سِترُ اللّٰهِ
عبد الرحمن علوش
AbdEl-Rahman Alloush
سترُ اللّٰهِ لنا من الهِباتِ الربّانيةِ التي لا يُطاق أن نعيشَ بدونِها، أي أنها من لوازمِ إقرارِ وجودِنا في موازينِ معركةِ الحياة، وبدونِها نحنُ عُراة من وجهٍ آخر ليس في أجسادِنا بل عَرايا في أنفُسِنا وأعمالِنا؛ ولذا قال سفيان بن عيينة: “لولا ستْر الله عزَّ وجلَّ ما جالسَنا أحدٌ”.
والستر في معناه وأصله مُكتملٌ باللّٰهِ وبالمؤمن معًا، فاللّٰهُ يسترُ عبدَه في معصيتِه والمؤمنُ يسترُ معصيته عن الناسِ لا يهتِكُ سِترَ اللّٰهِ عليه، ولن ينفكّ الستر أن يكون سترًا إلا إذا جعل المؤمنُ لنفسِه سماءً لا يطّلِعُ عليه أحدٌ منها سوى اللّٰهِ.
ولنعلم جميعًا أنما بابُ السترِ هذا لأمرٌ جلَلٌ في نفوسِنا وصِدقها، وإنّ خيطًا رفيعًا نمزّقه في أخيلتِنا لهو أكثرُ حِبالِنا غلظةً في حقائقنا ضمن سترِنا الموصولِ باللّٰهِ؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
(سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كلُّ أمَّتي معافى إلا المجَاهرين، وإنَّ من المجَاهرة: أن يعمل الرَّجل باللَّيل عملًا، ثمَّ يصبح وقد سَتَره الله عليه، فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا. وقد بات يَسْتُره ربُّه، ويصبح يكشف سِتْر الله عنه).
وليس الرجلُ بسويّ إنْ هو أراد فضحَ نفسِه أمام غيره، وهو بذلك مريضٌ في عقلِه وغير مُعافى في نفسه وإنسانيّته، وكأنّه في زلّته أسفلَ شجرةِ آدم وقد طفِقْ يُذهِب عنه مِن ورقِ الجنّةِ ليستعرض في فَضيحتِه، فكيف يكون مُعافى من ذنبه؟!
والأمر أكبرُ مِن كلّ أحفانِ الترابِ هذه فهو إن يفعلَ ويعلم فهو يتجرّأُ على اللّٰهِ بمعصيتِه، وهذه لأكبرُ عند اللّٰهِ من المعصيةِ نفسها، فو الله وعزّته كيف يكونُ مُعافى!! كيف يكون معافى؟!!!
(للعبد سِتْرٌ بينه وبين الله، وسِتْرٌ بينه وبين النَّاس، فمن هتك السِّتْر الذي بينه وبين الله، هتك الله السِّتْر الذي بينه وبين النَّاس) قالها سفيانُ بن عيينة، اللّٰهُ كافلُكَ في الذنب الذي بينك وبينه تخفيفًا مِن لدُنه، وأنت كافلُ نفسَك فيما بينك وبين الناس إنْ أنت هتَكت هذا الذي بينكَ وبينه أمام الناس فقد هتَكت سِترك الذي بينك وبينهم، فأنت وبلواك وقذاراتُك عروضٌ أمام الناسِ؛ فاللّٰهُ عزيزٌ حكيمٌ، ولا يُحتملُ العيش هكذا لإنسانٍ إلا لمنْ ختمَ اللّٰهُ على قلبه عياذًا باللّٰهِ.
ولخطورةِ هذا الأمرِ وعظمتِه فقد شدّد الرسولُ-صل الله عليه وسلم- وعظّم في أمر السترِ بألا نهتِكه في حقّ أنفُسِنا أو في حقِّ غيرنا من عبادِ اللّٰهِ هو وأصحابه-رضوان الله عليهم جميعًا-
فقد ورد في قصّة الصحابي الجليل ماعز -تاب الله عليه ورضي عنه- الذي وقع في الزنا أنّه جاءَ إلى النبي ثلاثَ مراتٍ يخبره بأمره وردّه الحبيب مُعرضًا -صل الله عليه وسلم- قبل أن يأتيَ إلى أهلِه ليتأكد من صحّة عقله وإدراكه ليُقرّ عليه الرجمَ بعد ذلك،
وقد ذُكر في رواية: (أنَّ رجلًا اسمه هَزَّال، هو الذي أشار على ماعز أن يأتي النَّبي صلى الله عليه وسلم فيخبره، فقال له النَّبي صلى الله عليه وسلم: يا هَزَّال، لو سَتَرْته بردائك، لكان خيرًا لك)
وقبلها كان قد جاء ماعز الصدّيق مرةً وعُمَرًا مرةً فكلاهما قالا له: “إنْ لم تُخبر أحدًا غيري فتُب إلى الله، واسْتَتِر بسِتر الله؛ فإنَّ الله يقبل التَّوبة عن عباده. فلم تُقْرِره نفسه”.
