الرسول العظيم… لن ينصفه جاهل بالتاريخ
بقلم: محمد زاوي
لم يُظلَم الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم من قِبل خصومه فقط، بل إن أغلب النخب المدافعة عنه كانت أشد الناس ظلما له. فتمسكوا بالقدوة تمسك الأعمى؛ إذْ يقرأ الوحي على هواه، وإذ ينسب صاحب الرسالة إلى خياله الواسع.
وإلى يوم الناس هذا، من هذه النخب مَنْ لا يعرف حقّ المعرفة: من كان الرسول؟ وكيف عاش؟ وأين بُعِث؟
وفي أي شرط تاريخي؟
وكيف أخرج قومه من ظلمات “الاسترقاق” إلى نور “نظام اجتماعي جديد”؟… إلخ.
ليس كل الناس مطالبين بالإجابة على هذه الأسئلة، ولكنّ النخب مطالبة بالآتي:
– استيعاب الرسالة في شرطها التاريخي، وهو ما نعني به “القبول بفكرة “الوحي” في شرطها التاريخي، قبل القبول بها في شروط أخرى لاحقة”.
– ترسيخ القبول الثاني عند العامّة، وتقريبها من صورة “السيرة” التي تؤيد هذا القبول وتدعمه.
هذه هي مهمة النخب، وإلا لما بقي معنى للتمييز بينها وبين من تحتها من عامة الناس.
******
يعتقد بعض المحسوبين على النخبة أن:
– القول بعبقرية الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم يتنافى مع القول بنبوته؛ ومن هؤلاء منير شفيق في “ردود على أطروحات علمانية”.
– البحث في الشروط التاريخية للرسالة تفسير مادي للوحي وإنكار له، وقد نحا هذا النحو أغلب من تناولوا السيرة بالسرد، ومن بنى على سردهم منَ المفكرين المتأخرين.
فما هي مسببات هذا الاعتقاد؟
إنهم يعتقدون أن الوحي يحرث الأرض من غير حاجة إلى محراث، ويبني الدولة من غير حاجة إلى مقوماتها المادية والمعنوية، ويؤسس لقاعدة اقتصادية جديدة من غير بناء على ما وُجِد من قابلية لدى الناس لهذا التأسيس، ويسن القوانين والشرائع من غير اعتبار للقوانين والتشريعات السابقة، ويخاطب الناس بعقائد جديدة من غير أخذ بأسباب القبول بها… إلخ.
وإننا نقول: “لو أن الرسول أخذ بخيالاتهم هذه، لما بنى دولة، ولما أسس قاعدة اقتصادية جديدة، ولما تجاوز التشريع القديم بآخر جديد، ولما ألغى عبادة الأصنام بعقيدة التوحيد… إلخ”.
والحقيقة، أن واقع “الرسالة” يشهد بالآتي:
– بناء الدولة لم يكن ليتحقق لو لم يتوفر شرطها التاريخي ومقوماتها القانونية: فكان شرطها هو “التحكيم بين الأوس والخزرج في المدينة ومحاصرة التدخل اليهودي الذي كان يحول دون تأسيس الدولة” (1).
وكانت مقوماتها هي: الإقليم، والشعب، والسلطة، و”الوثيقة الدستورية”/ الصحيفة… إلخ (2)
(وكلها لم تكن لتتحقق والرسولُ (ص) ومن معه في مكة، لأنهم كانوا أقلية، لا نفوذ لهم على الأرض، ولا سلطة لهم على الأكثرية القرشية المشركة، ولا قدرة لهم على فرض “وثيقة دستورية” يحتكم إليها الجميع).
– لقد كانت “الأحكام الاقتصادية” معبرة عمّا تفرضه الحاجة إلى “قاعدة اقتصادية جديدة”: إذ كانت الثورة على “النظام الاجتماعي العبودي”، في أطراف شبه الجزيرة العربية (الروم، فارس)، تقتضي تأسيس دولة.
وقد كان هذا التأسيس يطلب إجراءات عقائدية وسياسية واقتصادية صارمة، لا تصب في مصلحة كبار مشركي قريش (آنيا)، ولا في مصلحة يهود المدينة (بعد الهجرة)… إلخ.
فأن يكون الناس سواسية أمام الله والشريعة، ذلك ما كان يرفضه أكابر قريش، كنتيجة لجهلهم بما سيفضي إليه من تقدم لشبه الجزيرة العربية في التاريخ (3).
وأن تفرَض الزكاة وتحرَّم الربا، ذلك ما كان يناقض مصالح يهود المدينة ويحاصرهم ماليا قبل محاصرتهم عقائديا (لأنهم حرّفوا عقيدتهم الأصل) (4).
– لم يكن التشريع الإسلامي طارئا على واقع وتشريع قديمين، ليكتفي بإلغائهما:بل إنه بنى عليهما، حتى يقبله عرب شبه الجزيرة العربية، باعتبارهم أول من خوطب بهذا التشريع.
