أمر الولد بالصلاةِ بين الوحي والحكمة
قال اللّٰهُ تعالى: {وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف : 54]
هكذا على إطلاقِ الحقيقة من الأزلِ إلى الأبد يكون الإنسانُ إلى نفسه وإلى غيره أعجبَ ما خلق اللّٰهُ خصومةً وجدلاً.
النفسُ البشريةُ بغلبةِ هواها رعناءٌ وتقع في فلسفة زاعمة لأف بائيات وجودية لا تحتاج إلى نظرياتٍ وبراهين: حقائق هي بطبيعتها الظاهرة البيّنة أهون من أن يخوضَ الإنسان لأجلها صراعاتٍ نفسية: أشياءٌ هي في الحقيقة من بديهياتِ نوازع الحق.
ودليلاً على ذلك، أنت كبالغٍ راشدٍ مدركٌ ومؤمنٌ بحقيقة وجود الأكل في جسمك لأجل أن تعيش؛ ولأجل ذلك تحترم في نفسِك أسبابَ تلك الحقيقة، ولذلك تأكل بكل بساطةٍ دون أي فلسفة تدعوا لاطمئنانِ العقلِ لذلك، كقولك مثلاً: لماذا يجب علي أن أأكل؟!! أو ما دعوى فرضيةِ اقتران عيشي وحياتي بالأكل؟!!
وكما الحال هناك؛ الحال هنا مع الصلاةِ، أنت مؤمن بوجود الله ومؤمنٌ بالإسلام، فمن الطبيعي أن تحترم وتُسلم وتُذعن لأسبابِ هذه الحقيقة، لواحدٍ من أوائلِ أوامر الله لك ولا يصحُ الإسلامُ بدونه.
ولو ذكرناها بالعكس؛ لنتخيل حجم المأساة التي يضع بها الإنسانُ نفسه، لو أنّك لا تصلي، فإنك بذلك لست مؤمنًا أو إيمانك به خللٌ عظيم وذلك أيضًا لا يُسمىٰ إيمانًا، هل يصح ألّا تأكل وبعدها تقولُ لي بكلّ ثقةٍ أنك تؤمن بأن الأكل هو الوسيلة الوحيدة التي تحافظ على استمرارِ حياتي؟!!!
صديقي لو أنّك مؤمنٌ بالفعل لأكلت، هكذا ببساطة؛ ولذلك فلو كنت مؤمنًا بحق لحافظت على صلاتك.
وكما الجوع شهوةٌ فطرنا الله بها، فإن الإيمانَ بالله وبوجودهِ فطرةٌ فُطرنا بها، فكون أنّك تهتدي لوجودِ الله يسوقك إلى صلاته، أنت عبدٌ مطيع وهو ربٌ حاكمٌ آمرٌ، وأنت مُستسلمٌ ومسلمٌ لتلك الحقيقة، ولأنّ الإنسانَ مُتمسكٌ بدنياه بكل تلابيبِ قلبه وعقله، فشهواتُ البقاءِ فيها ولأجلها تكون في أشُدّها من الشغلِ والجاهزيةِ بكلِّ سلامةٍ وتسليمٍ دون الخوضِ في الفلسفياتِ كما يفعل في أوامر الله.
صلّوا لله بكل بساطةٍ؛ لأنه أمرٌ بديهي وفقط، لا يحتاج إلى قرارٍ وعزيمةٍ وجهدٍ مُبالغٍ فيه ومزعومٍ ولا يحتاج إلى طاقةٍ كبرى فائقة كما يدّعي البعض ما دُمت مؤمنًا حق الإيمان، كالذي يقول وهو مفتون بهذا الإدعاء: “ربنا يهديني لأجلِ الصلاة” وهو لا يحاول أن يصلي بالأساس، كل شيءٍ بهدايةِ وفضل الله ومعونته ولكن حينما يُسلم المرء منا ويؤمن حق الإيمان فبذلك يهديك الله، وليس أن يكون إيمانك منقوصًا ومزعوما وتريدُ هدايةَ الله، وكأنّه لا يُرضيك إلا أن يُنزّل الله لك بالخصوص من السماء ملائكةً لتسوقك وتدفعك إلى الصلاة؛
ولبيانِ تلك الإشكالية في قولِ الله تعالى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة : 45]
فقد قال ابن عباس: يعني المصدقين بما أنزل الله، وقال مجاهد: المؤمنين حقا.
