الأخلاق القرآنية في متن العلاّمة دراز وسياقه التاريخي
الجزء الأول: من سيرة العلامة دراز
بقلم: محمد زاوي
1-تصميم الدراسة
لقد قررنا أن نتناول هذه الدراسة من خلال التصميم التالي:
– من سيرة العلامة دراز.
– من فكره.
– عرض نظريته في أخلاق القرآن.
– تفصيل نظريته.
والمحور الأول من هذا التصميم، هو ما سنقف عنده في هذه المقالة الأولى.
2-في تسديد كتابة السيرة
تتعدد طرائق عرض السير والتراجم، فمنها:
– عرضٌ كرونولوجي: تعرَض فيه الأحداث والمواقف المهمة من حياة المترجَم له، دون تدخل المترجِم إلاّ بالتمييز بين ما يستحق الذكر وما لا يستحقه.
– عرض تاريخي: تعرَض فيه تلك الأحداث والمواقف وفق الشرط التاريخي الذي تفاعل معه العَلَم المترجَم له.
– عرض إيديولوجي: تعرَض فيه تلك الأحداث والمواقف بعد تدخل: قد يكون صائبا باستدعاء سيرة المترجَم له خدمة للطرف التقدمي في شرط تاريخي جديد، وبعد استيعاب لتلك السيرة في شرطها الأصل. وقد يكون غير صائب باستدعائها خدمة للطرف الرجعي في الشرط الجديد، ودون استيعاب لها في شرطها الأصل.
إن أغلب الذين كتبوا عن العلامة محمد عبد الله دراز قد مزجوا، في تناولهم لسيرته، بين عرضين: العرض الكرونولوجي،والعرض الإيديولوجي الرجعي. وهذا هو ديدن العديد من الباحثين[1] الذين يجعلون من سير الأعلام، بل ومن أحداث التاريخ، عرضة لأهوائهم ووعيهم الزائف وأوهامهم الخاصة. وعوض أن تُدْرَس سيرة العَلَم -الزعيم أو العالم أو المؤسس-ومناقبه في شرطه التاريخي، وعوض أن يكون نتاجا لحركة التاريخ منتجا لها في حدود قواعد التاريخ؛ عوض أن يتحقق ذلك، يصبح العَلَم سيّد التاريخ، غير خاضع لضرورته، ناطقا بلسان صاحب الإيديولوجيا الرجعية.
كذلك ضاعت وطنية محمد عبد الله دراز في حمأة الاستدعاء الإيديولوجي الرجعي، فتم تهميش وعيه بالاستعمار بقربه من المغاربة ذهنية وصحبة، كما تم تصوير موقفه السياسي على النقيض من ثورة “الضباط الأحرار” في مصر، أضف إلى ذلك حصر معركته ضد الاستشراق في حدودها الفكرية والعلمية… إلخ. “النفس الأبية، والفكر التركيبي، عشق القرآن، المنهج الوسطي، التجديد والريادة (في علمين: علم أخلاق القرآن، علم مصدر القرآن)… إلخ”[2]. هكذا يفضل محمد بن المختار الشنقيطي تناول سيرة محمد عبد الله دراز، في كتابيه “خيرة العقول المسلمة في القرن العشرين” و”فيلسوف القرآن الكريم/ محمد عبد الله دراز: حياته وآثاره”، مع بعض تفصيلٍ في هذا الأخير. هكذا أهمل الشنقيطي شرط الاستعمار في سيرة العلامة دراز، إلا ما ذكِر عرَضا. وهكذا استدعاه لشرط لا يعيه، فكان استدعاؤه إياه لا يجيب عن إشكالياتنا التاريخية الراهنة إلا فيما ندر. فحيث نحن في حاجة إلى فكر المقاومة، أطل علينا الشنقيطي بتهميش عامل الاستعمار في سيرة العلامة دراز. وحيث نحن في حاجة إلى المنطق الجدلي، أبى هو إلا أن يذكرنا بتجليات المنطق الأرسطي في مشروعه. وحيث نحن في حاجة إلى فهم الحركة الاستشراقية بالبحث عن دوافعها السياسية والاقتصادية، فضل هو إظهارها كفرقة عقدية معادية للإسلام في ذاته. وحيث كانت الجدية والصلابة قيمتين مطلوبتين لعصر السيولة والانحطاط القيمي، لم يقف الشنقيطي عند “النفسية الأبية” للعلامة دراز إلا قليلا… إلخ.
