بقلم: أحمد بصري
كثير من الناس يظنون أن مفهوم الأمانة في الشرع الإسلامي يتجلى في حفظ ودائع الناس من الضياع والتلف؛ فمن اتصف بذلك فهو أمين متخلق بخلق الأمانة.
وهذا فهم خاطئ؛ فليس مدلولها منحصرا في ذلك؛ بل مدلولها في المفهوم الإسلامي أوسع من هذا؛ فهي تشمل جميع الأشياء عبادة كانت أو معاملة بينك وبين غيرك.
فالإيمان بأن لك ربا خالقا يرعاك ويدبر أمورك، وتعهُدُك لهذا الإيمان بما يقويه وينميه في نفسك هو أمانة لله في عنقك.
والتكاليف الشرعية التي كلفت بها من صلاة وزكاة وصوم وحج وجهاد وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر وما شاكل ذلك هي بدورها أمانة لله في عنقك.
وجوارحك التي أعطاها لك من عين تبصر بها وأنف تشم به وأذن تسمع بها ولسان تتكلم به ويد تبطش بها ورجل تمشي بها؛ أمانة الله في عنقك؛ مطالب بصرفها فيما أمرت أن تصرفها فيه وإلا تفعل كنت خائنا لأمانة الله التي استودعها عندك.
وعمل الإنسان الذي يعمله من تجارة أو فلاحة أو صناعة أو وظيفة؛ أمانة في عنق الإنسان؛ يجب عليه أن يؤدّيه كاملا غير منقوص، وإلا كان غادرا يدخل تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم: “إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يرفع لكل غادر لواء يعرف به فيقال هذه غدرة فلان“.
ووضع الشيء في المكان اللائق به والأجدر هو بدوره أمانة، فوضع الأشياء في محلها وإسناد المناصب لذوي المقدرة والكفاءة هو من باب الأمانة؛ فلقد أخرج الإمام مسلم عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله ألا تستعملني؟
قال: فضرب بيده على منكبي ثم قال: “يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها“.
وحفظ حقوق المجالس من مؤتمرات وتجمعات هو أمانة في عنق الإنسان؛ فلا تفش أسرارها وأخبارها إلا إذا كان المجلس قد قرر فيه إراقة دم ظلما وعدوانا أو قرر فيه أخذ مال الغير بغير حق أو قرر فيه انتهاك عرض من الأعراض؛ فهذه المجالس الثلاثة لا حرمة لها بل يتعين إفشاء ما راج فيها للمسؤولين حتى يتخذوا ما يروه صالحا وحتى ينقطع دابر المفسدين الذين يعيثون فسادا، لأن الله لا يحب المفسدين.
مصداقية هذا: الحديث الذي أخرجه أبو داوود والترمذي عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “المجالس بالأمانة إلا ثلاثة مجالس: مجلس سفك دم حرام أو فرج حرام أو اقتطاع مال بغير حق“.
ومما يدخل في الأمانة ويتأكد حفظه ما يدور بين الرجل وزوجته في خلوتهما؛ فيجب ألا يطلع عليه أي أحد مهما قرب أو بعد؛ وذلك لأن للعلاقات الزوجية قدسية يجب أن تصان وتحفظ، فالذي يفشي ما يكون بينه وبين زوجه هو إلى الشيطان أقرب منه إلى الإنسان؛ فقد روى الإمام أحمد عن أسماء بنت يزيد أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والنساء قعود عنده فقال: “لعل رجلا يقول ما فعل بأهله ولعل امرأة تخبر بما فعلته مع زوجها“؟
فأرم القوم يعني – سكتوا وجلين – فقلت: “أي والله يا رسول الله إنهم ليفعلون وإنهن ليفعلن”.
قال: “فلا تفعلوا؛ فإنما مثل ذلك مثل شيطان لقي شيطانة فغشيها والناس ينظرون“.
هذه قارئي العزيز بعض مجالات الأمانة وصورها؛ فصحح مفهومك في ذلك الخُلُق الكريم الذي حلى الله به ملائكته الأطهار ورسله الأبرار وعباده الأخيار؛ فهو منبع الثقة ومصدر الوفاء وأساس كل تقدم ورقي.
لا يستغني عن الأمانة الفرد في معترك الحياة، كما لا تستغني عنها الأمة التي تريد أن ترسي قواعدها على دعائم راسخة لا تؤثر فيها الأحداث والأعاصير.
فلعظم حملها وثقل مسؤوليتها؛ عجزت السماوات والأرضون والجبال عن حملها؛ ولكن الإنسان الجهول حملها؛ على التواب إن أداها، وعلى العقاب إن فرط فيها؛ كما قال ربنا: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72].
فما أجدرك يا مسلم من صون ما تحملته وحفظ ما استرعيته فبقدر ما يكون الإنسان أمينا بقدر ما يكون محبوبا عند الله وعند الناس وبقدر تقصيره في الأمانة يكون خائنا لله ولدينه ولوطنه، وصدق الله العظيم إذ يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 27، 28]