حقوق الإنسان في زمنه ومكانه
حقوق العمّال وحقوق الأوطان
بقلم: محمد زاوي
1-حق العامل في النظام الاجتماعي الرأسمالي
ما كان للإنسان أن يكون قبل أن يتشكل وعيه، فهو من دون وعيه حيوان يكدح ولا يعمل، إذ الكدح مجهود بدني لا يطلب الوعي، في حين يطلبه العمل. ولذلك، فإن الإنسان لا يتحدد إلا عبر زمنين هما: زمن ما قبل التاريخ، وزمن التاريخ. فكان الإنسان القبتاريخي قبل أن يعي ذاته وعالمه، وكان الإنسان التاريخي بعد أن تحقق له الوعي بذلك.
******
لقد عاش الإنسان القبتاريخي في زمن ليس فيه طبقات، ولا صراعا طبقيا، ولا ملكية خاصة، ولا تقسيما للعمل على أساسها. وفي هذا الزمن بالذات، لم يكن ينظر الإنسان إلى ما من حقه أن يطلبه إلا على أساس انتمائه للمشاعة، حيث “كان على الناس، كي يجنوا الثمار في الغابات، ويصطادوا السمك، ويبنوا المسكن أن يعملوا سوية، إذا لم يريدوا الموت جوعا، أو أن يصبحوا فريسة للحيوانات المفترسة أو القبائل المجاورة. وكانت نتيجة هذه الحالة أنْ أصبحت ملكية وسائل الإنتاج وأراضي الصيد، مثلا، وكذلك ملكية المنتوجات، مشتركة أيضا بين جميع أفراد المجتمع، ولم يبق سوى بعض آلات الإنتاج، التي هي في نفس الوقت أسلحة للدفاع ضد الحيوانات المفترسة، ملكية فردية للذين صنعوها”. (1)
لم يكن في “نظام المشاعة” ما يجعل الإنسان عرضة لأنْ تهضم حقوقه من قبل غيره، فقد كانت قلة الغذاء والأمن تفرض التعاون والتآزر في كل شيء، وإلا هلك الإنسان بالجوع أو فتك وحيش الغابة به. وبالرغم من ذلك، فقد كان من حق أفراد المشاعة أن يتطلعوا إلى تجاوز بؤسها بتطوير قوى الإنتاج لديهم. وهذا ما يعني أنهم لم يطالبوا بحقهم بملء أفواههم، وإنما بالعمل في ميدان العمل، حيث تم “تأليف الحيوانات بفضل القوس والسهام وتقسيم العمل بين الرعاة والصيادين البدائيين، ثم الانتقال إلى الزراعة بفضل الآلات المعدنية كفأس الحديد وسكة المحراث، ثم التفريق بين المهن والزراعة، يضاف إلى ذلك أن صناعة الخزف كانت تساعد على الاحتفاظ بالمؤن”. (2)
لم يكن الإنسان المشاعي يردد طيلة يومه حقه في تطوير قوى إنتاجه، فهو لم يكن ليستوعب كل ذلك بعدُ، ولكنه كان يعبر عن حقه في واقع عمله وتماشيا مع منطق التاريخ، حيث سيؤدي تطوير قوى الإنتاج لا محالة، بعد بلوغه مستوى من تطوره الأقصى في “نظام المشاعة”، إلى حدوث ثورة اجتماعية ينتقل فيها الإنسان من “المشاعية” إلى “العبودية”. وإذا كان الحق في تحسين المعيشة واستغلال الطبيعة بشكل أكبر لصالح الإنسان؛ إذا كان كل ذلك هو اليومي الذي اعتملت تحته الثورة الاجتماعية الأولى، فإن حقوقا أخرى ستعتمل تحتها ثورات وتحولات اجتماعية كبرى فيما بعد.
