روعة البيان العربي في الشعر
بقلم: حسن بوجعادة
عندما يذكر الشعر يتبادر إلى الأذهان للوهلة الأولى ذلك الكلام الموزون المقفى، المتميز في لغته وألفاظه, وهذا يعني أن الشعر كي يتم تمييزه عن النثر، وباقي الأجناس الأدبية الأخرى لابد من توفره على عدة خصائص، فإذا كان ابن رشيق يحصر حدود الشعر في أربعة خصائص: وهي اللفظ والوزن والمعنى والقافية فإن ابن طباطبا توسع في تحديد هذه الخصائص، بحيث اعتبر أن الإخلال بواحدة منها ينقص من قيمة الشعر، نذكر منها: التوسع في علم اللغة، البراعة في فهم الإعراب، الرواية لفنون الآداب والمعرفة بأيام الناس وأنسابهم ومناقبهم ومثالبهم، والوقوف على مذاهب العرب في الشعر، والتصرف في معاينة في ماقالته العرب فيه وسلوك مناهجها في صفاتها ومخاطباتها وحكاياتها وأمثالها.
ولعل هذه الخصائص هي التي ميزت الشعر وجعلته يحتل مكانة مرموقة وخاصة في العصر الجاهلي، حيث كان معيار التفاضل بينهم هو البراعة في نظم الشعر، قال شكري محمد عياد :« كان الشعر في العصر الجاهلي مقوما أساسيا من مقومات الحياة العربية، فهو علم العرب الذي لم يكن عندهم علم أصح منه، كما قال عمر بن الخطاب ، يحفظ أساليبهم وأيامهم ويعبر عن ألامهم وأحلامهم ومن تم كانت السلطة التي ترضى عن هذا الشعر أو تسقطه هي سلطة الجمهور“.
ولقد كان للشعراء في ذلك العصر من المؤهلات والقدرات اللغوية مايمكنهم من ارتجال الكلمات والإتيان بالعبارات التي لم يسبقهم إليها أحد، وكان أغلب القصائد في ذلك الوقت هي ارتجال، بحيث يستحضرالشاعر في ذهنه الشيء الذي يريد أن يجعله موضوعا لنظمه ثم سرعان ما تأتيه العبارات وتطاوعه الكلمات، قال الجاحط « وكل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال وكأنه إلهام، وليس معاناة ولامكابدة ولا إجالة فكرة وانما هو أن يصرف همه إلى الكلام والى جملة المذهب والى العمود الذي إليه يقصد فتأتيه المعاني أرسالا وتنتال عليه الألفاظ انثيالا“.
ومما تجب الإشارة إليه هو أن الإسلام لم يحارب الشعر ولم يتخذ منه موقفا معاديا، ذلك أن الإسلام كان يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له وتأليف القلوب وتوطين النفوس على التحلي بمكارم الأخلاق والاعتصام بحبل الله المتين, لذلك فقد حارب كل العادات الجاهلية السيئة كالعصبة القبيلة والتفاخر بالأنساب…
ورغم قلة اهتمام المسلمين بالشعر إلا أن الشعر كان وسيلة لنصرة دين الله وبث الحماس في قلوب المجاهدين أثناء القتال، ويتجلى ذلك في أشعار حسان بن ثابت وعبد الله بن أبي رواحة وكعب بن مالك…
وظل الشعر يحتفظ بلغته الرصينة وألفاظه المتناسقة وتعابيره التي تؤثر في الأسماع، قال الأديب أحمد حسن الزيات :« إن الشعر العربي ظل في الجاهلية والإسلام واحدا في مظهره وجوهره ونوعه حتى أواخرعهد بين أمية“.
وما كان الشعر ليصل إلى تلك المنزلة التي وصل إليها لولا التزام الشعراء بمجموعة من الخصائص واعتمادهم أساليب خاصة رفعت قدر الشعر لدى المهتمين به، حيث يكون الفهم الثاقب هو المقياس المعتمد، وفي ذلك يقول ابن طباطبا : « وعيار الشعر أن يورد على الفهم الثاقب فما قبله واصطفاه فهو واف ومام ّجه ونفاه فهو ناقص“.
ويشبه ابن طباطبا الأشعار الحسنة ووقعها وتأثيرها على الأفهام كالطعوم المركبة الخفية التركيب، اللذيذة المذاق والأراييح الفائحة المختلفة الطيب والنسيم.
