فوق قمة الجبل الأشم وقف شيخ قد تجاوز السبعين من عمره لكنه بدا مثل شاب في مقتبل العمر، لم تنل منه السنوات أو تؤثر فيه النكبات أو الأزمات.
كان ينظر إلى السماء في خضوع وانكسار ثم يخفض بصره ويستغرق في الذكر مدة، ثم يعود فيرفع يديه للسماء كحال المستغيث المستجير بخالقه ومدبر أمره، ثم يعود لينظر حوله فيبدو مثل أسد يريد أن يقتحم الأهوال ويجتاز المخاطر.
نظر إلى السفح فرأى شابا في مقتبل العمر، لكنه بدا حائرا… خائفا…
مترددا، لا يعرف أين يتجه، كأنه يريد أن يتكلم ويخرج ما بداخله لكنه كان أعجر من أن ينبس ببنت شفة.
حركاته، تصرفات، اضطرابه، انزعاجه، كل ذلك يدل على أن شيئا مثل الهم والحزن يستوطن قلبه، كأن شيئا مثل المعاناة يجثم على صدره
لكنه عاجز عن الإفصاح…
من هذا الشاب؟
ما باله يقف في السفح؟
ألا يستطيع أن يتسلق هذا الجبل؟
تساءل الشيخ باستغراب وعاد لينظر إليه مرة أخرى عله يتعرف عليه.
كأنه يعرفه، ملامحه، حركاته، نظراته.
نظر إليه من جديد فكاد يفقد صوابه لهول ما رأى:
إنه هو: حفيده…
نعم هذا الشاب الذي بدا أشبه بطائر قصت جناحاه فعجز عن التحليق هو حفيده..
رآه مثل البعير الضال الذي شرد عن أهله وبقي هائما على وجهه في الصحاري
رآه مثل الشريد الذي فقد الأهل والسكن ويحتاج من يأويه..
رآه مثل الطريد الذي تكالب عليه الأعداء ومضى يبحث عن النجاة
رآه مثل المريض الذي أنهكت جسده الأمراض فخارت قواه
وبعد أن استفاق من هول الصدمة قرر الجد أن يمد يديه لحفيده عله يخلصه من حالته تلك.
نظر الجد إلى حفيده نظرة الطائر إلى الفرخ الذي سقط من العش ففقد القدرة على الطيران، وخاطبه بلغة اختلطت فيها مشاعر الأبوة بعبارات اللوم والعتاب فقال:
ـ يا بني، مالي أراك قابعا في السفح؟
هل فضلت العيش في الحضيض على السعي إلى القمة ومعانقة الجوزاء؟
من الذي ألقى عليك لباس العجز والإحباط حتى غذوت عاجزا عن الحركة؟
من الذي وضع الحواجز أمامك وأوصد الأبواب في وجهك؟
من الذي أغراك حتى لبست لباس الإمعة ورضيت أن تكون مجرد ببغاء لا يتقن سوى ترديد الكلمات؟
وسكت الجد، وانتظر أن يتكلم الشاب لكنه كان واجما، لا يستطيع الكلام كأن صاعقة نزلت عليه فألجمت لسانه.
ـ تكلم يا بني … حرر لسانك من سجن السكوت واخرج من دائرة القطيع
تكلم يا بني… حطم جدار الخوف بداخلك وتخلص من قيود التردد
مزق ستار اليأس، وامتطي صهوة الأمل.
أغمض الشاب عينيه وحاول أن يتكلم… أجمع قواه كأنه يريد أن يتخلص من القيود التي تكبله… لكنه جثم على ركبته…
تحامل على نفسه وصرخ صرخة حتى ظن أن الأرض اهتزت تحت قدميه وقال بأعلى صوته:
ـ جدي…
وسكت، وهو في حالة زفير وشهيق، ولما أحس برغبة في الكلام قال:
ـ جدي… لدي رغبة في أن أسير في دربك وأعمل بوصاياك، كي أرى الطريق، كما تراه، واضح المعالم، فأتجنب المنعرجات الوعرة والمسالك التي تقود المرء إلى حتفه.
لدي رغبة في أن أجعل من يومي امتدادا لأمسك ليكون ذلك حافزا لي على العمل والإبداع.
لذلك أجدني أمام حواجز صمت بخطى مدروسة، كأنني أخضعت لأسلوب يمنع تقدمي خطوة واحدة في هذا الدرب.
أجدني مكبلا بقيود تشل حركتي وتضعف عزيمتي وتحيلني إلى هيكل بشري تحركه أيادي خفية.
أجدني أشبه ببيدق في لعبة الشطرنج يحركه أشخاص ماهرون في اللعب، يجيدون المكر والخداع، ثم يقدمونه قربانا من أجل اصطياد “الشاه”.
أجدني أشبه بطائر خدعوه فأوهموه أن السبيل إلى الحرية هو أن يتجرد من ريشه الذي يغطي جسده، ولما استجاب لطلبهم وأخذ بنصائحهم صار مجردا من كل شيء، لا حول له ولا قوة.
تنهد الجد قليلا كأنما يريد أن يسترجع أنفاسه ثم خاطب حفيدة بلغة التوجيه والنصح:
يا بني، لن تتخلص من العجز الذي أنت فيه إلا بإظهار عجزك للواحد القهار.
لن تخرج من دائرة الحيرة والشك ذات الظلمة الدامسة إلا إذا أوقدت مصباح التوكل على الحي الذي لا يموت ورفعت راية التفويض للعليم الخبير.
لن ترى طريقك واضح المعالم إلا إذا تخلصت من الأفكار الضالة والمناهج المنحرفة التي تلف عقلك بهالة من الغموض فيعجز عن استبيان الطريق الصحيح.
يا بني، إن من يجهل ماضيه ويتنكر لتاريخ أجداده يعجز أن يرسم رؤية مستقبلية لأبنائه.
إن من يسلم نفسه للآخرين ليقرروا مصيره، في حين يمارس هو دور المتفرج، فلن يتقن إلا التصفيق ليس إلا.
إن من يجعل عقله مستنقعا لكل النفايات التي عافها أهلها. فلن ينتج إلا التفاهة.
بني، أما آن لسفينة المعرفة عندك أن ترسو في بحر الحياة ذي الأمواج العاتية، أم أنك تفضل أن تبقى حيث ألقت بك رياح الجهل والجمود والتخلف.
أما آن لك أن تنظم لجيش العسرة. أم أنك توثر البقاء مع الخوالف وتنتظر أن يدرج اسمك في لائحة المعذرين.
أما آن لك أن توقد قناديل الصبر وتطرد غربان اليأس التي تحلق في دوحة أحلامك.
أما آن لك أن تعلن الإذعان والخضوع للواحد القهار، فيكون سلاحك العمل الجاد والعلم النافع، وتمضي بثبات نحو هدفك المنشود شعارك في ذلك “وعجلت إليك رب لترضى“.