******
أما الإنسان التاريخي، فقد ظهر مع بداية التاريخ، حيث ظهرت الطبقات، ودخلت في تناقض فيما بينها، وظهرت الملكية الخاصة، وتم تقسيم العمل وتوزيع الإنتاج على أساسها. إن التاريخ، إلى حدود هذا الزمن، هو تاريخ الصراع الطبقي. لقد كان تاريخ صراع بين العبيد وأسيادهم، ثم استحال صراعا بين الفلاحين وإقطاعييهم. وهو اليوم، صراع محتدم بين طبقتين: عمالية وبورجوازية. يتميز كل نظام اجتماعي بتناقضه الرئيس، وحيث يحتدم هذا التناقض، يحتدم الصراع وينبئ بثورة اجتماعية، وبالتالي بالانتقال من نظام اجتماعي قديم ورجعي إلى آخر جديد وتقدمي. وإذ يتنازع طرفا التناقض الرئيس المصالح بينهما، فإنهما يتنازعان تصور كلّ منهما لحقوق الإنسان أيضا. فالحقوق عند الطرف الرجعي منهما هي ما يضمن استمراريته ووجوده، وهي عند التقدمي ما يؤدي إلى الثورة الاجتماعية والقضاء على النظام الاجتماعي القديم.
******
لقد كان السيد في المجتمع العبودي يملك العبدَ وما ينتجه من قيمة معًا، فكان التناقض الأساسي لهذا المجتمع متجليا في التناحر بين طبقة الأسياد وطبقة العبيد. وعلى أساس هذا التناقض، كان يتشكل الخطاب الحقوقي لكل طرف من طرفيه. لا حق للعبيد إلا بالخلاص من الاستعباد الذي يعيشونه، ولا حق للأسياد إلا باستمرار النظام الاجتماعي العبودي وبمزيد من استعباد العبيد. فكان الخطاب الأول تقدميا، فيما كان الثاني رجعيا. وحيث كان أصحاب الخطاب الأول يدفعون بالتناقض التاريخي بينهم وبين الأسياد إلى الأمام، ظل أصحاب الخطاب الثاني يعرقلون التطور الطبيعي لهذا التناقض. يتشبث الأولون بحقهم في تطوير قوى الإنتاج نحو تحريرها بثورة اجتماعية، فيما يتشبث الذي يلونهم بحقهم في عرقلة هذا التطوير بعلاقات إنتاجية عبودية. ويأبى منطق التاريخ إلا أن يحولَ الإمكان إلى ضرورة، ويخرجَ الإقطاع من صلب العبودية.
لقد كانت تلك الثورة الاجتماعية حقا للعبيد، بما هي تحرير لهم من استعباد الأسياد. كما أنها كانت حقا للإنسانية جمعاء، بما هي ارتقاء للتاريخ من أسوأ إلى سيء، ومن حسن إلى أحسن. يقول يوري بوبوف: “والتناقض الأساسي للمجتمع العبودي (كأي مجتمع آخر) ناجم عن التناقض الداخلي لهذا الأسلوب للإنتاج: التناقض بين القوى المنتجة وبين علاقات الإنتاج التي تقيّد تطور تلك القوى أكثر فأكثر. وإن استمرار عملية تطور أسلوب الإنتاج العبودي قد سبب بضرورة طبيعية تاريخية وبصورة حتمية اشتداد تناقضاته الداخلية وتفسخه وهلاكه وانتصار الإقطاعية فيما بعد”. (3)
******
لن يسري على النظام الاجتماعي الإقطاعي إلا ما سرى على سابقه العبودي، بدأ ثوريا تقدميا، لينتهي به الأمر محافظا رجعيا. وفي خضم التناقض بين الإقطاعيين والفلاحين، كان من حق هؤلاء أن يتحرروا من “التبعية الشخصية” لأولئك، وذلك هوالحق الذي تجسدت فيه حقوق الإنسانية آنذاك. وتحته (هذا الحق)، كان يعتمل صراع محتدم بين قوى إنتاجية تتقدم إلى الأمام وعلاقات إنتاج إقطاعية تعرقلها وتؤخرها. فأبى منطق التاريخ إلا أن تتحقق رغبة الفلاح في الواقع الموضوعي ووفق قواعده، ومعها تحققت رغبة الإنسانية جمعاء بالتقدم إلى الأمام في التاريخ، أي بالانتقال من نظام اجتماعي (الإقطاع) إلى آخر أرقى منه (الرأسمالية).