والفهمُ من الحديثِ أنّ الرسولَ والصحابة صبروا وتمّهلوا وتحايلوا على حُكم يقينهم أنْ لّو إستتر الرجلُ بذنبه وتاب وصدق في توبته يقبلْه الله بصدِق رجوعه، فالأولى هو أن يستترَ العبدُ لنفسِه ويتوب، وحاشاه اللّٰهُ أن يردَّ تائبه إن صدقَ،
وقد قال ابن عبد البر: (وفي هذا الحديث من الفقه: أنَّ السَّتْر أولى بالمسلم على نفسه -إذا وقَّع حدًّا من الحدود- من الاعتراف به عند السُّلطان، وذلك مع اعتقاد التَّوبة والنَّدم على الذَّنب، وتكون نيَّته ومعتقده ألَّا يعود، فهذا أولى به من الاعتراف، فإنَّ الله يقبل التَّوبة عن عباده، ويحبُّ التَّــوَّابين).
فبِما رحمةٍ مِن اللّٰهِ أشفق الحبيبُ على الصحابي ومُصيبته وحاول أنْ يُعرض عنه لئلا يؤذيه بكلماتٍ أمام أصحابِه أو أمام نفسِه، وإذْ أصرّ الصحابي حتى تقرَّ له نفسه وتستقرّ روحه، فذهب إلى أهله يتأكدُ مِن قواه العقلية وإدراكِه ومن ذنبه ليُقيم عليه حدُّ اللّٰهِ ..
الإنسانُ منّا قشورٌ هشّة ولو استند على الناسِ لأصبح هشيمًا تذروه رياحُ أذاهم، وطبيعتنا نكون خِفافًا على أنفُسِنا ثِقالاً على غيرنا ولا يحتملُ أحدٌ منا قذارتَه سواه، والناسُ تؤذي وتحترفُ في الأذيّةِ والنفسُ تعجزُ على الإستقامةِ ضمن كلّ هذا الإنتهاك، فلنا من اللّٰهِ بإيماننا سترٌ يُخففُ عنا ويُعيننا على معاصينا بما تبقّى من أرواحنا نُقيمها على الفضيلةِ؛ {واللّٰهُ يريدُ أن يخففُ عنكم وخُلِق الإنسانُ ضعيفًا} وإن هذا التخفيف ليتجلّى في أعظم صِوَره بسترِ اللّٰهِ لنا.
وقد ورد في القرآن الكريم صورةٌ للسترِ أعمقُ مِن مجرد استتارِنا عن الناسِ:
قال تعالى: {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ} [فصِّلت: 22]
وهو سترُ العبدِ عن جوارِحه وهو ما يستحيلُ للعبدِ أن يفعله فلا أحدٌ يستطيعُ أن يتخفّى من نفسِه وهو يفعلُ الذنب.
وما أراه مِن حكمةٍ في الآيةِ على وجهين:
1-أن يستترَ العبد المؤمن التقي عن المعصيةِ نفسِها فإن أتى ليفعلها فليعلم أنّ جوارحه شاهدةٌ عليه فيتذكرُ فإذا هو مُبصرٌ، وهذا صعبٌ على ضعفِنا وما جُبلنا عليه في طينتنا الأرضية، ولكنّها درجاتٌ.
والآية ليست حُكمًا في الدين وُضع على الإطلاق بأن يفعله العبدُ في كلّ شأنه، وإنما ردٌ على أعداءِ اللّٰه وهم يُنكرون مُراقبةِ اللّٰهِ لهم -لو رجعت إلى آيتين قبلها- بأنّ جوارحهم تشهد عليهم يوم القيامة بما فعلوا فإن استخفوا من الناس فلا يقدرون أن يستخفوا من جوارحهم.
2- أو أن العبد قد وقع في الذنبِ بالفعلِ وهو مؤمنٌ، يتذكرُ أن جوارِحه تشهدُ عليه يوم القيامةِ بما فعل فيندمُ ويتوب ولا يعود.
والله أعلم.
