إِلَّا مَن رَّحِم
أنت فى خُسرانٍ مبين حتى تكتنفك رحمة الله
هكذا هو الطريق إلى الله لا غير، النجاة فيما دون رحمته هو عين الهلاك ولو كان جهادك كجهاد أولي العزم ولن تكون كذلك
تمعن هنا جيدا .. لا يدخل الجنة أحد بعمله، الأمر كله يعود إلى استحقاقك لرحمته ونيل رضاه -عز وجلّ-
{أَهَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ۚ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} [الأعراف : 49]
وكذلك لا يخفى عليك أنه تعالى ربنا عزيزٌ حكيم فلا يُعطي إلا لمن يستحق:
{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} [الجاثية : 30]
وآخذك معي إلى كلماتٍ إن سِرت بها سارت هي بك إلى عين اليقين ولب الإيمان وأجمعت عليك شتات ظنّك:
في صحيح البخاري، عن أبي هريرة، قال الرسول عليه الصّلاة والسّلام: (لن يُدخل أحداً عملُه الجنة قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال لا، ولا أنا، إلا أن يتغمّدني الله بفضل ورحمة، فسددوا وقاربوا، ولا يتمنينّ أحدُكم الموت، إما محسناً فلعله أن يزداد خيراً، وإما مسيئاً فلعله أن يستعتب)
أنظر هنا….
{فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا..} [الأعراف : 72]
نبي الله هود وعمله ورسالته وتبليغه ومجاهدته وصبره كله منوط في نهاية الأمر لأن ينجو فقط برحمة من الله
برحمةٍ منّا ….النجاة غير منوطة بحسن العمل فقط
{الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف : 104]
وكذلك الهلاك لا يُقتصر على سيئات المسير {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ ۚ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر : 9]
نحنُ أقل من أن نُدرك مُطلق حقيقة سيرنا، وأجهل من أن نحكم على صِدق صُنعنا
ستجد الوضوح هنا في {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر : 99]
إلى متى تنتهي من عبادته ؟! فتصل إلى مجمل يقينك الكامل، هنا لا أنفي وصولك ولكن في بعض الوصول بداية الهجرة، ستصل ولكن ليس كل الوصول وسترى شواهد هذا اليقين مما يُعينك على مداومة الجهاد فيه وزيادة الإخلاص بازدياد الشك في وصولك والاتهام لنفسك …درجة ترفعك إلى أخرى
وإلاّ فما كان ظنُّ الصحابة-رضوان الله عليهم جميعًا- عندما صرّح لهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- قولاً صريحًا فقال: (((أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، و…)) إلى آخر الحديث -عن عبد الرحمن بن عوف – فيما رواه الترمذى وأحمد
بالله عليك كيف داوموا إحسانا على إحسانِهم، وارتقوا فوق وصولهم ،وبكوا واتهموا أنفسهم على تقصيرهم!!! ولعمري أيُ تقصيرٍ هذا ؟!!
الله يُعبدُ هكذا ….فقط لأنه أحق أنْ يُعبد، الحب يحملنا إلى الله، الفطرة تجرنا إلى الله، السلام يدلنا إلى الله، الرحمة تقرّبنا إلى الله، كل شيء يُخبرنا أنّ الله هنا لا غير، كل الطرق تنادي باسمه، وبين كل ذلك وذاك كان العمل والعبادة وسيلتنا إلى الله.
منزلة تعلو منزلة، ولا نتوقف أبدا في سيرنا إلى الله
ولكنّ العلاقة بين العبد وربه وعمله أدق وأبسط في رحابة محدودة بإطار استحقاقك لنيل رحمته وكسب رضاه
{فما ظنّكم برب العالمين}؟!
هنا نصل إلى أن العلاقة قائمة على نبعٍ -قائمٍ بذاته- وصفته، والنبع أراه هنا:
{إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء : 89]
{إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات : 84]
{…وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ} [ق : 33]
{….لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ.…} [ق : 37]
تلك المُضغة التي تُخبئها في عميق بواطنك والتي تحمل في طيّات نبضاتها المنسوجة صلاح تلك البواطن، وما تزال تنبض، تهتز ،تثور، تقاوم قالبك الذي خبّئها إلى يساره بفعل طينتك، فتجرك نحو يمين الله، إنه قلبك وحسب
والصفة أجدها هنا:
{مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ …} [الأحزاب : 23]
الصدق والصدق والصدق لآخر نبضاتك هنا على عتبة القلب
فهذا هو السبيل لا غير، فالقلب يحمل في طيّاته روحَ المسير، وحقيقة أعمارنا تكمن في صدقِ سيرنا هذا.
الطريق إلى الله لا يُقاس بأرقام العبادات، وكذلك السير إليه لا يُختص بطول الطاعات، صديقي أقولها لك “الطريق” و”السير” فالطريق على المُطلق لا يمكن حصر قياسه ما دُمت تحافظ على السير فيه، فيكفيك فقط أن تسير وتسير وتسير إلى أن تلتقطك رحمة الله فتصل هي بك.
