تجارب واقعية في التعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي
عبد الرحمن مصطفى سليمان علوش
Suez University
Faculty of Petroleum & Mining Engineering
أكثر من ثلاث مليارات نسمة يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي social media، وما يقرب من 40℅ من سكان الكوكب ينخرطون بمتوسط ساعتين كل يوم في عالم وسائل التواصل الاجتماعي social media.
هي لم تصبح جزءًا من واقعنا فحسب؛ بل صعدت لأن تُشكلَ هي الواقع لشريحةٍ كبيرة من المستخدمين؛ حيث تصنع تفاصيل يومهم على منصاتٍ من الصور والحالاتِ والأشكال التعبيرية والخبرية والإخبارية، فكل ما يريدونه لصنع لحظاتِ يومهم المعتاد بكل روتينيّته الرصينةِ مع الطبع وإثارته القانعةِ لمطالب التغيير يجدونه أشكالاً في صورٍ رقمية حديثة تظهر لنا في تطبيقات التواصل الاجتماعي Apps of social media على شاشات الهواتف وأجهزة الحاسوب الذكية smart phones & Laptops، وإن هذا الاعتراف بشدة تسلّط تلك الوسائل الإلكترونية على نمط حياتنا يقودنا إلى المناقشة فيما بعد حول حقيقة ومدلول تسميتها ب: “وسائلٍ” للتواصل الاجتماعي.
إن معظم ما تقدّمه هذه الوسائل هي عروضٌ بأنماطٍ مختلفة من الأحداث والمواقف والتي تتم دراستها بشكل عِلمي حَداثي استطلاعي ليلائم حاجيّات الاستحواذ النفسي لتُشبِع رغبتنا في حسن قضاء الوقت والاستمتاع به، وإن هذا لشيء مُخيفٌ جدًا، وعلى الرغم من كل تلك السيطرة المُفزِعة إلا أنني تخيلت في بدايات تحضيري لهذه المقالة كيف نبدو الآن ونحن بدون تلك الوسائل الاجتماعية؟!!
فبقدر ما وجدت من استعادة السكينة المحسّة في العلاقات، واستغلال الوقت في أحسن توجيه، ووضوح الاتزان النفسي في التعايش مع الواقع، بقدر ما وجدت الصورةَ أكثر كآبةً وبطئًا وشللًا ..
ما يُنبّهنا لفضل وفائدة تلك الوسائل في عملية التقدم المعرفي والحياتي وما تقتضيه سرعة عصرنا، فأعار ذلك انتباهي لوضع مُجمل خبرتي وخبرة منْ حولي في استخدام تلك الوسائل عسى أن أضع بين أيديكم بذلك سبيلاً توجيهيًا في حسن استغلالها.
ونبدأ ببعض فوائد وإيجابيات الوسائل الاجتماعية وهي:
1- من مردود وغايةِ مسمّاها تسهيل وإتاحة الاتصال بالآخرين في أسرع وقتٍ وأقل تكليف.
2-تنويع طرق التواصل إلى استنباط العديد من الأشكال التصوّرية في توفير الصوت والصورة وبعض المؤثرات المساعدة لتناسب الكثير من الاحتياجات والتي تختلف باختلاف المتصلين وأهدافهم ومِهَنهم وفِرَقهم.
3-توسيع رقعة وحدود المساحة المُتاحة للاتصال لكي تصل إلى تمكين كل شخص من الوصول للاتصال بأي شخصٍ آخر في العالم.
ونقول ونزيد في النقاط الثلاث أعلى، أنه بقدر ما سهلت وقربت هذه الوسائلُ التواصلَ بقدر ما أتاحت الانتهاك؛ فإن في الإتاحة غير المقيّدة استباحةٌ، وهي بسهولة الوصولِ لأي شخصٍ من خلالها تتيح انتهاك خصوصية الغير وإيذاءه، وتتيح أيضًا انتهاك النفس لذاتها، ومن هنا نقع في مستنقعٍ كبير يمتد لأطرافٍ عدّة، فإن الإنسان باستغراقه في الاعتماد على وسائل التواصل الرقمية يُؤجَّج لديه انتهاك واقع نفسِه فيتبلّد عنده حِسُ المعاملة أثناء تواصله مع الناس في غير هذه الوسائل على أرضِ الواقع، ويفتقر إلى المهارات الخطابية وإلى لغة الإيماءاتِ وإلى المقدرة في استنباط واستخدام الإشارات الشعورية.
والمشكلة الأكبر والعظمى هي انتهاك المبادئ الدينية وتمزيق بعض الأعراف المُجتمعية المُحافِظة -إن وُجدت- أو الغفلة عنها -إن لم توجد- مع سيادة الإتاحة وانتشارها بين الناس.
