفقط ما يحدد تصنيف قوله بالكذب؛ إذ المقاصد ميزان الحكم على مطابقة القول الفعل، ووعيه شاهد هادف يتغيى إسقاط الآخر في الخداع والتضليل وإلحاق الأذى به واستغلال حسن نيته.
هل لتسارع الأحداث وسيولة العالم دور في جعل الكذبة تنزلق في المنطقة الرمادية؛ بؤرة المابين – بين، حيث صعوبة التدقيق في النوايا فنتعامل معها بكل ثقة على أنها الحقيقة أو بديلتها دون قدرة على تصنيفها كذبة؟
لا أحد يجهل ما لوسائل الإعلام والتواصل من دور في تكريس الكذب، والترويج للخداع، ونسف الحقائق. نصف ساعة أو أقل أمام نشرة الأخبار، أو قراءة لتحليل سياسي بجريدة أو على الشابكة؛ كفيلة بغسل الأدمغة. فالتحليل الكاذب للوقائع وفق ما يطلبه “السوق” وخدمة لتوجه القناة أو الجريدة أو الشخص المحلل، غير متوانية في قلب الحقائق التي يعلم الجميع بها، فالقدس –مثالا- أصبحت عاصمة دولة وهمية استطاع شبحها كتابة اسمه على الخريطة، وعوض اسم فلسطين بإسرائيل، وإن كان الكل يحفظ التاريخ ويعيه ويعلم جيدا لمن الأرض، بل منهم من عاشه وشكله ودونه، إلا أن الكذب قد يتخذ شكل الحقيقة ما دامت قد فرضته القوى العليا، والمتحكمون في تلوين الأحداث بالخداع وفق ما يخدم مصالحهم الامبريالية.
وصار الفوتوشوب وسيلة لإضفاء المصداقية على الكذبة السياسية وعلى الوقائع والمستجدات، بل حتى النقل المباشر يستطيع ممارسة دوره في الكذب، إذ لن يعجز المصور أن يأخذ زاوية تمكنه من التلفيق ومن قلب الحقائق ومن جعل البدائل تحل محل الحقيقة بنقضها، ولا يتوانى في جمع صوره كشاهد عيان على تلك الأحداث التي لم تقع أو التي وقعت خلاف ما هو معروض، وتصبح مرجعية تاريخية تؤصل للإيهام والتضليل، وصار تفكيك الأحداث وتفتيتها وسيلته لتفريغها من معانيها ومن ترابط الدافعية بالمآلات، ومن منطقية تدافعها.
ولعل متابعة لمواقع التواصل كفيلة برصد صور الكذب في أحدث صفاته، فالمثيقف والمتفيقه والأديب الواهم، والشاعر الأبله، ومحلل الأحداث الغبي وسارق المنشورات والتعليقات والمقالات الموقع لها باسمه كذبا وزورا ووو كل يروج لكذبة يعلم يقينا أنها مجرد تشبع وتمثيل، إلا أنه يسوق لها على أنها موهبته ومجال انشغاله وعرق جبينه وبنات أفكاره. بل مواقع التواصل في حد ذاتها وفي جزء كبير منها كذبة كبيرة، إذ أن التواصل لم يعد يؤدي معناه، وصارت وسائله مكرسة للقطيعة وللعزلة، ناشرة لثقافة تنميطية في عالمنا السائل والتي لم تصنع أكثر من التواصل الكاذب والحب الكاذب والعلاقات الكاذبة والسياسة الكاذبة.
وريادة التنمية البشرية أصبحت تسوق للوهم على أنه علم، وتجعل من الخرافة والتسطيح وسيلتها لأكل العيش. وصار الناس مستعدين لدفع المال لأجل سويعات انقطاع عن الحقيقة، وعيش في الوهم اللذيذ. وأفرز الاستطباب بدائله الخادعة من طب بديل ورقية شرعية هي أقرب إلى الدجل منها إلى الرقية، وروج للمراهم وللأدوية المكافحة لمظاهر الشيخوخة، مستغلة استعداد الناس لاقتناء الأوهام.
وهكذا، أصبح الكذب نمط حياة، وصار الخداع بديلا للحقيقة.