3-شرط العلامة محمد عبد الله دراز
الشرط التاريخي للعلامة محمد عبد الله دراز هو شرط الاستعمار العسكري للوطن العربي، وإنه عند رفضه لمنصب شيخ الأزهر، وكذا عند رفضه التوقيع على عريضة تدين “جماعة الإخوان المسلمين”، لم يكن بالضرورة ضد سياسة “الضباط الأحرار” التحريرية والاستقلالية الوطنية. لم يكن الأمر كذلك، كما أراد أن يصور كثيرون، منهم محمد بن المختار الشنقيطي. ما ثبت عنه هو المذكور، وفي مواقف منحسرة، في حين لم يثبت عنه ما أراد بعضهم إلصاقه بسيرته باستغلال مساحاتها الفارغة.
لقد كان الاستعمار شرطا للعلامة دراز:
أولا:قبل بعثته إلى فرنسا وبعدها، وفي فرنسا حيث مكثها وقلبه متعلق بوطنه مصر.
يقول نجله محسن دراز: “كان يشارك على رأس فريق من المتعلمين المتحمسين بنشاط ملحوظ في الحركات الرافضة للاحتلال الإنجليزي لمصر… فكان يطوف بالسفارات كاتبا وأحيانا خطيبا بالفرنسية (مما يعدّ شكلا من أشكل المقاومة) للمطالبة بجلاء قوات الاحتلال، ولتعزيز تطلع مصر الفتية إلى الاستقلال بزعامة سعد زغلول”[3]. وقد كان هذا قبل بعثته إلى فرنسا، وبالضبط: ما بين 1918 م و1919 م.
ويقول أيضا: “ولما عاد إلى مصر –وردا على العنف الذي استخدمته القوات البريطانية بمنطقة قناة السويس-حرض على تكوين الطلائع الأولى للمقاتلين المتطوعين من طلبة ومدرسي الأزهر الشريف”.[4]
وثانيا: طيلة مكوثه بفرنسا، في علاقته بحركات التحرر الوطني (فلسطينية، ومغربية، وجزائرية)، ومن خلال دفاعه عن حقوق المصريين هناك.
يقول محسن دراز: “ويتبقى أن نلقي بعض الضوء على مواقفه (محمد دراز) السياسية. فبالرغم من أنه لم ينتم إلى أي حزب سياسي، إلا أنه ساند في عام 1916 حركة سعد زغلول الوطنية. وعندما كان مقيما بفرنسا، أيد علانية حركات تحرير الدول العربية (فلسطين والجزائر والمغرب) وخالط ممثلي هذه الحركات في المنفى”.[5]
ويقول أيضا: “والذين كانوا كثيرا ما يحثون الخطى إلى منزله، يتذكرون الجرأة التي تجلت منه في فترة الحرب. فمثلا في عام 1940، اعتقل عدد كبير من الطلبة المصريين، بأمر من الحاكم العسكري (…) الذي كان ربما يرى فيهم رعايا بريطانيين مشكوك فيهم. وكان المكتب المصري الذي يتبعه هؤلاء –قد بدأ يفقد الأمل بعد عدة محاولات للتوسط. لكن محمد دراز ذهب إلى المفوضية وأصر ونجح في أن يقابل المسؤول في الشرطة الألمانية مرات متكررة. وأسبوعا بعد أسبوع –ومجازفة بأن يلفت الأنظار إليه ويزعج السلطات-كانوا يسمحون له بالدخول وينصتون إلى محاوراته. ولم يتوانَ في المطالبة بالإفراج عن جميع المصريين المعتقلين، حتى تحقق له ذلك بعد مفاوضات طويلة”.[6]
وثالثا: بعد استقلال مصر، بنصيحته للملك فاروق مخافة الفتنة وتفكك الدولة المصرية.
ضعفت رمزية الملك فاروق في مراحله الأخيرة (عام 1952)، وهان أمره على الناس، فهبّ محمد عبد الله دراز إليه ناصحا ومقدّما بين يديه مذكرة ينبهه فيها على أخطائه ويلتمس منه التحرك لإنقاذ ما بقي من وجه الملكية في مصر. ولم تكن مذكرة العلامة دراز لتؤتي أكلها بعد فوات الأمان، فاستغل “الضباط الأحرار” ضعف الإدارة وقادوا انقلابا على الملكية ليلة 23 إلى 24 يوليوز 1952، مسانَدين في ذلك من قبلأغلبية الشعب وبعض الحركات الاجتماعية المدنية (على رأسها: جماعة الإخوان المسلمين).
هذا ولم تكن علاقة العلامة دراز بحركة “الضباط الأحرار” متوترة كما أخذ يروج البعض، بالرغم من رفضه منصب “شيخ الأزهر”، وكذا رفضه التوقيع على عريضة تدين جماعة “الإخوان”. وإن القرائن على ذلك لعديدة:
– لم تثبت عنه معارضة علنية لسياسات “الضباط الأحرار”، غير رفضه لما سلف.
– ليس “الضباط الأحرار” أغبياء ليمنحوا منصبا حساسا لرجل يناوئهم منذ البداية.
