إن الْإِنْسَان وَلِيد الحُلُم …
بقلم: يسرى والشاف
ماستر في أصول الدين والدراسات الشرعية
بالغرب الإسلامي
نولد من بطون أمهاتنا ولا نعلم تفاصيل الحياة التي سنعيش فيها، ولا حتى ماهيتها أو حقيقتها لنحتاط من أي فعل يعود علينا بالأسى والحزن، ومع مرورنا في شوارعها واكتشافنا لأماكنها وطبيعتها المتغيرة في كل يوم، وسرعتنا للحاق بحافلة المدرسة حتى لا نفوت دروسا يفترض أنها تعلمنا عن الحياة، حتى نكتشف أن الحياة حُلُم…
أثناء سيرك في هذه الحياة فأنت تغدوا مفكرا فيما إذا كنت تود الموت وقد تركت للأجيال القادمة تساؤلاتك وتأملاتك حولها، وقد أعياك العمر كله بحثا عنها؛ إذ جعلت من الكتاب صديقا يحدثك عن شخصيات قد فارقت الحياة وهي مشغولة بتفسير ماهية الحياة، ولماذا نحن هنا؟
وكأن الحياة مجهول يُفسر …
لقد كنت ترى في والدك نعمة عظيمة حيث رباك على جنة لم يلجها الكثيرون وهم يخالون أنهم في متع الدنيا يستمتعون… لم تعرف للراحة بالا وأنت تطلب المعالي وتسهر الليالي في بلوغ مرام كل فن من فنون الحياة…
إنني أتحدث هنا عن إنسان دخل هذه الدنيا وخرج منها إنسانا آخر، هذا الشخص الذي جعل من الحلم ولادته؛ الحلم الذي يجعل الإنسان يكافح في الدراسة والاجتهاد من أجل أن يبلغه.
ذلك الحلم هو ما صنع ابن العربي المعافري.
ابن العربي وحياة الطفولة:
في ديار الأندلس العريقة حيث مجد المسلمين حينها، تتخللها عواصم عتيقة، كانت إشبيلية موطن ابن العربي المعافري؛ إذ كان يسكن والده عبد الله ابن العربي العالم الفقيه في منازلها وكان بيته يعد من كبار البيوت في العاصمة، وفي يوم الخميس الثاني والعشرون من شعبان سنة أربعمائة وثمانية وستون للهجرة خرج ابن العربي المعافري إلى هذه الدنيا، أصوات السعادة والفرح تعزف من حوله وهو يعلن خروجه بصرخاته المتكررة وكأن دخول الإنسان إلى الحياة صرخة فرحة وخروجه منها شهقة ألم…
وما إن بلغ سن الفهم حتى حرص والده على رعايته في كنف المعرفة والعلم، وهكذا شب على حب الكتب والمعرفة، إضافة إلى توكيل والده أساتذة يعلمونه تلاوة القرآن بأوتاره السبعة، والعربية بجمالها ونقش حروفها، والرياضيات بمسائلها وأرقامها.فتمكن من حفظ القرآن وهو ابن تسع سنوات، وأتقن القراءات العشر وهو ابن السادسة عشر، وجمع فنون العربية، وراح يترنم بالشعر والأدب…
حينما يصبح السفر كمالا:
كعادة ابن العربي وهو مع أساتذته يتعلم من الفنون ما شاء الله له؛ إذ دخل عليه والده يتفقد ما وصل إليه من تمكن المعارف فطمأنه أحد الأساتذة أن ابنه يبلي بلاء حسنا وأنه من الذكاء والفطنة ما هو غريب في سنه… في تلك اللحظات إذ بأحد السماسرة يحمل رزمة بها كتب نفيسة ككتاب السمناني والباجي يدخل حلقة الدرس ويعلن عن كنزه الذي يحمله، فسأله سائل من الجمع: من أين أتت هذه الكتب؟
فرد عليه السمسار: هذه كتب عظيمة، وعلوم جليلة، جلبها الباجي من الشرق.
هنا خفق قلب ابن العربي وبدت عليه ملامح الغبن والغيظ لتمكن غيره من جولان المشرق بغية التعلم والمعرفة، وتحصيل الكمال بجمع علوم الشرق والغرب، هنالك أخذ يتمتم بين نفسه قائلا: إذا ما تيسير لي السفر واكتملت لي عدته لأسافرن إلى الشرق ولأجلسن إلى كبار علمائها أطلب العلم وأتزود من منابع العلوم والفنون…
وما إن جاء اليوم الموعود حتى أضحت الابتسامة تلازمه والأمل يعاهده، كان ذلك اليوم هو الأحد من مستهل ربيع الأول سنة أربعمائة وخمسة وثمانين للهجرة، حيث خرج منها مع والده متوجسا نظرا لما آل إليه الحال في إشبيلية متوجها نحو مالقة ومنها إلى غرناطة، ثم مرية التي التقى فيها بثلاث من كبار علمائها منهم أبا مطرف عبد الرحمان الشعبي أخذ منه ضروبا من العلم، ثم ما لبث أن تابع المسير إلى بجاية وقد نزلا فيه في فندق خان سلطان للاستراحة والراحة، وهذا هو يكون آخر مكان يربطهما ببلاد الأم الأندلس …
كانت الرحلة متعبة للغاية لكن الحلم الذي يراوده والشوق الذي ينتاب إلى تحقيقه خفف عنه وحشة الطريق وبعد الأهل والأصحاب وغرابة البلاد وأصحابها… في بجاية راح يبحث عن علماء يعلمونه فنون العلم، فأرشده أصحاب المدينة إلى جملة منهم فالتقى بأبي عبد الله بن عمار الميروقي وهو يعد من كبار المشيخة هناك، وكذلك التقى فيها بالقاسم بن الرحمان الذي رحب بهما وبالغ في إكرامهما، وقد تعلم منه ابن العربي العربية وفنون الأدب؛ وكان يذاكر معه الليالي فتارة يصحح له أخطائه في مسائل النحو وتارة يُقرؤه الحديث النبوي ويفسر غريبه…
ثم شدا الرحال برا يجوبون الطرقات مرورا بمختلف البلدان وأشكال من العمران وأنواع من الثقافات واللهجات … ورغم العطش وشدة التعب ومخاطر الطرقات لم ييأسا قط للوصول إلى المشرق.