وأقول هنا لحل إشكاليةٍ يُثيرها المعظم ويقع في تطويع منطِقه الخرب للقفز فوق أسوار الدين والعُرف: إن الدين بمنهجيته لا ينتظرك لتفعل الخطيئة وتدخل حِماها ومن ثم ينتشلك من منطقتها؛ وإنما يأمرك وينهاك في أفعالٍ من الضوابط التي تقيك منطقة الحِمى ويحفظك في سلوكٍ احترازي من الاقتراب إلى منطقة الوقوع، ولذلك فإن تلك الوسائل مع إتاحتها وتزامنًا مع احتياجاتِ الجبلّة البشرية والفوارغ النفسية لدى معظم الشباب والفتيات وتوازيًا مع الجهل والغفلة عن الدين؛ ينتج نوعٌ من الانتهاك الروحي والنفسي والجسدي بين الجنسين وعلى كل مراحله من التدريج سواء أكان بين ممّن لا تربطهم أي علاقةٍ رسمية أو علاقةٍ رسمية بالخطوبة، ولقد ذاع صيت تلك الممارساتِ بين المجتمعِ بشكلٍ فجٍّ مما وضعها في عُرف السائد وكأنها خارج أحكام الدين لا تخضع إليه فمزّق شرقيتنا وأضاع منا جزءًا من أصالتنا العربية، قبل أن يضيع الدين من بين أيدينا وأصل ضمائرنا وثوابت قلوبنا.
وننتقل للحديث عن المزيد من النقاط الإيجابية وهي:
4-توفير كل المعلومات المعرفية الكافية والمطلوبة عن طريق صناعة مجموعات من المتخصصين في مؤسسة بعينها ومجالٍ بعينه، كمجوعاتِ الفيس بوك والواتس Facebook & WhatsApp groups لطلبةِ دفعةٍ واحدة يتبادلون البيانات المعنيّة بدراستهم.
5-إمكانية الحصول على المعلومة مهما كان حجمها ومداها الزمني ومكان مُلقيها ومُتلقيها والبعد بينهما، فأتاح لكثيرٍ من الدارسين الحصول على دوراتٍ تعليمية ومهنية كاملة وهم في بيوتهم كتطبيق التيليجرام Telegram.
6-ويوجد بعض وسائل التواصل الاجتماعية المتخصصة في التوظيف وأبرزها LinkedIn، وأخرى تقدم خدماتٍ في نفس الجانب لتسهيل الحصول على الوظيفة وعرض ما يتطلبه السوق كفيس بوك Facebook، وقد مثّلت تلك الإسهاماتُ في سهولة التواصل بين جهة العمل والساعين للتوظيف بشيءٍ من الاحترافية حتى أصبحت نسبة 90℅ من فرص العمل المتاحة والمعروضة عن طريق تلك المنصات، وإن حُسنَ استغلالِ التعامل من خلالها والنشاط عليها يزيد من فرص المتقدم للتوظيف.
وإن النقاط الثلاث السابقة لهي من أهم إيجابيات وسائل التواصل الاجتماعي وأبرز فوائدها إن أحسن المستخدم الوعي والتوجيه في الاستفادة منها، ولكن في بعض الاستخدام المغلوط والاعتماد غير المبني على مرجعيةٍ أصيلة يؤدي إلى تشوهيه بعض المفاهيم لدى البعض، فيُقصِر قاعدته الثقافية والمعرفية والأخلاقية على معلوماتٍ مُتناثرة على تلك المنصاتِ الاجتماعية وهو لا يُجيد التمييز وتفصيل المقارنات في مادتها، ولا يعي الفصل بين خيرها وشرّها، فيبني بُنيانه على قاعدةٍ صِبيانية مشوبة لا تُغني ولا تُسمن من جوع.
ونضيف إلى بعض الإيجابيات ما يُنمي الحب المُنصف للذات ويبرز في تلك النقطة بشكل أساسي تطبيق الفيس بوك ويدخل معه تويتر وإنستجرام بشكلٍ جزئي:
7-وهي القدرة على طرح أفكارك ومواقفك وبعض أحداثك ومناقشتها والتفاعل معها ضمن دائرة من الأصدقاء والمقربين، ما يتيح الفرصة لإشباع رغبتنا البشرية لإثباتِ الذات وسد سؤالها المُلح: كيف يرانا الآخرون؟!
8-تطويع بعض المهارات التي نمارسها ونحبها ونحب التفاعل لأجلها بالعرض اللائق أمام الجميع، وبالتالي تطويرها.
9-توفير مساحةٍ عظيمة لمعرفة سلوك وثقافة وتراث شعوبٍ أخرى وربما بلدانٍ قريبة، وتوضيح جمالية التباين بين الثقافات المختلفة في التأثر النفسي والعاطفي والتأييدي بالمُستحِق منها.
والحقيقة توجد صورٌ كثيرة للاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي ما يدور بين تلك النقاطِ الثلاث وحولها، غير أن تلك النقاط هي أكثر إيجابياتِ تلك المنصاتِ الاجتماعية حَرَجًا وأسرعها قولبةً وانسلاخًا في النفس ومن النفس ذاتها قبل أن تغيرها المؤثراتُ الخارجية؛ فالعديد من التجارب الاستطلاعية والبحثية أُقيمت بواسطة بعض الجامعات والجمعيات الصحية والنفسية لا مجال لذكرها الآن أكدت ارتفاع فرصة الإصابة بالاكتئاب والقلق والوحدة وعدم الرضا عن الذات لدى الذين يستخدمون ساعاتٍ كثيرة جالسين على مواقع التواصل الاجتماعي عنه لدى الذين يقلّلون استخدامهم منها.
