بقلم: المختار وعدي
لقد من الله على المؤمنين، فبعث فيهم رسولا من أنفسهم، يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين، وختم به النبيئين، وتوج به المرسلين، وأرسله رحمة للعالمين، فبلغ من المكارم والمحاسن أعلاها، ومن الأخلاق والشمائل أوجها، ومن العزائم والهمم منتهاها، ومن الصبر والحلم والتحمل والفضائل أقصاها، ومن المبرات والإحسانات أسماها، ومن المكارم المعالي شأوها.
وهو صلى الله عليه وسلم قطب دائرة الأخلاق العظيمة؛ خُلقه القرآن، وهمه البر والإحسان، ودخول الناس تحت مظلة الإيمان؛ بعثه الله ليتمم مكارم الأخلاق، ويرسخ دعائم القيم الفاضلة والفضائل الشامخة، ويبني مجتمعا يتحلى بالفضيلة، وينبذ الرذيلة، وقطيعة الرحم، وأكل مال اليتيم.
يتفجر بالرحمة، ويتدفق بالشفقة، وجعل النفوس التي كانت تنزع إلى القتل وسفك الدماء، تهفو إلى السلام والأمن والأمان والحضارة والبناء، وجعل الجفاة الذين يطوفون بالبيت الحرام عراة، ويعاقرون الخمر، ويستحلون الزنا؛ ملائكة في الحياء والطهر والطهارة والعفة والاستقامة، وجعل الذين كانوا يأكلون الربا ويتقاتلون من أجل حفنة من تمر، وأتفه شيء: يوثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، وجعل الذين كانوا يظلمون المسكين، ويقطعون الطريق: حراسا للأمن والعدالة، وجعل رعاة الإبل الذين كانوا يعيشون على هامش الحياة، ويتيهون وراء الخف والحافر وفرس الشياه أبطال التاريخ، وصناع الحضارة وبناة المجد والشهامة، ورفاهية العيش، وجعل الذين كانوا أعداء متباغضين: إخوانا متحابين، والقبائل المتناحرة أمة بل خير أمة أخرجت للناس.
وصدق الله العظيم، إذ ذكرهم بنعمة الألفة والأخوة الإيمانية: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103].
نعم، فسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو الذي علمنا الصدق والأمانة وحثنا عل التزامهما فقال: “عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا“.
فيستحق صحبة الذين أنعم الله عليهم من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين، وحذر من الكذب وقال: “إياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا“، رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
وقال عمن لا أمانة له: “لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له“.
وسماه أعداؤه: الصادق الأمين، وكانوا يودِعون عنده أماناتهم، وهو صلى الله عليه وسلم الذي لم يسجل عليه ولا له التاريخ كذبة أو خلاف وعد أو نقض عهد أو خيانة أمانة؛ استمع إلى ما قاله أبو سفيان، وهو من ألد أعدائه حينذاك، عندما سأله هرقل عظيم الروم عنه صلى الله عليه وسلم: “هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا، وهل كان يغدر؟ قال: لا”.
فقد أوصى بالصدق: صدق الأقوال وصدق الأفعال، وصدق الأحوال؛ فهو عظيم في حلمه وسماحته، عظيم في كرمه وسخائه، عظيم في شجاعته، عظيم في تواضعه، عظيم في كريم عشرته، عظيم في حياته، عظيم في أدبه، عظيم في حياته، عظيم في دأبه، عظيم في رحمته ورأفته، عظيم في سائر أخلاقه صلى الله عليه وسلم.
وكيف لا يكون صاحب الخلق العظيم وقد تخلق بالقرآن العظيم، كما ورد عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: “كان خلقه القرآن، يغضب لغضبه، ويرضى لرضاه”، رواه مسلم وأبو داود.
وروى ابن أبي شيبة عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: “كان أحسن الناس خلقا كان خلقه القرآن يرضى لرضاه ويغضب لغضبه، لم يكن فاحشا ولا متفحشا ولا صخابا في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح”.
ثم قالت: اقرأ: [قد أفلح المؤمنون…] إلى العشر الآيات، فقرأ السائل.
فقالت: هكذا كان خلقه صلى الله عليه وسلم”.
وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: “ما كان أحد أحسن خلقا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ما دعاه أحد من أصحابه ولا من أهل بيته إلا قال: “لبيك“.
فلذلك أنزل الله عز وجل: [وإنك لخلق عظيم]، رواه ابن مروديه وأبو نعيم بسند ضعيف.
وعن عمر رضي الله عنه أن رجلا نادى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثا، كل ذلك يرد عليه: “لبيك لبيك“.
قال في مجمع الزوائد: رواه أبو يعلى في الكبير.
وروى البخاري عن أنس رضي الله عنه أنه قال: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجها وأحسنهم خلقا”.
فهو صلى الله عليه وسلم أجمل خلق الله عز وجل خلقا، وأكملهم خلقا، بل هو فياض المكارم والكمالات على العالم؛ ففي مسند الإمام أحمد وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: “بعثت لأتمم مكارم الأخلاق“.
قال الإمام أبو القاسم الجنيد: “وإنما كان خلقه لأنه لم يكن له صلى الله عليه وسلم همة سوى الله، فقد جمع صلى الله عليه وسلم مكارم الأخلاق التي جاءت بها الأنبياء قبله، وجاء بها كلها وزادهم كمالا على كمال، وجمالا فوق جمال”.
ولقد أثنى الله عز وجل على حبيبه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بعظيم خلقه، وكمال أدبه وفضله في التوراة والإنجيل وسائر الكتب الإلهية، كما أثنى عليه ومدحه بعظيم خلقه، وكمال أدبه وفضله في القرآن؛ روى البخاري عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، في التوراة فقال: “أجل إنه صلى الله عليه وسلم لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: “يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا”، وحرزا للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب بالأسواق ولا يدفع السيئة ولكن يعفو ويغفر ولن يقبضه الله عز وجل حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله، ويفتح به أعينا عمياء وآذانا وقلوبا غلفا”.
المصدر:
مجلة التذكرة / العدد .. (ص: 111-113).
مع اختصار وتصرف يسير