كان سفرهما تارة برا وتارة بحرا تتخلله بعض فترات الراحة إلى أن وصلا أخيرا إلى عنابة التي لقي فيها بأعمدة شيوخها، ومن ثم إلى تونس الخضراء، وسوسة الأصيلة ومهدية العالمة؛ فلقي فيها فقهاء القيروان وسمع عليهم القراءة والأدب وعلم الكلام، هنالك بدأ قلبه بالانتعاش ثانية وبدا له أن تعب الشهور الفائتة تعب مبرور إذا كانت هذه بداية الثمرة…
من هؤلاء اللذين سمع عليهم في مهدية؛ أبو عبد الله المازري وأبو الحسن ابن حداد الخولاني وغيرهما من علمائها… ثم لما قضى تحصيله هناك ركب البحر على ظهر سفينة متجهة إلى الحجاز، كان الجو حينها قاسيا مما جعلها رحلة عصيبة عليهما إذ كان وصولهما إلى مصر بمثابة خروج ميت من القبر من هول ما رأياه في رحلتهما…
لقد كانت رحلة تتشبع بالأمل في ضوء المخاطر والجوع والعطش؛ فالحلم يدفع الإنسان إلى أن يغامر بكل شيء لقاء بلوغه، وهو ما كان يقوي ابن العربي على المسير وعدم الوقوف قصد الاستسلام، وعند بلوغه مصر وما أدراك ما مصر، أصبح الأمر يسيرا بعدما كان عسيرا… وهو يتجول في شوارع القاهرة وجمال عمرانها لاحظ غياب علمائها وخفائهم عن ألسنة الناس وكأنهم في سراب خفي لا يُرى إلا لمن يريد أن يظهر ما غطته السياسة وأخفته عن أعين الناس لكونه مخالفا لنهج الساسة الفاطمية…
من المؤسف أن رحلته بغية الكمال قد وثقت إلى هذه النقطة رغم أنها استمرت إلى مدينة القدس وما جوارها من البلدان التي تعج بالصالحين والأولياء، فابن العربي لم يكن ليكتفي ببلوغ مصر وهي من قامات العلم في زمانها، ولم تكن بغداد بمعزل عن ذلك الطموح لزيارتها والأخذ منها وهي معقل الفكر والحوار، ولم تكن فلسطين مقر الأنبياء بتاركها دون المرور بجدرانها وقبور خيارها وهي بلد الأخيار والصالحين …
الإنسان يولد ليحلم فإذا حلم أصبح إنسانا:
كل من تكلم عن ابن العربي غفل في حديثه عن جانب مهم فيه وهو أنه صاحب فلسفة وفكر، وكتبه التي دونها بالمجلدات شاهدة على ذلك؛ حتى أنك تجد في كتبه تفصيلا عما كتبه وحلا لمشاكل كانت عنوان سهره وهو ينير مصباحه ليلا يطالع الكتب بالمجلدات حتى يجد لما يؤرقه حلا فيخلد حينها إلى النوم، وكأن ميلاد الفكرة كان ما يعيش من أجله؛ يمسي مساءً يبحث عنها في الكتب ويصبح صباحا يبحث عنها في مجالس العلماء والعارفين.
لم يكن إنسانا عاديا يريد علما ليصبح به قاضيا أو معلما يتقاضى أجرا لقاءه؛ بل كان إنسانا يشغله العلم وما هو مسطور في الرُّقع والأوراق…
إن ميلاد كل إنسان يبدأ بالحلم فإذا تحقق الحلم رأينا شخصا آخرا غير الذي كنا نراه بالأمس؛ لا يعرف الكلام ولا المشي ولا يعرف الباء من الميم ولا الجلوس من الوقوف… رأيناه شخصا يضيف إلى التاريخ الإنساني أحلامه وتأملاته وأنْفَاسَه، لهذا فهو معنا إلى اليوم وكتبه لازالت تدرس وكأن كاتبها قد عاش قبل قرن مضى…
ابن العربي ذهب جسده لكن أحلامه لا تزال تجول معنا، تأملاته لازالت ترافقنا، كلماته لازالت تخاطبنا، روحه لازالت تعلمنا وستستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ لأن الإنسان وليد الحُّلُم فإذا حلق لقاءه رأينا شخصا لم نعهد رؤيته…