الجسد الإنساني من تجليات القدرة الإلهية التي نبه عليها القرآن الكريم في آيات كثيرة؛ كقول الله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4]
وقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 6 – 8]
ولم يزل جسد المرأة موضوعا لكثير من الاهتمامات والدراسات والإبداعات؛ من لدن العلماء والأدباء والشعراء والفقهاء والتربويين ..
ويمكن للباحث أن يرصد في هذا الصدد؛ ظواهر جديرة بالتأمل والنقاش؛ منها: ما يمكن أن نسميه: جسدية المرأة؛ وأعني بهذا الاصطلاح: التمحور حول جسد المرأة في التعامل معها وتقييم كفاءتها ووزن قيمتها؛ فيصير جسدها محوريا في ذلك كله؛ بما يفرز سلوك المبالغة في تذوق الجمال وتوظيفه في التعامل وفي الإبداع الأدبي والفني ..
إن تضخيم ظاهرية المرأة، واختزال قيمتها في جسدها أو جعل الجسد محوريا في التعامل معها ..؛ كل ذلك من سمات المجتمع الجاهلي؛ كما يشير إلى ذلك قول الله تعالى: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} الأحزاب 33
فهذه الجملة القرآنية كما تؤسس لحكم شرعي؛ فإنها تشير إلى مظهر من سمات المجتمع العربي قبل مجيء الإسلام؛ حيث تضخّم الجانب المظهري في حياة المرأة على حساب الجوانب الأخرى، وصارت –في كثير من الأحيان- لا تتقن شيئا إتقانها لأنواع الزينة وأشكال الفتنة ..، وهو مظهر بارز في كل مجتمع يغيب فيه أو يخفت نور الهداية الربانية والحكمة الإنسانية.
وفي مجتمعاتنا المعاصرة صار التبرج –عند كثيرين- فنّا وذوقا وجمالا؛ وأضحى من سيماء المرأة الراقية المتحضرة المتحررة المتنورة…؛ وهذا الصنف من النساء مشكور مرغوب مطلوب، والمنتمية إليه تلقى اهتماما وإقبالا وإعجابا، ولو كانت لا تتقن إلا مشية عوجاء أو رقصة شوهاء أو ضحكة صفراء أو مغازلة خرقاء …
ومن خالفتْ سمْتَها وتنكبت هديها؛ فهي المتخلفة المتزمتة، الرجعية الظلامية؛ وإن تعلّمت وأنتجَت، وأسهمت في تنمية مجتمعها وأصلحَت!
وما كان ذنب المسكينة إلا أن آثرت فضيلة الستر على فلسفة العري، وفضّلت الحجاب على التبرج!!
ومن أمثلة السلوكيات المتفشية في المجتمعات المعاصرة؛ والتي تختزل قيمة المرأة في جسدها، ولا تعطي حقا أخلاقيا للمرأة التي لا تبيح جسدها -على الأقل- لنظرات مرضى القلوب؛ ما وصفه العالم المغربي الدكتور تقي الدين الهلالي وهو يحكي بعض مشاهداته المتكررة في البلاد الأوروبية: “كنت أركب قطار النفق الذي يسير تحت الأرض في (برلين)، فتركب فيه العجوز الضعيفة، حاملة سلتين في يديها، فلا يقوم لها أحد، فتبقى واقفة إلى أن ينزل بعض الركّاب.
ومتى رأوا شابّة جميلة تسارعوا إلى القيام وعرضوا أمكنتهم عليها، وهي تعرف أنهم لم يقوموا لها لوجه الله، فلذلك لا تقبل من أحدهم أن تجلس في مكانه، إلا إذا كان لها أرب، فجلوسها في مكانه آية قبولها لمخادنته”.
وللقارئ أن يحلل عناصر هذا السلوك ليكتشف من خلال ذلك؛ أسباب إكرام المجتمع الغربي للمرأة، وأنه يرجع بالأساس إلى ما تدفعه في المقابل من جسدها، وما تبذل من خدمات جسديتها!
وإذا كان موضوع الحكاية هو سلوك بعض الأفراد؛ فإن هذا لا ينفي كونها فلسفة أخلاقية تنعكس في مرآة كثير من المواقف والأدبيات والتنظيرات.
من ذلك مثلا: توظيف جسدية المرأة في عالم المال والأعمال، واستغلال جسدها في تسويق المنتجات التجارية، والترويج لها؛ في إعلانات اللافتات والجرائد والمجلات .. فضلا عن الإعلام السمعي البصري ..