واذا تصفحت دواوين الشعر العربي، قديمة وحديثة، وجدت أشعارا تنساب كالجداول الرقراقة، تهفو إليها النفوس وتستسيغها الأسماع، فمن ذلك قول الشاعر محمود سامي البارودي:
من قلد الزهر جمان النـــــــــــــــدى وألهم القمري حتى شــــــــــدا؟
وزيــــن الأرض بألــــــــــوانـــــهـــا وصور الأبيض والأســــــــــــودا؟
سبحان من أبدع في ملـــــــكـــــــــه حتى بدا من صنعه مابــــــــــــدا
فاسجد له، واقصد حماه تجـــــــــــد ربا كريما ومليكا هـــــــــــــــــدى؟
فقم بنا ياصاح نرى النــــــــــــــــدى ونسأل الله عميم النّـــــــــــــــــدى
أما ترى كيف استحــــــار الدجــــى وكيف ضل النجم حتى هــــــــــدى
ولاح خيط الفجر في شجـــــــــــــرة طارح في قسطـــــل جــــــــــردا
ويقول أحمد شوقي:
ولدا الهدى فالكائنــــــــات ضيـــــــاء وفم الزمان تبســـم وثنــــــــاء
والعرش يزهو والحظيرة تزدهــــــي والمنتهى والسدرة العصمـــاء
والوحي يقطر سلســلا مــــن سلسبيل واللوح والقلم البديــــــــع دواء
ويقول محمود مهدي الجواهري:
علموها فقد كفاكم شنارا وكفاها أن تحسب العلم عارا
وكفانـــا من التقهقر أنا لم نعالج حتى الأمور الصغارا
ففي مثل هذه الأشعار تجد عبارات جميلة وألفاظ متناسقة ليس فيها ماتمجه الأذان أو تأباه العقول.
والشاعر الفذ ينتقي ألفاظه بدقة ويأتي بالوصف المناسب كي يقرب الصورة إلى ذهنك حتى تشعر كأنك معه، تشاهد مايشاهد وتحس بما يحس به.
يقول امرؤ القيس في وصف الفرس:
وقد أغتدي والطير في وكناتهــــــا بمنجرد قيد الأوابـــــــد هيكـــــــــــل
مكر مفر مقبل مدبر معــــــــــــــــا كجلمود صخر حطّه السيل من عـــل
كميت يز ّل اللبد عن حال متنـــــه كما زلّت ال ّصفـــــواء بالمتنــــــــزل
على الدبل جياش كأ ّن اهتزامــــه إذا جــــاش فيه حميه غلي مرجــــل
الصورة التي حملتها في ذهنك بعد قراءة هذه الأبيات صورة فرس قصير الشعر، ضخم، مقيد للوحوش الآبدة، يكثر الفر والكر، له حسن الإقبال والإدبار وهو شبيه في ذلك بالصخرة التي يسقطها السيل من الأعلى، وهو عندما يضطرب يكون أشبه بالقدر الذي يغلي الماء بداخله.
وفي وصف الأماكن يقول ابن زيدون:
إنّي ذكرتك بالزهــــــــراء مشتاقــــــــــا والأفق طلق ومــــرأى الأرض قــــد راقا
وللنسيم اعتلال في أصائلـــــــــــــــــــه كأنـــــه رق لــــي فاعتـــــل إشفاقــــــــا
والروض عن مائه الفَضي مبســـــــــم كما شققـــــت عن اللبــــــــات أطواقـــا
وفي وصف المعارك يقول المتنبي:
أتوك يجرون الحديد، كأنــــــــــــــما ســـــروا بجياد مالهــــــــن قوائــــم
إذا برقوا لم تعرف البيض منــــهم ثيــــــــــابهم من مثلها والعمائـــــــم
خمس بشرق الأرض والغرب زحفه وفي أذن الجــــــوزاء منه زمـــــــائم
ورغم أن لغة الشعر تسمو عن اللغة العادية إلا أن الشاعر لا تجده يتصيد الكلمات الغامضة ويسعى خلف العبارات الركيكة التي تجعل بينه وبين المتلقي حجابا صفيقا، وإنما يورد في أشعاره من المجازات والتشبيهات والاستعارات ومن مختلف الصور البلاغية ما يرقى بقصيدته دون أن يخل ذلك بالمعنى، يقول ابن طباطبا:
“ينبغي للشاعر أن يتجنب الإشارات البعيدة والحكايات الغلقة والإيماء المشكل ويتعمد ماخالف ذلك، ويستعمل من المجاز مايقارب الحقيقة ولايبعد عنها ومن الاستعارات ما يليق بالمعاني التي يأتي بها “
فمن التشبيهات، تجد الشاعر يستعمل التشبيه بأدواته المعروفة كما في قول الشاعر:
أنت كالشمس في الضياء وإن جا وزت كيوان في علو المكان
وكقول أبي القاسم الشابي:
خلقت طليقا كطيف النسيـــــــم وحرا كنور الضحى فـــي سمــــاه
وقد يرتقي الشاعر بلغته فيورد التشبيه في أبهى صوره كالتشبيه البليغ أو التشبيه الضمني، ليجعل المتلقي يكتشف هذه الصور البلاغية بفهمه الثاقب، وهو مايزيد الشعر استحسانا لدى المهتم بمجال الشعر.