إن كانت النية فيصلا في تحديد القول وتصنيفه حقيقة أو كذبا، هل بالإمكان انتهاج الغائية والنفعية، والأخذ بعين الاعتبار النية أيضا في التجاوز والتسامح في استخدام الكذبة المسوقة لإظهار حقيقة أو لدفع ضرر أو لاستجلاب منفعة، وضرورة لاستمرارية الأخلاق في مواقف معينة، وأن ندخلها من باب المصالح المرسلة ؟ أم أن الكذب في تعريفه الصارم يخرج كل ما من شأنه التحايل على صفاته كي يلبسه حقيقة أخرى غير حقيقته التدليسية؟
لا يمكن الرد على هذه التساؤلات في مبعد عن الشرع ودون رجوع إلى النص الديني، إذ المسألة تحليل أو تحريم، وإباحة أو منع.
وفيما يلي أسوق كلاما نفيسا لأبي حامد الغزالي رحمه الله يؤصل لهذه المسألة:
” اعلم أن الكذب ليس حراماً لعينه ، بل لما فيه من الضرر على المخاطب أو على غيره ، فإن أقلَّ درجاته أن يعتقد المخبَر الشيء على خلاف ما هو عليه فيكون جاهلاً ، وقد يتعلق به ضرر غيره .
ورب جهل فيه منفعة ومصلحة ، فالكذب محصل لذلك الجهل ، فيكون مأذوناً فيه ، وربما كان واجباً .
فنقول : الكلام وسيلة إلى المقاصد :
1- فكل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعاً : فالكذب فيه حرام.
2- وإن أمكن التوصل إليه بالكذب دون الصدق : فالكذب فيه مباح إن كان تحصيل ذلك القصد مباحاً.
3- وواجب إن كان المقصود واجباً ، كما أن عصمة دم المسلم واجبة ، فمهما كان في الصدق سفك دم امرئ مسلم قد اختفى من ظالم فالكذب فيه واجب ، ومهما كان لا يتم مقصود الحرب أو إصلاح ذات البين أو استمالة قلب المجني عليه إلا بكذب : فالكذب مباح إلا أنه ينبغي أن يحترز منه ما أمكن ؛ لأنه إذا فتح باب الكذب على نفسه فيخشى أن يتداعى إلى ما يستغني عنه ، وإلى ما لا يقتصر على حد الضرورة ، فيكون الكذب حراماً في الأصل إلا لضرورة .
فهذه الثلاث ورد فيها صريح الاستثناء ، وفي معناها ما عداها إذا ارتبط به مقصود صحيح له أو لغيره.
كما لو أخذه ظالم ويسأله عن ماله : فله أن ينكره ، أو يأخذه سلطان فيسأله عن فاحشة بينه وبين الله تعالى ارتكبها : فله أن ينكر ذلك فيقول : ما زنيت ، وما سرقت ، وقال صلى الله عليه وسلم : (من ارتكب شيئاً من هذه القاذورات فليستتر بستر الله) وذلك أن إظهار الفاحشة فاحشة أخرى ، فللرجل أن يحفظ دمه وماله الذي يؤخذ ظلماً ، وعرضه بـلسانه وإن كان كاذباً
وكما لو سأله سر أخيه فله أن ينكره
وكما لو أراد أن يصلح بين اثنين ، وأن يصلح بين الضرات من نسائه بأن يظهر لكل واحدة أنها أحب إليه ، وإن كانت امرأته لا تطاوعه إلا بوعد لا يقدر عليه فيعدها في الحال تطييبا لقلبها ، أو يعتذر إلى إنسان وكان لا يطيب قلبه إلا بإنكار ذنب وزيادة تودد فلا بأس به .
ولكن الحد فيه أن الكذب محذور ، ولو صدق في هذه المواضع تولد منه محذور ، فينبغي أن يقابل أحدهما بالآخر ، ويزن بالميزان القسط
فإذا علم أن المحذور الذي يحصل بالصدق أشد وقعاً في الشرع من الكذب فله الكذب ، وإن كان ذلك المقصود أهون من مقصود الصدق فيجب الصدق ، وقد يتقابل الأمران بحيث يتردد فيهما ، وعند ذلك الميل إلى الصدق أولى ؛ لأن الكذب يباح لضرورة أو حاجة مهمة ، فإن شك في كون الحاجة مهمة فالأصل التحريم ، فيرجع إليه
ولأجل غموض إدراك مراتب المقاصد ينبغي أن يحترز الإنسان من الكذب ما أمكنه ، وكذلك مهما كانت الحاجة له فيستحب له أن يترك أغراضه ويهجر الكذب ، فأما إذا تعلق بغرض غيره فلا تجوز المسامحة لحق الغير والإضرار به ، وأكثر كذب الناس إنما هو لحظوظ أنفسهم ، ثم هو لزيادات المال والجاه ، ولأمور ليس فواتها محذوراً ، حتى إن المرأة لتحكي عن زوجها ما تفخر به وتكذب لأجل مراغمة الضرات ، وذلك حرام .
