التفكير في الوجود…
تلك المأساة التي لا يطفئ نارَها إلاّ ماءُ “الوِجْدِ”…
مِن تلمّس “الغيب” في كل شيء، في كل حدث، في كل قول، في كل شخص… إلخ؛ إلى البحث عنه بعيدا عن “الشهادة”، إلى التمرد على “الشهادة” التي “لا غيب فيها”، إلى تواري “الغيب” خلف “وهم المعرفة بالنفس”… فكانت المأساة، واشتعلت النار في تلك الأرض اليانعة بـ“الثقة الكبيرة في العالَم”. فأصبح العالَم بأسره عدوّا لذات ضعيفة لا تقوى على عداوته، وكان كل ذلك احتجاجا على “غيبٍ لم يعد مستبطَنا في الحكم على الأشياء، بل وفيها”. وما الدواء؟ إنها “العدمية”، حيث يصبح “الاحتجاج على غياب الغيب” عقلانية، بعدما كانت “رؤية الغيب في كل شيء” عقلانية العقلانيات. لا وجود إلا وجود الذات، بهواها ومطالبها ومطامحها والتذاذها. لا حقيقة إلا “الأنا”، التي يجب أن تنتصر في معركة “الصراع من أجل البقاء “وولادة “الإنسان الأقوى”. لا “غيب” إلا ما غاب عن العقل مما سيكتشفه فيما بعد، في الأرض لا في السماء، بـ“العقل من الخارج” لا بـ“العقل من الداخل”…
وبعد هذا التقرير، ينطلق العتاب: أين هو “الغيب”؟ لماذا كان ولم يعد؟ لماذا ساد وباد؟ لماذا تجاوز ليستحيل كمُونا في نهاية المطاف؟ ما “المادة” بعد أنْ كانت “مادة لله” ولم تعد؟ ما “الطبيعة” بعد أنْ كانت “ملكا لله” ولم تعد؟ كيف السبيل إلى النظر بعد أنْ كان “تدبرا في آيات الأنفس والآفاق” ولم يعد؟ كيف السبيل إلى “العمل” بعد أن كان “حركة في القدر” ولم يعد؟ ما “الدافع” بعد أن كان “صدقا لا يحتمل الكذب” ولم يعد؟ ما “الجزاء” بعد أن كان “مؤجلا إلى يوم يُبعَثون” ولم يعد؟…
هكذا يحتج “العدمي”، وهكذا يضطرب بعد أن كان سيد نفسه بـ“العقل من الداخل”. فضلّ وانتكس، مدعيا انتسابه للعقلانية (“العقل من الخارج”)، وما هي إلا مطرقة تكسر كل زجاج للعقل “من الداخل ومن الخارج” معا، لتصل إلى “ما راء العقل”. وما “ما وراء العقل”؟ “ما وراء العقل” هو لحظة السقوط المدوية، “الهوة التي ليس بعدها قرار” (عبد الوهاب المسيري)، النار التي تلتهم الأخضر واليابس، العاصفة التي لا تبقي إلا “الندبة والعويل”… هذا هو “العدمي” الذي يستفيد من أدقّ مصالحه صباحا، ليلعنها ويلعن من هيّأها مساء. يرتاح على نغمات نسف كل معيار، ويقتات على ما ينتجه “أصحاب المعايير الصلبة”. ينسف معايير الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا والنتائج المنطقية والجدل، قوانين الطبيعة وقواعد التاريخ، ولا يتوانى في أن يكون: أول من يستفيد من ضوء المصباح الكهربائي، أول من يتحاشى السمّ مخافة أن يموت، أول من يتناول الدواء إذا أصابه مرض، أول من يفكر فيما بقي له من المال إذا اقتربت منه الفاقة، أول من يبرر متناقضات فكره مدافعا عن نفسه في نقاش عابر… هذا هو “العدمي”، وتلك هي حالته المرضية، تحت أقنعة من عبارات “نيتشه، شوبنهاور، سيوران، كافكا، القصيمي… إلخ”.
“يقين بالغيب”، ثم “احتجاج على غياب الغيب”… وبعدهما “نفي للغيب ووضع للعقل وجها لوجه أمام الطبيعة والتاريخ”. فهل انتهى بذلك “التفكير في الوجود”؟ لم ينتهِ، ولن ينتهي، إلا بفرضية مفادها: عالم من ذوي الكمال في العقل والنفس والجسم والنظام… إنه “الظمأ” الذي لا يفارق صاحبَه، يطيل عمرَه العجز، وينفخ الروحَ فيه عالمٌ مليء بالمآسي.
لماذا فرِض علينا التفكير في كل هذا؟ أهو مفروض أم نحن من فرضناه؟ لا يهم ذلك، وما يهم هو أنه مفروض، ولا مخرج منه إلا بـ”جنونٍ في خلوة”، بـ“خروج من التاريخ لفترة”، بـ“يقين ليس عليه برهان عقلي”، بـ“شعيرة اختلف المقاصديون وتفنّنوا في تعليل كيفياتها”، بـ“ذلّة أنتجها عياء في التاريخ”…
فما أكثر النقد الموجّه للجنون، وما أكثر أنواعه، حتى إنها لتتخفى تحت أقنعة من العقل والنفس. كثيرون هم الناقمون على الجنون، ولكنهم لا يستطيعون العيش من دونه. ومن يفرّ من جنون مكتسَب إلى آخر في طور الاكتساب، فجأة، سيجد نفسه في “همّ عظيم”. واللبيب من صهر القديم في الجديد، بدل إخراج الجديد من “عدم”. ولا يخرج منه، بل من قديم هو “الانفلات” الذي عاش دهرا مكبَّلا بقديم آخر هو “الانقياد”…