يقول يوري بوبوف: “والتناقض الأساسي للإقطاعية هو تناقض بين القوى المنتجة والعلاقات الإنتاجية للإقطاعية الذي يتجلى في النزاع بين الزراعة الصغيرة ذات التكنيك الروتيني المنخفض الإنتاجية والقائمة على أساس استخدام الفلاح للأرض بصورة تابعة، وبين الملكية العقارية الإقطاعية الكبيرة التي تتجسد اقتصاديا بشكل ابتزاز الإقطاعيين مجانا للريع العقاري. ويعبر هذا التناقض الأساسي أيضا عن التناحر الطبقي بين الفلاحين الأقنان المستغَلين وبين طبقة الإقطاعيين المستغِلين. ولقد كان هذا التناقض الشرط الموضوعي لاحتدام كافة تناقضات المجتمع الإقطاعي والانتقال إلى الرأسمالي”. (4)
******
لقد كانت البورجوازية إبان ثوريتها أكثر إنسانية منْ سابقاتها منَ الطبقات، لأنها كانت في حاجة إلى تفجير طاقات الإنسان وتحريره من الطبيعة. لا بد من تطوير قوى الإنتاج البورجوازية، ولا بد إذن من الدفاع عن حق الإنسان في البحث عن قوانين الطبيعة خارج حدود الكنيسة، وعن حقه في التصرف دون رجوعه إلى تعاليمها. لقد أصبح الإنسان مسؤولا عن نفسه، وعن رغبته في التحرر من قبضة الكنيسة وما يعتبره الإقطاعيون والحكام والقساوسة حقالهم. لا بد أن يتحرر الفلاح من استقطاع الإقطاعي، ولا بد أن تتطور قوى الإنتاج البورجوازية في أفق تصفية الإقطاع، ولا بد أن تتحرر السياسة من الحكم المطلق بالديمقراطية، ولا بد أن يتحرر العقل من الخرافات الكنسية بالعلم التجريبي… إلخ. في هذه الشعارات تجلت حقوق الإنسان آنذاك، وعلى أساسها تشكلت البذور الأولى ل “الإنسانية الغربية”، ولم تكن تعكس في الأصل إلا حاجة البورجوازية الصاعدة إلى تطوير قواها الإنتاجية تحت سقف الإقطاع وحتى تتمكن من القضاء عليه.
وبعد قيام الثورة الاجتماعية البورجوازية وتصفية النظام الاجتماعي الإقطاعي، ظهر نظام اجتماعي جديد هو “النظام الرأسمالي”، حيث التناقض الأساسي بين طبقة عاملة تدفع بقوى الإنتاج إلى الأمام وأخرى بورجوازية تعرقل ذلك بعلاقات الإنتاج الرأسمالية، وحيث التناقض بين “الطابع الاجتماعي للإنتاج والشكل الرأسمالي لملكية وسائل الإنتاج”. يعمل العامل طيلة النهار، ولا يكتفي بإنتاج مسائل معيشته فقط، بل إنه يعمل في فائض وقته لينتج فائض قيمة يستفيد منه الرأسمالي وحده. يقول يوري بوبوف: “ليس كل مبلغ نقدي (مهما كان كبيرا) وكذلك وسائل الإنتاج (الأرض والفبارك والمعامل والمواد الخام والوقود والتجهيزات التكنيكية) هي رأسمال بحد ذاتها على الدوام. ولا يمكنها أن تصبح رأسمالا إلا في ظل ظروف معينة: عندما توجد طبقة مالكي وسائل الإنتاج وطبقة العمال المأجورين الذين يبيعون قوة عملهم كبضاعة. إذن، إن الرأسمال هو قيمة تعود بالقيمة الزائدة بنتيجة استغلال العمل المأجور. والرأسمال ليس شيئا، بل هو علاقة اجتماعية بين الرأسماليين والعمال، وجوهره هو استغلال العمل المأجور”. (5)
هكذا يُستغَل العمال في مزارع ومصانع وبنوك ومحلات البورجوازيين، وهكذا تستنزَف أبدانهم منذ القرن 19 م إلى اليوم، دون أن تتكبد المنظمات الحقوقية الدولية عناء الدفاع عنهم، وكيف ستدافع عنهم وهي تقتات على فتات “الرأسمال المالي” الذي يستغلهم ويرجو أصحابه دوام البؤس عليهم؟ ليس من حق إنساني يستحق الدفاع عنه اليوم، بالإضافة إلى حقوق الأوطان، قبل الدفاع عن حق العامل في التحرر من استغلال الرأسماليين. وبالرغم من كل ذلك، فقد هجرت المنظمات الحقوقية الدولية هذا الحق إلى غيره من حقوق: التعري، والمثلية، وتفكيك المقدسات، والتمرد على الخصوصيات والثقافات الوطنية، والعمالة للأجنبي بحجة الدفاع عن حقوق الإنسان، وزعزعة استقرار الدول ذات السيادة… إلخ.