وهذه الظاهرة تلفت الانتباه من قطعة الصابون وعلبة السيجارة، كما تلفته في معرض السيارة وإعلانات القمار والأسهم ..
إن الوسواس الشيطاني الذي يحث الإنسان على إفشاء سلوك العري؛ قد أوعز إلى المجتمعات المعاصرة بأفكار جديدة متطورة؛ تفرض على المرأة أن تستعمل جسدها إن هي أرادت أن تحظى بالاهتمام والمكانة؛ وبقدر ما تبرز من جسدها وتحسن من عرضها بقدر ما تنال من تلك الحظوة ..
قال الله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا} [الأعراف: 27]
أما المرأة التي تريد أن تترفع عن هذا الحضيض، وتأبى أن تحصر قيمتها وما تقدمه للمجتمع في جسدية رخيصة ومظهرية جوفاء؛ فلا تُقبل في نفسية المجتمع إلا إذا قدمت من مظهرها رشوة، تؤمِّن متعة النظر لمرضى القلوب من زملاء الدراسة أو الوظيفة، فإذا كانت متحجبة (ولو حجابا عرفيا!)؛ فيُنظر إليها نظر المغشي عليه من الموت، وهنا تثور في النفس الحمية للعري، ويضخ القلب دم مرضه، ويهمهم اللسان -وقد يصرح- برفض هذا المظهر الماضوي، والشكل المتخلف..!
وإذا غض أسرى الجسدية الطرفَ عن الحجاب في الشوارع وبعض المؤسسات التعليمية والإدارية ..؛ فلا يتساهلون معه في إدارات ومؤسسات أخرى؛ ولا تتقبل نفسيتهم رؤية المرأة فيها وقد غطت أكثر جسدها ورفضت بذل جسديتها ..
وبعض أرباب هذه المؤسسات من المسلمين يتصرف الواحد منهم وكأنه ورث المؤسسة عن عدو للدين صرح في وصيته بمنع كل مظهر إسلامي، وأدب شرعي!
وربما صار مِن عُرْفِ السلك الوظائفي في القطاعين العام والخاص؛ أن تكون الموظفات –لا سيما المستقبلات ومنسقات المديرين- مُظهِرات لزينتهن؛ أي متبرجات بالاصطلاح الشرعي، وحظهن للتوظيف بقدر حظهن من البذل الجسدي..
وأصحاب هذه العقلية من المديرين والمسؤولين؛ يهشون ويبشون للموظفات المتبرجات، المنفتحات على المغازلات والمساومات، وتضيق صدورهم بالمرأة التي تتمسك بنصيب من التدين، ولو كان أقل من نصيب الضيف من طعام البخيل.
وقد تناسلت الوقائع بما يجعل من هذا السلوك ظاهرة؛ وكثرت في الجرائد أخبار من قبيل:
اشتكت موظفة عند إحدى الموثِّقات (notaire) من سعي زميل مديرتها في العمل في فصلها عن وظيفتها بسبب تغطيتها لرأسها!
هدّد مسؤول بالمستشفى العسكري بمدينة .. بمنع الطالبات المحجبات من مواصلة دراستهن!
المدير العام لشركة … يرفض توظيف امرأة محتجبة!
مسؤول بإدارة … يطرد سيدة موظفة بسبب حجابها …
ومن نتائج هذا السلوك أن يصبح فؤاد كثير من النساء فارغا إلا من الاهتمامات التافهة وسفاسف الأمور؛ ومنه: المبالغة في أمور الزينة والتجمل بأنواع اللباس والماكياج والعمليات الجراحية ..
إن السلوك الذي يختزل قيمة المرأة في بدنها، أو يجعل جسديتها شرطا لقبولها والاستفادة من كفاءتها؛ يحرم المجتمع من مكاسب أخلاقية وقيمية هامة منها:
1 حياء المرأة وعفتها.
2 سلامة الأعراض وحفظ الشرف.
3 صلاح الأسرة واستقرارها.
4 رفع مستوى الجودة في الكسب والإنتاج.
5 أمن المجتمع واستقراره؛
ولا يخفى عليك ما يؤدي إليه –في كثير من الأحيان- تداعي الأكلة على الأجساد النسائية المباحة من تنازع يخلق الكراهية والعدوان، وخيانات تخرب الأُسر، ومحسوبيات تضيع الكفاءات ..