وإلاّ كيف تكون الجنة عاقبة سحرة فرعون عندما آمنوا وسجدوا لله سجدة واحدة وقُتلوا ..!! ..ولأن الله اختصهم برحمته؛ بما استحقوا هذا الاختصاص، فقد نجوا لأنهم فقط صدقوا في لحظة إيمان بقلوبهم مع الله، صدق لحظةٍ أغناهم عن كفر العمر كله، ولو أنّ لهم بقيةٌ من العمر بعدها لاستكملت قلوبهم الصادقة هذه سيرها إلى الله تنتظر قدر الله فيها، ولكنه في النهاية هو قدر الله يحضرنا، ويغيب عنّا عِلمه.
وأنا أؤمن بالقدر الكبير بقصة الرجل الذي قتل مائة نفس وتقبّل اللّٰه توبته في آخر نفس له ولكن لذلك وجهان :
1-تظل غارقاً في بحر غرورك بكرم اللّٰه فلا يمُن عليك بتوبة قبل موتك ..لأنه لا يختبئ عليه ما تُكِنّه وتخفيه نفسك.
2-تظل تتناقلك وتُبعثرك المعاصي والغفلات حتى يرى فيك اللّٰه صدق العزم فيما ذكرناه سابقا بأن تحفظ قلبك بما تحمله من صدق بالقدر الكافي الذي لا يُطفئ نور الله داخلك، فيمن عليك بتوبة ولو في آخر لحظة في الحياة …أيضا لأنّه لا يختبئ عليه ما تكنه وتُخفيه نفسك.
وإلّا ما ذُكرت هذه الصيغة العجيبة في القرآن سبعا من المرّات بما يحمله هذا الرقم من إعجاز كأنه جاء لمداورة كوننا هذا في حِكمٍ قرآنية يسير عليها الناس جميعا فقال الله تعالى فيها:
{….لَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ …}
والله ما كنّا …..لولا فضل الله ورحمته
ولا عجب من النفس بفطرتها السليمة -إن لم تُكبلها بهواها- أن تميل وتنوب وتؤوب عائدة إلى خالقها لا تكاد ترجوا من دنياها شيئا إلا رحمته، فقط أن تشملها رحمة ربّها فتدرك أن ما دونها دون؛ لأننا هكذا فُطرنا وهُيّئنا تهيئة ربّانية، على ذلك جُبلنا في نقاءٍ لطينتنا الآدمية منذ بِدء الخليقة، وكأنّ في مِشكاة رجائنا لرحمته سرٌ أزلي نتحسس به النور الذي نُفخ في أبينا آدم على طول امتداد أرواحنا، نستمد منه المدد ما يجعل من الحقيقة الإلٰهية امتدادا لأعمارنا، نعود لما كنّا عليه فنستحضر نورانيتنا الطاهرة المُستمدة مِن نور الله، فنسير عليه إلى يوم أن تقوم الساعة كما سار عليه نبي الله آدم عندما زلّ فعصى فغوى فعاد وأناب وتاب وقال {…رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف : 23]
ما أريدُ من حديثي هذا سوى قولي: أنّ الله لا يُعبدُ إلّا بالقلوب، ولا يُعرفُ سوى بالحب[1]، وفي وحدانيته يمتد الحب المُطلق، وإليه تنتهي كل الآمال، وبين رحمته تنغمسُ كل الغايات، وعلى أعتاب عفوه تذوب كل الرجاءات، وأنّ إلى ربك المُنتهى، فأيّما كانت الذنوب، هنا تتنزل رحمته، هنا يتجلّى عفوه، تتراءى كل الطُرقات، فقط تلمّس ،اركض، سارع، جاهد تجدها تجاهك، أقتلت مائة نفس أم كفرت طول عمرك أم لك إلٰهٌ ترجو غيره!!! أكبر ما يصل إليه منتهى أملك لا يكون لديه إلا عين الفناء، أركض بقلبك ركوض أيّوب إذْ نادى ربّه “ربّ إني مسّني الضُّر وأنت أرحمُ الرٰحمين” ،وانأ بيقينك كإبراهيم فى ضمةٍ عنِ الدنيا يردد “عِلمه بحالى يُغنينى عن سؤالى” ،وعِش كالحبيب مع الله ولا تُبالي في أشد مصائبه يقول: “ربِّ إن لّم يكن بك غضبٌ علىّ فلا أُبالي”.
وربما إن هذا الحديث المطوّل كله يؤول نحو فهمي وادراكي لمعنى الآية الكريمة:
{…… وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ (41) إِلَّا مَن رَّحِمَ اللَّهُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42)} [الدخان : 41-42]
[1] إطلاقان للمبالغة في التأكيد على المعنى.