2-حق الوطن في شرط الاستعمار
التناقض بين البروليتاريا والبورجوازية ليس هو التناقض الوحيد الذي يحبل به النظام الاجتماعي الرأسمالي اليوم. كذلك كان الأمر لمّا كانت الرأسمالية تنافسية، وما إن استحالت احتكارية حتى أخذ كبار البورجوازيين يفكرون في التوسع خارج حدود المركز الرأسمالي، وعلى حساب دول الأطراف. فتشكل الرأسمال العسكري (القديم)، واستولى على خامات وفائض قيمة دول الجنوب وشعوبها إلى حدود النصف الأخير من القرن العشرين. فانسحب هذا الشكل من الاستعمار تاركا مكانه لاستعمار من نوع آخر، هو الاستعمار الجديد، حيث: تجزئة الأوطان جغرافيا، وتفكيك الثقافات الوطنية، والتدخل في القرار السياسي بالابتزاز، وخلق التبعية الاقتصادية وتعميقها… إلخ.
لو كان الأمر مقتصرا على تناقضنا مع الرأسمال الداخلي فحسب، لاكتفى العمال بالمطالبة بفائض قيمة ينتجونه للبورجوازي دون أن يتقاضوا عليه أجرا. إلا أن هذا التناقض المذكور ليس هو تناقضنا الرئيس، فالشرط شرط استعمار للوطن وتواجد للرأسمال الأجنبي جنبا إلى جنب الرأسمال الوطني على أرضه. ولذلك، فنحن نعيش شرط استغلال العامل في شرط آخر هو شرط استعمار الوطن. إننا نعيش تناقضا ثانويا داخل آخر رئيس، وليس المطلوب هو تعطيل الأول بالثاني، بل إن المطلوب هو تفعيله تحت سقفه. وعلى هذا الأساس، لا يناقَش حق العامل في التحرر من الاستغلال إلا في إطار حق الوطن في الاستقلال، ولا يناقش حق تقرير المصير إلى في إطار حق الوطن في الحفاظ على وحدته ومقاومة مخطط تجزئته، ولا يناقش حق التعبير عن الرأي في الثوابت إلا في إطار حق الوطن في الحفاظ على ثقافته وخصوصيته، ولا يناقش حق المعارضة والتمرد والرفض والتواصل مع المنظمات الحقوقية والنقابية الدولية إلا في إطار ما لا يشكل مسوغا لابتزاز الوطن وإضعاف الدولة، ولا يناقش حق الاستثمار والتملك والاحتجاج على الرأسمال الوطني إلا في إطار ما من شأنه أن يحقق استقلالية الاقتصاد الوطني وتوسعه على حساب الرأسمال الأجنبي… إلخ.
الهوامش:
(1): جورج بوليتزر، أصول الفلسفة الماركسية، الجزء الثاني، ترجمة: شعبان بركات، منشورات المكتبة العصرية، ص 34-35.
(2): نفسه، ص 36.
(3): يوري بوبوف، دراسات في الاقتصاد السياسي: الإمبريالية والبلدان النامية، ترجمة: إسكندر ياسين، دار التقدم – موسكو، 1984، ص 73.
(4): نفسه، ص 76.
(5): نفسه، ص 91.