– اعتذار رئيس مجلس الثورة (محمد نجيب) عن وشاية في حقه، بحضوره وأعضاء “المجلس”.[7]
4-كرونولوجيا مختصَرة
1849 م: الميلاد في محلة دياي، بمحافظة كفر الشيخ، مصر.
1912 م: الحصول على الشهادة الثانوية الأزهرية.
1916 م: الحصول على شهادة العالِمية من الأزهر الشريف، والتعيين للتدريس في المعهد الأزهري بالإسكندرية، وتعلّم الفرنسية والنضال والوطني بالموازاة مع ذلك.
1928 م: الاختيار للتدريس في القسم العربي للأزهر الشريف.
1936 م: البعثة إلى باريس لإكمال الدراسة بجامعة السوربون، حيث أعد أطروحته في “أخلاق القرآن الكريم” وعمق دراسته في القرآن الكريم وفلسفة الأديان.
1948 م: وبعد حصوله على الدكتوراه من جامعة السوربون، عاد إلى مصر للتدريس في:
– جامعة فؤاد الأول: حيث كان يدرس تاريخ الأديان، ما كان بمثابة مقدمة لكتابه “الدين”.
– دار العلوم: حيث كان يدرس التفسير، الأمر الذي هيأه لكتابة كتابيه “النبأ العظيم” و”مدخل إلى القرآن الكريم”.
– كلية اللغة العربية: حيث كان يدرس فلسفة الأخلاق، وحيث شرح نظريته في فلسفة الأخلاق في القرآن الكريم.
1949 م: تعيينه عضوا في جماعة كبار العلماء بالأزهر.
1958 م: وفاته –رحمه الله تعالى-خلال أشغال المؤتمر الإسلامي بلاهور (باكستان)، بعد أن كان قد ألقى كلمته “موقف الإسلام من الأديان الأخرى”.[8]
وقد عاش العلاّمة دراز سليم الفكر والنفس والجسم. فسلامة الفكر من العلم والجدية في الطلب، وهو من فتح عينيه في الكتاب على القرآن، وكابد قساوة ظروف الرحلة في العلم، وأنهى حياته محاضرا بين علماء المسلمين. وسلامة النفس من قراءة القرآن وتدبره والاستشفاء بمعانيه ومثله الخالدة، حتى أنه “ثابر على قراءة ستة أجزاء من القرآن كل يوم دون كلل أو ملل. وكان معظما للقرآن، يسجد سجود التلاوة أثناء محاضراته في التفسير، ويطلب من طلابه التوضؤ قبل بداية المحاضرة استعدادا لذلك”[9]. وسلامة الجسم من ممارسة الرياضة، وهو من لعب في صغره التنس ومارس السباحة وركب الخيل، وداوم على المشي في آخر عمره بعد كل صلاة الفجر، كما يحكي عنه نجله في السيرة التي خصه بها، والتي اعتمدناها في هذه الدراسة.
1-من هؤلاء، نذكر: علي محمد الصلابي، عبد المجيد النجار. وهذان، بالرغم ممّا يبذلانه من مجهود في جمع الرواية وتلخيصها وتقريب البعيد عن القارئ منها، فإنهما يعرضان الأحداث والسير والمواقف دون تفسيرها في شروطها التاريخية، وباستدعائها في سياقات رجعية أحيانا. نفس الخطأ سقط فيه يوسف القرضاوي وهو يحكي عن نفسه في “ابن القرية والكتاب”، إذ بالرغم مما قد نستفيده من معطيات هذه سيرته الذاتية، إلا أنها لا تنتظم إلا وفق تصوره لذاته، وهو ما لا يغني عن المطلوب: تصور مواقفه وفعله وسيرته في شرطه التاريخي، ومن ثم يكون الحكم عليها تاريخيا لا ذاتيا.
2-محمد بن المختار الشنقيطي، خيرة العقول المسلمة في القرن العشرين، فصل: محمد عبد الله دراز عاشق القرآن، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة الأولى، 2016، من ص 21 إلى ص 30.
3-محسن دراز، مؤلف جماعي بعنوان: “محمد عبد الله دراز: دراسات وبحوث بأقلام تلامذته ومعاصريه”، جمعه أحمد مصطفى فضلية، دراسة بعنوان: “السيرة الذاتية”، دار القلم، الطبعة الأولى، 2007، ص 14.
8-محسن دراز، نفس المرجع السابق، ص 13-14-17. محمد عامر الحاجي، مقال بعنوان: “ومضات من حياة الراحل محمد عبد الله دراز”، من تقديم كتاب “حقيقة الوحي” للعلامة محمد عبد الله دراز، جمع وإخراج هيثم حافظ، دار الحافظ، الطبعة الأولى، 1999-2000، من ص 13 إلى ص 16.