وقالت أسماء : سمعت امرأة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : إن لي ضرة ، وإني أتكثر من زوجي بما لم يفعل ، أضارها بذلك ، فهل علي شيء فيه ؟
فقال صلى الله عليه وسلم : (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور) متفق عليه .
وكل من أتى بكذبة فقد وقع في خطر الاجتهاد ، ليعلم أن المقصود الذي كذب لأجله هل هو أهم في الشرع من الصدق أم لا ، وذلك غامض جدا ، والحزم تركه ، إلا أن يصير واجباً بحيث لا يجوز تركه ، كما لو أدى إلى سفك دم أو ارتكاب معصية كيف كان .
وقد نقل عن السلف أن في المعاريض مندوحة عن الكذب ، قال عمر رضي الله عنه : أما في المعاريض ما يكفي الرجل عن الكذب . وروي ذلك عن ابن عباس وغيره .
وإنما أرادوا بذلك إذا اضطر الإنسان إلى الكذب ، فأما إذا لم تكن حاجة وضرورة فلا يجوز التعريض ولا التصريح جميعاً ، ولكن التعريض أهون” انتهى باختصار من “إحياء علوم الدين- الغزالي” (3/136-139
وماذا عن الصمت؟ ألا يمكن أن يكون حمال وجوه، وأن يسوق للكذب تماما كما يفعله الكلام؟
إن كان الكلام؛ مع وضوح النية؛ صريحا وصارما في تحديد تصنيف الباعث عليه، إلا أن الصمت، ذلك الخداع، قد يمارس تخفيه وتمويهه، لذلك لا يمكن اعتباره عدما أو غيابا، إذ قد ينطق بأكثر مما تنطق به الكلمة، بل تغييبه لها يستنطقها، ويفسح المجال أحيانا كثيرة إلى مزيد من المعنى. هو في صورة من صوره قد يكون معذورا، إذ قد يكون رفضا لظلم ولاستبداد ولخداع قد طاله الإسكات وزج به في الخرس، إلا أنه في صور أخرى متعددة؛ يكون جبانة وعجزا وسكوتا عن حق، وخضوعا لظلم أو إخضاعا له، وتفويتا لحق قد يكون متعمدا. ولعل هاهنا لن يكون من ذهب ، ولن يعتبر حكمة، بل كذبا ساكنا قد يكون أبلغ في سكونه من الكذب المنطوق الصراح، وخداعا متخف بقناع “اللاكلام”.
إن كان هذا شأن الكذب؛ في عصر “السيولة” الأخلاقية و”أخلاق السوق”؛ خداع وتدليس ونية مسبقة لإلحاق الأذى بالآخر، وإن كانت الحداثة وما كرسته من فوضى، وقلب للحقائق، ونزع للمصداقيات، وتزوير للتاريخ، وإتلاف لمستنداته ووثائقه؛ قد فرضت من الأدوات ما يُشرْعِن الكذب ويعتبره ضرورة لبنائها ومشروعها السياسي، فهل يُستبعد، والحال هذه، أن يأخذ الصدق، هو الآخر، معنى الخداع والتدليس باعتبار أن كل كلام نية صاحبه التضليل؛ فهو كذب وخداع ؟ أمازال بإمكاننا الاكتفاء بالطرح الأخلاقي الذي يجعل النية مؤشرا موضوعيا للتفريق بين الصدق والكذب، وبين الكذب والخطأ، أم أن المستجدات والآليات الحداثية قد بلغت مداها في الخداع والمرواغة والتمويه، وجعلت الواقع خدعة بصرية تخضع لتقنيات البعد الرابع، فيصبح الصدق الذي هو صدق؛ آليةً للتزوير ومادة للتدليس والخداع والتآمر في رابعة النهار؟؟