القذف: حرب نفسية وانحطاط أخلاقي
لو تدبرت معظم كلام الناس وأغلب حديثهم اليومي لوجدت في طياته من الكلمات ما يندى له الجبين وتشيب له مفارق الولدان.
وكلمة واحدة يستهين بها المرء ويتلفظ بها في لحظة اللامبالاة كفيلة بأن تغير مجرى حياته ويكون لها من الآثار ما يجعل قائلها عرضة للحسرة والندامة في الدنيا والآخرة.
ولو بحثنا في ثنايا ذلك الكلام لوجدنا كلمة مثل الحية الرقطاء تحمل سما زعافا من تنهشه تنفث فيه سم الفضيحة , فيبيت ليله لا يرقأ له دمع ولا يغمض له جفن وفي النهار تتحول جمرات الإشاعة التي أحرقت قلبه بالليل إلى دخان يحجب شمس الحقيقة.
إنها كلمة القذف …تلك الكلمة التي تتسع في مدلولها ومفهومها لتشمل كل معاني الانحلال الخلقي والانحراف السلوكي, وكل ما في النفوس من خبث وكل ما في القلوب من أمراض .
تفضح وجود المنافقين بين المسلمين وتعري سوءاتهم وتكشف عن نواياهم الخبيثة وأهدافهم الدنيئة.
وبالوقوف عند مدلولها وآثارها يتأكد لنا أننا أمام سلوك يرفع صاحبه إلى درجة الجاني الذي يستحق أشد العقوبات.
فما المقصود بالقذف؟
قال الليث: “القذف: الرمي بالسهم والحصى والكلام وكل شيء”.
وقذف المرأة رميها بزنية.
وفي حديث هلال بن أمية أنه قذف امرأة بشريك1
قال ابن منظور: “القذف رمي المرأة بالزنا أو ما كان في معناه, وأصله الرمي ثم استعمل في هذا المعنى فغلب عليه”2.
والآيات القرآنية التي تناولت موضوع القذف أشارت بداية إلى تغليظ عقوبة القاذف الذي يتولى كبر هذا الأمر ويسعى إلى نهش أعراض المؤمنين , وفي ذلك يقول تعالى : ” والذين يرمون المحصنات ثم لم ياتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون “3
وقال أيضا : ” إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة “4
وقال أيضا : ” إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المومنات لعنوا في الدنيا والآخرة “5
فالعقوبات التي يواجهها القاذف هي الجلد والتجريح ’ بحيث ترد شهادته وتلحقه اللعنة في الدنيا والآخرة ويتوعده الله بالعذاب الشديد في الآخرة.
وكثيرا ما قرأنا في كتب المفكرين والباحثين دعوتهم إلى إسقاط مثل هذه العقوبات على اعتبار أن الإسلام دين رحمة وأن الجاني ينبغي إصلاحه وإعادة تأهيله حتى يصبح عضوا صالحا في المجتمع .
والحقيقة أنه لو استبطنا الآيات الكريمات وتقصينا الحكمة من تغليظ العقوبة لوجدنا أن العقوبات السالفة الذكر تعادل شناعة الفعل .
فلننظرإلى العواقب المترتبة على جريمة القذف والتي لايمكن تجنبها إلا بتلك العقوبات:
أولا : إن القذف يدل على أن القاذف شخص ملأ قلبه بالحقد والحسد اتجاه أولئك الذين قذفهم ونهش لحمهم فجعل القذف سلاحا يحاربهم به .
وهو بذلك الأسلوب الدنيء والتصرف المشين يقطع حبل الود بينه وبين إخوانه المسلمين ويجعل الأخوة على شفا جرف هار .
ثانيا : إن القذف يجعل المقذوف يعيش حالة نفسية مزرية لأنه يكون موضع شك وتهمة عند انتشار وشاية القذف , فإن لم يكن لديه من رصيد الإيمان ما يجعله يثبت ويحتسب فقد يلجأ بسبب إحساسه بالظلم ونتيجة غضبه الأعمى إلى تصرفات لا تحمد عواقبها كالانتحار أو القتل أو غير ذلك .
ثالثا : القذف يفرق الأسر ويشتت شملها ويتسبب في تشريد الأطفال ويكون مثل العار الذي يلاحقهم أينما حلوا وارتحلوا, والأخطر من ذلك أن القذف يقوض أركان المجتمع الإسلامي ويقطع كل الروابط التي تجمع بين أفراده.
ولقد تنبه المنافقون في عهد رسول الله صلى الله وعليه وسلم إلى خطورة هذا السلاح فأرادوا أن يزرعوا الفتنة في المجتمع الإسلامي .
فبخطة موحاة من إبليس وبمبادرة من زعيمهم عبد الله بن أبي بن سلول اتهموا الصديقة بنت الصديق وحبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرضها وشرفها .
وقالوا كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته ولو وضعت على جبال الدنيا لهدتها.
وبقيت الطاهرة العفيفة تبكي لا يرقأ لها دمع ولا يغمض لها جفن , ورسول الله صلى الله عليه وسلم صابر محتسب يفوض أمره إلى الله .