فالكثير من أحكام المعاملات والنكاح والجنايات، لم تكن بمثابة قطيعة مع التشريع العربي السابق عليها.
والحقيقة، أنها كانت تتجاوز ذلك التشريع ولا تلغيه؛ وذلك بمعنى أنها كانت: تلغي بعضا وتترك بعضا، وتنظم ما كان غير خاضع لأي نظام من ذي قبل، وتصف طرقا للتنفيذ لم تكن محددة قبل تنصيص التشريع الإسلامي عليها… إلخ.
– أول من دعا إلى التوحيد ونبذ الشرك، في شبه الجزيرة العربية، هم “الحنفاء”.
وقد كانت هذه الحركة تعبر عن حاجة القبائل العربية إلى الوحدة العقدية، وذلك هو الوجه العقدي لوحدة سياسية ظهرت الحاجة إليها -أول ما ظهرت- في “يوم ذي قار”، حيث اتحدت أغلب القبائل العربية لصد التهديد الخارجي (الفارسي).
لقد كان المعنى العملي للتوحيد هو: تحطيم كل الأصنام، وبالتالي: القضاء على المظهر الأبرز للتمزق القبلي العربي.
وكل ذلك بهدف تحقيق “إمكان تاريخي” من بين “إمكانات” أخرى؛ أي: بهدف توحيد القبائل العربية في دولة مركزية، بدل الإلحاق بإحدى الإمبراطوريتين (فارس أو الروم)، وبدل الدوران في حلقات مفرغة إلى أجل غير مسمى (5).
******
كل هذا، جاءت “الثورة النبوية” حافلة به، وقد كانت ثورة “تقدمية” بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ثورة تستمد “تقدميتها” من تقدمّها بعرب شبه الجزيرة العربية خطوة إلى الأمام في التاريخ، بل وبالعالَم كلّه.
وعليه، فإن هذه الثورة النبوية الإقطاعية العربية، لا تختلف في شيء عن الثورة الأنوارية البورجوازية الأوروبية (ومنها الفرنسية)، من حيث أنها تقدم في التاريخ وبروز لنظام اجتماعي جديد.
ما الفرق بين محمد صلى الله عليه وسلم وديدرو إذن؟
لا فرق بينهما من حيث “تقدميتهما” معا، إلا أن محمّدا (ص) نبي مرسل ثار على “الاسترقاق” ممهِّدا لظهور إقطاع مشرقي فيما بعد، في حين كان ديدرو فيلسوفا معاديا ل”كنيسة الإقطاع” التي تقف بإيديولوجيتها في وجه البورجوازية الأوروبية الثائرة.
الأول: نبي يدعو إلى “إله واحد” تتحد تحت لوائه كافة القبائل العربية لتتقدم بخطوة إلى الأمام في التاريخ، والثاني فيلسوف يَكفر ب”إله الكنيسة” المعادي لحركة التاريخ إلى الأمام.
هذا هو التاريخ الذي يجهله “ماكرون” لأنه لا يمثل إلا الرأسمالية بعدما أخذت تُحتَضَر وتتوحش.
وهذه ليس من مصلحتها أن تستعيد “الأنوار” إلا كإيديولوجيا رأسمالية استعمارية، وليس من مصلحتها أن تستعيد “الإسلام” إلا خادما لمصلحتها، أما إذا كان مناقضا لتلك المصلحة فلا سبيل إلا سبيل المواجهة والرفض.
وكما يجهل “ماكرون” تاريخ الغرب والشرق معا، تجهله أغلب النخب الإسلامية أيضا، لتجد هذه النخب نفسها خادمة للرأسمال في نهاية المطاف، بقبول “إسلام” ورفض “آخر”.
فلا تقبل من الإسلام إلا “إسلاما رأسماليا استعماريا عولميا”، ولا ترفض منه إلى ذلك “الإسلام الوطني التاريخي الناجع في شرطينا الخاص والعام”.
الهوامش:
(1): عبد الصمد بلكبير، من محاضرة بعنوان: “نظرات في السيرة النبوية”.
(2): راجع رسالة بعنوان: “المبادئ الأساسية للديمقراطية وأصول الحكم الإسلامي”، راشد الغنوشي.
(3): عبد السلام الموذن، من دراسة بعنوان: “الوعي التاريخي القومي”.
(4): عبد الصمد بلكبير، نفس المحاضرة السابقة.
(5): عبد السلام الموذن، من دراسة بعنوان: “النبي محمد والدولة القومية العربية”.
إلا رسول الله
السلام عليكم ورحمة الله, نرجوا منكن ان كان ممكنا أن تغيروا نوع الخط الذي تكتبون به المقالات الى خط أكثر وضوحا -مثل خط القائمة مثلا.
جزاكم الله عنا ألف خير.
منكم*