وقد ورد حديثٌ على هذا السياقِ عن معقل بن يسار عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : “ليس من يوم يأتي على ابن آدم إلا ينادى فيه : يا ابن آدم ، أنا خلق جديد ، وأنا فيما تعمل غدا عليك شهيد ، فاعمل في خيرا أشهد لك به غدا ، فإني لو قد مضيت لم ترني أبدا . ويقول الليل مثل ذلك“.
وقال أيضًا عبد الله بن عبد الأعلى الشامي على هذا السياقِ فأحسن: “العمر ينقص والذنوب تزيد وتُقال عثراتُ الفتى فيعود هل يستطيع جحودَ ذنبٍ واحدٍ، رجلٌ جوارحُه عليه شهودٌ والمرء يُسأل عن سنينه فيشتهي تقليلها وعن المماتِ يحيد”.
وأحسب أنّ لهتكِ الستر درجاتٌ ومنازلٌ، ويتفننُ الشيطانُ أن يوقعنا في مداركِه زعمًا في رضا أنفُسِنا المجروحةِ، فيُسهّل عليك بابًا أكبر وأشد خطئًا من الذنبِ وهو المجاهرةُ بالذنب؛ ليست هي المجاهرةُ بالذنبِ أمام نفسِك وإنما في صورة التشويه والتحقير من صورتك أمام غيرك، وليست هي المجاهرة بصورتِها المباشرة ولكن في سُبُلِ إرضاء زَعمِ نفسِك المنوطِ بالنقصِ والصدقِ أمام غيرِك، واللّٰهُ أولى منْ نُجاهد أنفُسنا بالصدقِ فيه، فأنت بهذه الطُرقِ المُلتوية لتشويه صورتِك أمام غيرك قد هتكت سِتر ما كان بينك وبين اللّٰه؛ مُستنفِذًا في ذنبِك بابًا عظيمًا من أهمِ معاول جهادِ النفسِ وهو بابُ الستر، طالما كان الذنبُ بينك وبين اللّٰهِ فهو كالحسنةِ بينك وبينه فكما تتقي العُجبَ بها أمام الناس، تتقي الإصرارَ والرضى به أمام نفسك.
والعبدُ المؤمنُ منّا على قدرِ قوتِه وصلابته أضعفُ ما يكون إنْ ظهر شيءٌ من ذنوبه للناسِ، إذْ لا يقدرُ على أذاهم، فيلقى منهم ما هو أقرب للقتل يشعرُ به في كلِّ نظرةٍ وفي كلِّ كلمةٍ وعلى آثارِ كل حديثٍ، فكأنّما يحتضرُ في كلِّ مرةٍ يتمنى الموتَ ويعجز أن يقتربَ منه، وقد ضاعت روحه في فضيحتِه وتمزّقت نفسُه في أذيّتهِم، فلا تقوى أن تعودَ إلى ربّها كمن يُساقُ على الأرضِ مربوطًا خلف خيلٍ أصيلٍ جامحٍ وقد بات يُمزِقُ في جسده كلُّ ما يُلامسه مِن ذرّاتِ الأرضِ.
فقط تأمل معي لطفَ اللّٰهِ بنا أن يُجنّبنا هذا كلّه بنعمةِ الستر، والجميلُ بالوقعِ على قلوبِنا أنّها فقط إرادةُ اللّٰهِ لنا بأن يخففَ عنّا، ما يُنبتُ في النفس إحساسًا بالمعيّةِ تقرّ به أرواحُنا في مسعاها إلى اللّٰهِ، وأنّه يوجد بينك وبين ربِّك بابٌ يحبّك ويريدك إليه رغم ذنوبك يحفظْك لنفسِك ولغيرِك، تأتيه بتقصيرك وذنبك وضعفك فيأتيك بحِلمه وعفوه وقوّته؛ فهو الستّارُ أهلٌ لذلك، ولك في السترِ سماءٌ تبعثُ بالسرّ الإلٰهي في حقيقتها إن حققّت في نفسِك أمورًا ثلاثة:
1 ألاّ تهتِك ستر اللّٰهِ عليك
2 وأن تتوبَ صادقًا عن كلِّ ذنبٍ تصيبه وقد سترك اللّٰهُ فيه
3 وألا يغرّنّك كرمُ اللّٰهِ عليك
فتتحقق فيك ثلاثٌ في ثلاثٍ، تتحققُ أهليّتُك استحقاقًا في سترِ اللّٰهِ لك، ويتحققُ الصِدقُ إخلاصًا في سيرِك إليه، وتتحققُ الفاقةُ فِرارًا في كلِّ عملٍ يقربّك إليه.