النفوس لمّا تعتلّ ويشتدّ مرضها:
داؤها القديم وشأنها الجديد
بقلم: محمد زاوي
يا محدّثا للناس عن مهلكاتهم، تحدّث لهم عن تلك التي أهلكتك ..
تحدث لهم عن “أمّارتك” القاتلة المبيدة، وسيوفها الطاعنة بالغدر.
تحدث لهم عن “العارِف” الذي أبت أن تكونه، فكانت “الساقط المنحل المائع السائل”.
تحدث لهم عن قوتها إذا امتنعت، وضعفها إذا “استوت على الجودي”.
تحدث لهم عن قممها في القليل، وحضيضها في “التلبية”.
تحدث لهم عن أقنعة الضعف، بألوانها وأشكالها وزخارف قولها والترتيب الفوقي لأفكارها.
قل الحقيقة، ولا تتخبط كالمتخبط من “المس”، مرة أخرى.
إنه “المسّ” حقّا، أصاب “اللوم والاطمئنان” في مقتل، فكان “الموت في الحياة”، وكان “السكون في الحركة”، وكان “الضعف في التداعي بالقوة”.
أفصح عن العجوز فيكَ، أفصح لهم عن العجوز إذ نزع الجلباب ولبس “البذلة الغربية الجذابة”.
أخبرهم عن البذلة إذ ضحك “العارفون” لاستغرابهم مَن تحتها، فمزقوها لتظهر الحقيقة.
تَكلَّم في موضوع البداية، في الفرد الذي وُجِد في “الوجود الاجتماعي” قبل أن يعيه.
تكلّم قليلا عن قوته اللاواعية في “السماء إذ أرخت بظلالها على الأرض”، قبل نظيرتها الواعية في الوجودين “الأنطولوجي والاجتماعي”.
تكلّم عن ضعف الانتقال وشدّ الرحال، وعن زيف كل انتحال.
تكلّم عن ضعف الفقهاء وأصحاب التخصصات المعرفية الحديثة، وعن ضعف الأصوليين و”الحداثويين”، “التقليدانيين” والتجديديين، الشيوخ والمريدين، العاملين والقاعدين، الحاكمين والمعارضين… إلخ؛
تكلم عن ضعف النفس الذي أرهقهم جميعَهم، فانتكسوا لمّا طُلِب اليقين.
تكلّم عن النفس إذ أصبحت لعبة في يد “الكبار الظالمين”، بعدما أغواها “المجد والدولار”، فنسيت التاريخ وقواعد التاريخ واستخلاف الله لها في التاريخ.
تكلّم عن عجزها إذ قتلت اجتهادها، ل”عرَض من الدنيا قليل”.
اشرح للناس، وقل الحقيقة.
اشرح لهم كيف تبدع “النفس المريضة” في تلافي الحقيقة، تحت أقنعة حوّلَها “اللاوعي النافذ والمكبِّل” إلى “حقيقة زائفة”. اشرح، وقبل أن تشرح، انظر بمرارة في “نفسك المريضة”.
فإياك أن تلذع غيرك، فتنسى نفسَك:
ألم تتذكر “تنازع النفوذ” بين الكبار والصغار معا؟
ألم تذكر كيف مارسه الصغار بالكلام النابي؟ فيما مارسه الكبار باختلاف الأنظار؟
تكلّم عن حلاوةِ دمعةِ خلوة، وعن مرارةٍ في غفلةِ نشوة. اشرح للناس كيف يخرج الحزن من بطن الفرح، وقل لهم كيف يكون “الفرح الحيواني وعربدة السكارى، جعجعة بلا طحين” (سيد قطب، نحو مجتمع إسلامي). احكِ عن الطريقة التي تقتل بها الذات ذاتها، فتصبح خاوية على عروشها. احكِ عن المناضلين، حوّلهم العذاب إلى بقايا في موائد الكبار. وعن الفقهاء، حولتهم العطايا والهدايا إلى مردّدين لآيات العذاب على مسامع الصغار. وعن الرجال، ماتوا تباعا في هوى أجساد النساء.
وعن القضايا الكبرى، فقدت أرواحها في الأسواق والمدارس والشركات والمقاهي وغرف النوم. وعن الزهاد، فقدوا معانيهم في قلوب البخلاء الخائفين من “مكر الزمن”. وعن المتصوفة، فقدوا هيبتهم بين ما يحكى من ظلمات الأديرة والزوايا النائية. وعن كبار المفكرين، التقدميين والحداثويين، حولهم الرأسمال إلى كتاب تحت الطلب، أفكارهم أهواؤهم، وحبرهم شرابهم… احكِ عنهم جميعا، ولا تنس منهم أحدا.
ولا تقتفِ في الحكي بكتّاب المطولات، بل عليك بكتاب الشذرات.
قل الحقيقة بالشذرة، ولا تخفها تحت النصوص المطوّلة. تقمص شخصية “المحاسبي” أو “ابن عربي” أو “السكندري”… تقمصها، ولو لمرة واحدة في الحياة. تقمصها لترى جدل الوجدان، لترى النارَ طافية فوق الماء، والنورَ سابحا في جو الظلام، والحقدَ حيا في قلوب العاشقين، والأنا عميقة في سلوك العارفين، والأوارَ ملتهبا في أبدان المجاذيب…
تحدث عنهم جميعا، ولا تنس نفسك. فالتاريخ يطلب حبسها، فإياك أن تطلب التاريخ بتحريرها مطلقا. آنئذ، سيدوسك التاريخ، وسيرهقك الوجدان إلى أن تستفيق، هذا إن بقي لك في الاستيقاظ أمل.