وأما الصحابة الأخيار فقد أصابهم ما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم , قد ألجمت المصيبة ألسنتهم حتى صاروا لايدرون ما يقولون , دون أن يزعزع ذلك إيمانهم أو يغير من حبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو يجعلهم يشكون لحظة واحدة في طهارة أم المؤمنين.
وفي الوقت الذي شاء الله أن تنتهي هذه الفتنة ويزول البلاء وتنكشف الحقيقة ينزل الله تبارك وتعالى آيات تناولت قصة الإفك وبرأت أم المؤمنين وفضحت المنافقين وأرشدت المؤمنين إلى كيفية التعمل مع مثل هذه الأحداث .
وهذه بعض الدروس التي يمكن استخلاصها حتى يكون المؤمن على بينة وبصيرة:
أولا: بقدر ما تكون الفتنة امتحانا للمؤمنين يثبت الله بها قلوبهم على الحق ويزيدهم إيمانا على إيمانهم بقدر ما تكون هلاكا للمنافقين تزل عندها أقدامهم فيهوون إلى منحدر سحيق يجر عليهم الخزي في الدنيا والعذاب الشديد في الآخرة.
ومن سنن الله في هذا الكون أن الباطل يعلو ويرتفع ويصول ويجول ويجلب على المؤمنين بخيله ورجله فترة من الزمن ثم سرعان ما تهب عليه رياح الحق فتقوض أركانه وتهد عروشه , فإذا أهله وأنصاره قد نكسوا على رؤوسهم يغشاهم الذل ويلحقهم الخزي والعار.
ثانيا : لم يكن الإفك إلا أسلوبا ماكرا من الأساليب التي يستعملها المنافقون, وهو دأبهم في كل زمان ومكان يشوهون به سمعة الشرفاء ويحاربون به الأخيار .
ثالثا : ولأن القذف يمزق ثوب العرض ويدنس الشرف ويهوي بالمؤمن البريء إلى الدرك الأسفل من الفضيحة ليفسح المجال لكل فاجر أو فاسق ليخوض في هذا الأمر يظنه هينا وهو عند الله عظيم فقد أوجب الله عزوجل على كل من يرمي مؤمنة أو مؤمن أن يأتي بأربعة شهداء كوسيلة للإثبات , وإذا ما عجز القاذف عن ذلك أقيم عليه الحد وهو ثمانون , وعُدّ فاسقا لا تقبل شهادته أبدا .
قال القرطبي : ” وقد يعجز الرجل عن إقامة البينة وهو صادق في قذفه ولكنه في حكم الشرع وظاهر الأمر كاذب ” قال تعالى :” فإن لم يأتو بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون ” (النور ـ 12)6
رابعا : إذا كانت الآيات تقتصر على ذكر المحصنات المؤمنات فإن حكمها يسري على قذف الرجال المؤمنين المحصنين كذلك.
قال صاحب عمدة القاري : وناب فيها ذكر رمي النساء عن ذكر رمي الرجال إذ حكم المحصنين في القذف كحكم المحصنات قياسا واستدلالا وأن من قذف حرا عفيفا مؤمنا عليه الحد ثمانون جلدة كمن قذف حرة مؤمنة”7
قال القرطبي: ” وأجمع العلماء على أن حكم المحصنين في القذف كحكم المحصنات قياسا واستدلالا “8
قال الشوكاني :” حكم المحصنين من الرجال والمحصنات من النساء واحد في حد القذف والقاذف ملعون في الدنيا والآخرة وله حد القذف في الدنيا وعذاب جهنم في الآخرة “9
خامسا : إن الآيات التي نزلت في أعقاب حادثة الإفك تبين عظم قدر المؤمنين عند الله عز وجل ,وأن عرضه عظيم لا يحق لأحد لا من قريب أو من بعيد أن يطعن فيه.
وقد وبخ الله عز وجل كل مؤمن يتقاعس عن الدفاع عن عرض المؤمنين , وفي ذلك يقول تعالى : ولولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين “10
وهذه الآية تقرر قاعدة تعد من الركائز الأساسية التي تقوم عليها الأخوة بين المؤمنين وهي إجسان الظن بالمؤمنين والذب عن أعراضهم .
المراجع والهوامش:
1 ـ نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم
عدد من المتخصصين بإشراف الشيخ صالح بن عبد الله
الجزء : 11 / الصفحة : 5311
2 ـ ابن منظور ـ لسان العرب ـ الجزء : 9 / الصفحة : 276
3 ـ سورة النور ـ الآية : 4
4 ـ سورة النور ـ الآية :19
5ـ سورة النور ـ الآية : 23
6 ـ أبو عبد الله القرطبي ـ أحكام القرآن ـ الجزء : 12/ الصفحة :203
7 ـ بدر الدين العيني ـ عمدة القاري شرح صحيح البخاري
الجزء : 24 / الصفحة : 28
8 ـ أبو عبد الله القرطبي ـ أحكام القرآن
الجزء : 12 / الصفحة : 209
9 ـ الإمام الشوكاني (ت 1250هـ ) ـ فتح القدير
الجزء : 6 / 448
10ـ سورة النور ـ الآية :12