ولأن الأصل في الأشياء الاعتدال ومراعاة الاتزان في استخدامها، فإن التعلّق النفسي الزائد لإثباتِ الذات على تلك الوسائل يؤدي إلى رسم الذات وليس إظهار حقيقتها ويعزز النرجسية في النفوس ويزيد من فرص تطلّعها الموهوم، والاستغراق بالمشاهدةِ على صور وأشكال الترف والغنى والثراءِ الفاحش لبعض مستخدميها وما يظهر بصورةٍ جلية في تطبيق الإنستجرام يبني الشعور بظلم الواقع والإحساس بعدم الرضا -على غير طاقة الإنسان- وصعوبة تقبّل ما في اليد من إمكانات، فيُؤجج حاجة النفس الصريعة للسخطِ على حالها والتمرّد على قدرها، وإن لم يصبح الأمر بهذه الكارثية فإن النفس الشحيحة لتُتعب وتُجهد ذاتها في المقارنات فلا يستقيم لها حالها ولا تستكين على الرضا فيه، فتنقاد إلى الكآبة والوحدة، وليس ذلك فقط لبعض الفوارق الكبيرة والبيّنة وإنما يتفاقم الشعور السيء بأقل الفوارقِ كفرصةِ عملٍ جيدة أو زواجٍ سريع أو عملٍ مُربح وآخر مريح و…إلخ مقارنةً مع حاله في كل شيء، وأخيرًا في تلك النقطة هو تأثر بعض الأشخاص للحكم على شخصيّة الفرد من خلال ما يُدوّنه أو ينشره على تلك المواقع، وعلى الرغم من سذاجة الفكرة إلا أنها ملموسةٌ بشيءٍ من الخاطر القلبي لأكثر الناس عقلانيةً وحِكمة، فكيف وهي عند من يفتقد للموازنة والاعتبار وينقصه الوعي وتطويه سطحية؟!! وهم كُثُر.
ولم أجد مساحةً للكلام عن الأهمية التسويقية لتلك الوسائل وهو ما يظهر جليًا للجميع، غير أني أفضّل الحديث عن معضلة أكثر أهميةً للنفس وغايتها: وهي مشكلة انهيار قيمة الوقت في النفس بالتصفحِ والاستخدام غير الممُنهج على مدار يوم الشخص، والمشكلة لا تكمن في إضاعة الوقت بأرقامٍ معدودة بقدر ما تكمن في إضاعة قيمة الوقت في النفس بمعانٍ مُستبيحة، فكما قلت بدايةً أن هذه المنصّات فاقت دورها بأن كانت جزءًا من حياة البعض إلى أن أصبحت هي الحياة في كل يومهم وما دونها فائضٌ تُشكّلها على حسْبِ ما يرتبط بها وتستحوذ هي عليه من خلالها، وبفقدانِ معنى وقيمة الوقت في النفوس تفقد الطبيعة البشرية صبغتها بحب الإنجاز والاجتهاد والبذل لأجل التتويج، وترى قدرتها إلى السعي بمنهجٍ من الميوعة والتباطيء على قدر ما تضيّعه من وقتها بين أركان هذه الوسائل بلا هدف ولا غاية.
وما أحب أن أختم به كلامي أن هذه الوسائل الاجتماعية مستنقعٌ إن لم تُحكِم النفسُ استخدامها بالوعي والموازنة، وهي في نسختها مِن المعنيين الحارسين السابقين وعاءٌ اجتماعي تحبّه النفس السويّة ومعرفي تحتاجه ثقافتها وشعوري وعاطفي تُغني وتُشبع قويم نوازعها؛ فإن التمادي والتزايد في استخدامِ الأشياء، أي شيء، والتعلّق بها يزيد خلل التوازن في الاستفادة منها، فيُغيّر من هويّة النفسِ المتزنة في التعامل معها، فتصيب شرّها قبل خيرها، وإن ذلك في قانون معظم الأشياء، فكيف في قانونِ بيئةٍ كوسائل التواصل الاجتماعي وما تحويه من جميع الأفكار والأيدولوجيات والثقافات فاسدها أكثر من صالحها وضررها أعظم من نفعها؟!
ورغم ذلك أقولها وبكل صراحة: أنني مُمتن لتلك الوسائل وما علّمته لي، فعلى المستوى المعرفي أعتقد صادقًا أني استفدت منها أكثر مما أفدت، فإننا نقتبس من آراء الآخرين، ونرى من تصوّراتهم، ونقرأ ونستفيد من مقالاتهم وأفكارهم، ونطوف عِلمًا حول مفضّلات كُتبِهم وعلومهم ونتعلم منها ما لم نكن لنتعلّمه بدونهم.