بضاعتُنا زهيدة
عبد الرحمن علوش
Abd El-Rahman Alloush
وأصبحت لدي القناعة الكاملة بزُهدِ ما أكتب من اهتمامِ الناسِ وسعيهم، إنما أنخرطُ وانكبُ لأجلِ بضاعةٍ زهيدة لا تأخذ من همومِ الناس طرفةَ عينٍ أو انتباهتها.
أصبحنا نستثقلُ كل ما يُخفف عنّا دُنيانا، لا تستهوينا كلماتٍ نعُدّها من كلامِ رجالِ الدين وحدهم، وقتها ومكانها هناك ساعةَ إيمانٍ خفيفٍ في يومِ الجمعة.
أكَرِه اللّٰه انبعاثنا أم ثَبّطنا لما يحب أن يريده لنا ونتحاشاه؟!!
نعوذ باللّٰه إن كنّا كذلك، لكن هل نفعلُ أو نُري اللّٰه منّا عكس ذلك؟!!
ما يملاُ عقلي ويوزنه أنّنا في أشدّ الحاجةِ إلى اللّٰهِ؛ فعلام التغافل والابتعاد!!
لا أكتب من أجلكم ونقطة.
لكن أكتب من أجل اللّٰهِ لي ولكم، الكل منوطٌ بالدعوةِ لهذا الدين، وسيحاسبُنا اللّٰهُ أكنّا دعاةً بحق أم نعيش بعبثيتنا تلك: لا نحمل همًا لهذا الدين؟!!
وكلٌ له وسيلته وغايته .. والله خير مُعين.
سيظلُ كلامُ اللّٰهِ والدعوةِ إليه أفضل وأحسن ما تنطق به الأفواه، وأغلاها سِلعةً وقيمةً بمبعثها من الآخرة ولو زَهِد جميعُنا عنها، {ومنْ أحسنُ قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحًا وقال إنني من المسلمين}
ليس هذا كلامي، إنما غايةُ اللّٰهِ لنا فيما نسمعُ ونهتم إن كنّا مدعيين، وفيما نقول ونتفوه إن كنّا دعاةً، أتُعمِل همّك وخاطِرك وسمعك وبصرك ما يُنشِأ في نفسِك عملَ هذه الآيةِ تقول في عزّةٍ: {إنني من المسلمين}.
نلتهي بالعبثِ واللهوِ بمختلفِ أشكاله، نُساقُ لجني أكبر قدرٍ من المال، نُفتشُ عن كلّ جديدٍ في كل شيءٍ لنملأ به وقتنا إلا كلّ جديدٍ علينا في ديننا، نغمر أرواحنا وأنفسنا في رَحِمِ المُلهيات بدعوى ألا ننسى نصيبنا من الدُنيا، ونحنُ نجعل مِن الآخرةِ ثانيةً ضمن يومنا توقظنا من غفلتِنا في لحظةٍ اعتدناها وجعلناها روتينًا يقطع عنّا خواء أرواحِنا.
وهكذا جعلنا من الدينِ مُخفّفًا مؤقتًا، لا منهجًا مُستديمًا، نُصابُ في أرواحِنا وأنفسِنا وهي مُفتقرةٌ من همّ الآخرة ومعاني اللّٰهِ في نَهجِها، فنلجأُ إلى اللّٰهِ مُنيبين نحملُ همّ ارتياحِنا الآن ولا نحمل همّ الآخرة فيما بعد، فنرتاحُ في ذكره عمّن سواه، ويضُمُّنا سلامٌ يرقّقُ قلوبَنا ببرهانِ أنّه لا يوجد لنا راحةٌ فيما عندِ غير اللّٰهِ ودينه ونهجه نسيرُ به في كلّ أمورِ حياتنا.
ولكنّ آمالنا ضيّقة ونهايةُ سمائِنا قصيرةٌ غايةِ ما يستطيعُ أن يصلَ إليها: جَناحُ بعوضة، محدودون بإمكاناتِ دنيانا؛ لأننا لا نُحبّ أن نطيلَ إيماننا إلى الحد الذي يُبعدنا عنها وعن لذاتها، فسُرعانَ ما نعودُ إلى ممارساتِ دنيانا دون أن نحمل همّ الآخرة، فنجتهدُ في كل شيء ونُتعب مُرادنا في أي شيء دون أن ننتبه أو نأبه لمرادِ اللّٰهِ فينا.