يقول أبو تمام :
اصبر على مضض الحســــــــو د فإن صبرك قاتــــــــــــــــــله
كالنـــــار تأكـــــل بعضهـــــــا إن لم تجد ماتأكلــــــــــــــــــه
ويقول أبو العتاهية :
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لاتجري على اليبــــــــس
وقد يسمو الشاعر بلغته فيرتقى درجة من درجات البلاغة فيحذف أحد ركني التشبيه فتكتسي الصورة الشعرية حلة جديدة لايرى جمالها إلا من ولج بوابة الشعر، وهو مايسمى عند علماء البلاغة بالاستعارة، فيحذف الشاعر المشبه به ويكني بأحد لوازمه فيفهم المعنى من مقتضى الحال، كما في قول الرافعي :
مدادك في ثغر الزمان رضـــــــاب وخطّك في كلتا يديه خضــــــاب
شبه الزمان بالإنسان فجعل له ثغرا فحذف المشبه به وهو «الإنسان » وكنى بأحد لوازمه وهو “الثغر”.
وقد يصرح بالمشبه به ويحذف المشبه ، وهي الصورة الثانية للاستعارة كما في قول الشاعر:
أعد الله للشعراء منــــي صواعق يخضعون لها الرقابــــا
والشاعر الذي يمتلك ناصية اللغة ويجيد السباحة في بحرها ذي الأمواج العاتية يخاطب
المتلقين بالإشارت كي يجعلهم يقتفون أثره ليصلوا إلى المعنى المراد كما في قول الخنساء وهي تصف أخاها صخرا :
طويل النّجاد ، رفيع العمــــــاد ساد عشيرته أمـــــــــــــــــردا
لم تصرح الشاعرة بما في أخيها من أوصاف وإنما كنت بعبارات دلت في حقيقتها على المعنى المراد فكنت بطول النجاد على طول القامة، وكنت برفيع العماد عن الشرف. وهذا النوع من البلاغة يسمى بالكناية.
وعند البحتري تجد صورة أخرى من صور الكناية:
أما رأيت المجد ألقـــــــــى رحله في آل طلحة ثم لم يتـــحول
والبيت كله كناية عن الشرف والمجد
وكما يهتم الشاعر بالمعنى من خلال توظيفه للصور البيانية كي يقرب المعنى إلى الأفهام فهو كذلك لايهمل اللفظ فيستعمل من المحسنات البديعية مايجعل قصيدته أشبه بفسيفساء من الألفاظ الجميلة ىوالتعابير الرائعة كالجناس والطباق والمقابلة والتورية ومراعاة النظير..
والشاعر ذو الحس المرهف يميل إلى التنويع فيستعمل أساليب أخرى حسب مايقتضيه الموضوع الذي يتناوله كالأمر والنهي والاستفهام والتمني والنداء والتعجب والقسم… وهذه التعابير البيانية والأساليب البلاغية تزيد الباحث في مجال اللغة والأدب حبا لهذه اللغة، بل دفعت الكثير من الأدباء والنقاد إلى العودة بالشعر إلى سالف عهده وسابق مجده لأنه هو الذي حافظ على خصائص هذه اللغة ورفع من قدرها وساهم بشكل كبير في فهم لغة القرآن، وهذا يذكرنا بمقولة الفاروق حين قال: «عليكم بديوان العرب فإن فيه تفسير كتابكم”