وهو ما لا يُنافي ما ذكرناه سابقًا، وأُضيف أنه طالما تكلّم المولٰى -عز وجل- في قياس ثقَلِها وحِملها على النفسِ فذلك لا ينفي أداءها بل يؤكد أداءها مع ثِقل النفسِ منها، وكلامي أعلى عمّن لا يؤدها بالأساس، وهو ما لا يتعارض مع الآيةِ الكريمة.
ويذهبُ بنا هذا الحديث السابق للجوابِ على من يقول: “أني لا أُجبِر ابني على الصلاةِ وهو صغير، فإما أن يصلي باقتناعٍ أو لا أجبره على الصلاةِ، فإن كان كذلك فالأولى أن لا يصلي”.
وللرد على تلك الفلسفة الآثمةِ هذه نذكر حديث الحبيب ﷺ والذي نعلمه جميعًا وينافي هذا الكلام: “مروا أبناءكم بالصلاة وهم أبناء سبع واضربوهم عليها وهم أبناء عشر وفرقوا بينهم في المضاجع” رواه أحمد وأبو داود.
وقبل البدء في تعليل أمر الرسول ﷺ لنا بالتعليم في سبع والضرب في عشر نقول ما لابد أن يقال.
سأحكي عن تجاربٍ لأشخاصٍ كثيرين حولي وأذكر تجربتي معهم كذلك، هو من الطبيعي أن تبدأ حياتك صغيرًا طفلاً لا تحمل همًا ولا حِملاً ولا شيئًا يُثقلُ ظهرك وأنت صغير، تذهب وتأتي في حياتك دون أن يهمّك شيء، حتى ولو حصل لك موقف أو حادثة أثرت عليك فهناك من يرعاك ويتحمل مسؤوليتك؛ لأنك لست أهلاً لتحملها فيوجهك من حولك، وفي ظل ذلك لن تدهسَ عليك الدنيا ببلاءاتها واختباراتها إلى أن تبلغ الحُلم أو ما بعده بقليل؛ فلا يوجد في داخلك تقريبا احتياج لسندٍ تشتكيه ويصبّرك على قسوةِ الحياة.
إلى أن يأتي سن البلوغ وتحمل المسؤولية والنكبات وتتخطى العديد من المصائب، فليكن في ذهنك أن الإنسان بطبيعته كلّما أمعن في فهم وإدراك الحياة كلما زادت معه تراكمات تحمل المسؤولية وبناء الذات، فأنت في مرحلة ستبدأ فيها الحياة بدهسك بقوة طبقا لطفوليتك من خبرةِ الحياة، ونتيجةً لذلك سيظهر في داخلك جزءٌ يبدأ ينحتُ في نفسك احتياجك لسند تشتكي إليه وتستريح معه بالصبر على أعباءِ الحياة.
وكل ذلك بافتراض أنك لا تصلي، فتبدأ نفسك بتساؤلٍ أنت لا تفهمه، يعذبك كل يومٍ تمر فيه بمصيبةٍ أو اختبارٍ؛ لأنك لا تعرف له جوابًا، فتدخل في صراعٍ دائمٍ مع نفسك يزيد كل يومٍ في حياتك لا يمكن أن يطفئه مجرد دعاءٍ ولجوءٍ إلى الله مع علمك بفرضية الصلاةِ عليك، ومهما لجأت ودعيت لن ينصلح حالك لأنه مبنيٌ على إيمانٍ مشبوه، فلو صححت إيمانك ولجأت حق اللجوء إليه لاستقمت على صلاته التي افترضها عليك.
دعوني أذكر معرفتي بأُناسٍ كثيرين داوموا على هذا الصراع النفسي الكئيب حتى وصلوا إلى حقيقةٍ واحدة: أن النفسَ البشرية أضعف بكثيرٍ من أن تعيشَ الحياةَ بصفتها التجريديةِ من المعاناةِ بدون الصلاة، وأن الروح هشةٌ وعاريةٌ لأقلِ نزغاتِ الحياة من غير الصلواتِ الخمسِ.