نُحبّ الدين ولا نحب أن نبذُلَ له، يُقرّصُنا من على مقاعدنا كلامُه ونستثقله على صدورِنا غير أنه لا يُخففُ عنّا إلا هو وقت اضطرارنا استجابةً لفِطرتنا وعلى ما جُبلنا، رَخّصنا ما نريدُ فأدبرنا عن سلعةِ الدين؛ فسلعةُ اللّٰهِ غاليةٍ، وابتكرنا درجاتٍ للإدبارِ ما يزيّن عملنا ويؤكد بأنّا مُسلمون ويا أسفى ما كنّا مؤمنين؛ فما كانت غايتنا ولا أردنا أن نعرف عن المؤمنين من شيء، فربّما نكون مؤمنين بالفعل، ومن يدري؟!!
أعوَز ما نكون لأن ندرك في أعمالنا من حقيقةٍ أن لو تعلّمنا وبذلنا في دنيانا كل شيء وما تعلّمنا وبذلنا لأجلِ هذا الدينِ تحقيقًا ورِفعةً في أنفسنا وفي نفوسِ الآخرين من شيءٍ فما بذلنا ولا تعلّمنا أي شيءٍ؛ البذلُ في اللّٰهِ عطاءٌ وما سواه اختلاسٌ من خزائنِ عطائنا وأعمارِ قلوبِنا، فهلا دوّنا تقويمَنا مع اللّٰهِ، نبثُ في أرواحِنا لا مرورَ الساعةِ بل انبعاث النبضةِ قد ذكرنا فيها اللّٰهَ.
الكونُ على اتساعِه أضيقُ ما يكون ونحنُ في منأى عن اللّٰهِ، هكذا وقد جاءنا الدين ليُعّلم هذا الكائن الأرضي كيف له بأن يكون إنسانًا، ويخبر في بصيرتِه يقينًا يأتي إزاء خطا عبوديّته بأنّ للسماءِ في قلبِه قطعةً ما تنفكُّ توصِله بمسكنِها إلى أن تصلَ به إلى اللّٰهِ، فإنّ سيرنا بالدين في كلّ شواغِلنا هو امتدادٌ للسرّ الإلٰهي فينا بأنّنا له وإليه، وما نحنُ بين أسقُفِ السماءِ الواسعةِ وفُرُشِ الأرضِ المُمتدة إلا عملُ آيةِ الحكيمِ في كتابه {ففرّوا إلى اللّٰه}.
وإن لّم يكنْ الدينُ قضيّتَنا ما نوكلّ فيها أعمارنا، فقد خسرنا قضيّةِ إنسانيتنا مع الحياة كلّها؛ ف {إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [العصر : 2-3]، آمنوا وعَمِلوا وتواصوا: هذه هي وسائلٌ ثلاثةٌ لئلا نفقِد أنفُسنا في تيه وبؤس وفساد وغياهب دنيانا، فهل لنا سوى دينِ اللّٰهِ من سبيلٍ؟!!
وكما ابتدأت بزُهدِ بضاعتِنا هذه من هِمم معظم الناسِ وسعيهم، فسيظلُّ هذا الدين غريبًا وسيدوم في نفوسِ الغافلين المُتغافلين ثقيلاً إلى أن يفتح اللّٰهُ عليهم أو يتركهم في تخبّطِهم وصدورهم ضيّقة حرِجة كأنّما تصّعّدُ إلى السماءِ، حاجتنا للشرابِ والطعامِ ليست أولى من حاجتنا للدعاءِ بأن يُثبّتنا اللّٰهُ على هذا الدين وأن يُمضي عزائمنا إلى مُرادِه فينا وأن يهدينا تجاوز استوحاشِ قلّة سالكي طريقِ الحق أنّا لا نُبصر غير المحبّةِ والسلامِ فيه ما يبعثُ في أرواحنا ارتقاءِ عتباتِه تحقيقًا لعبوديّتنا إلى سماءِ السكينةِ رفقًا بنا من لّدن حكيمٍ عليم.
يا ربِ النورِ ورب الظلامِ وربّ كلّ شيءٍ ونقيضه أحْكِم فينا موازين بصائرنا فلا يستخِفّنا الذين لا يوقنون، ولا تجعل حظي مِن الدنيا سوى قلبي داعيًا إليك في نفسي وفي نفوسِ من شِئت من عبادِك أن يقولَ: {ربي اللّٰهُ}.