هذا كلامُ من وصل وهداه الله لمّا ترك إجابةَ واتزانَ فطرته لسؤالِ النفسِ واضطرابها، وهناك منْ لم يصلوا بعد وهناك منْ لن يصل أبدًا، وأولئك من كتبوا على أنفسهم الشقاءَ إلى يوم أن تأتي آجالُهم، حتى يقولوا يومَ القيامة في أشدّ ساعاتهم ذلاً أمام الله: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ} [المؤمنون : 106]
فيظلوا على طولِ أيام عمرهم يترنحوا بين مواطن الغفلة والمسكناتِ اللحظية في أعتى ساعاتِ العذاب النفسي لآخر نفَسٍ في حياتهم؛ لأننا نتكلم عن فطرةٍ فُطر الناس عليها وليست مجرد صفةٍ مكتسبة، فطرةٍ تجرّك إلى الله جرًا ذاتيًا بكل دواخل النفسِ البشرية، ونتحدث عن واقعٍ وحياةٍ؛ ذلك الذي طالما أنك حيٌ فإنك تعاني ونقطة.
فقد قال الله تعالى في آيةٍ تصف وتكفي عن كل مقالٍ: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام : 43]
أنت ولو للحظةٍ فكرت بأنك لا تملك من نفسك شيئًا ولا من حولك أي شيءٍ ستدرك أنك بلا قيمةٍ إن لم تجد من تستند عليه وتشتكيه وتصطبر عنده، والسندُ ذلك لا يصح إلا أن يكون صاحبًا لهذا الكون والمتحكم فيه؛ لسببٍ يجعلك إذا رميت إليه بأي أمر يستطيع أن يعينك ويصبرك عليه، والأهم يقينك أنت بذلك؛ فالله يقول: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ۖ لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكَ ۗ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ} [طه : 132]
والجميل أن فطرتك لا تقول غير ذلك؛ فيقينك هو مرسومٌ في النفسِ بخطوطِ العمل بأوامر الله ونواهيه، وأول تلك الأوامر هي الصلاة.
ووالله على الرغم من صغر سني ولكن لامستُ ذلك في نفسي حينما داست عليّ الحياةُ دوسًا وكلٌ على قدر حجمه وما خلصني من ندوبِها قبل أن تقع إلا الصلاةُ، والله كان خلاصي الوحيد في الصلاة، أتدركُ معي ماذا يعني أن يأتيك ربّ الأكوان كلها خمس مراتٍ كل يومٍ ويطبطب عليك ويصبّرك بمقتضى الهروب من المعايشة القاسية في الحياة؟!! ولذلك قال الله: {إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22)} [المعارج : 19-22]
ومن هنا نعود لإجابة السؤالِ وما تركناه فوق: لماذا أمرنا الحبيب ﷺ بأمر أولادنا بالصلاة وهم أبناء سبع وضربهم وهم أبناء عشر؟!!
ببساطة من ناحية معايشة الحياةِ ومواجهتها؛ ليرحم أبناءنا من أي عذاباتٍ نفسية من المؤكد أنهم سيخوضونها لأجل أن يصلوا إلى حقيقة فرضيتها في نوازع فطرتهم قبل دينهم طالما اخترنا ألّا نُجبرهم؛
بمعنى أننا حينما نُعلّم ابننا الصلاةَ وهو لا يملك أي تساؤلات -كطفلٍ لم يبلغ بعد- سنربيها لديه كعادة رتيبة من أولوياتِ حياته، حتى تكون أولى العادات في نسق حياته بالتدريج مع إجباره وضربه إن بلغ العشر سنوات وتركها، فإذا ما وصل إلى سن البلوغ واستقامت له بداياتِ بصيرته، وهو متعودٌ الصلاة وهي جزءٌ أصيلٌ من حياته كمسلم، كان بناؤها في نفسه تدريجيًا سهلا ويسيرًا وكائنًا مع نزول نوائب الحياةِ على ظهره ومعرفته بأهميتها وفضلها في تسيير حياته، فإذا كانت لديه من قبل عادةَ الجسد، باتت الآن عادةَ القلب لا يمكنه أن يستغني عنها، فاجتمعت لديه جسدًا وقلبًا بشموليةِ معناها من نفسه.
وفي الحقيقة إن أمر الرسول ﷺ لنا في منتهى الرحمة لو درسناه بشتى الطرق والنواحي الحياتية والعقدية، يحميك ويحمي طفلك من عذابات نفسية، ويغنينا من صراعات نفسية عظيمة من الممكن أن تكسرنا وتنهينا، جُل قولي كان في بنائها كفريضة من فروض الفطرة السليمة، أنت لو اخترت لابنك أن يصلها بنفسه وبمفرده ستكتب عليه فروض المعاناة الكئيبة التي ستهتك من نفسه وروحه، ولا تعلم هل يصل أم لا؟!
ومن الجائز جدًا ألا يقتنع بها وبأهميتها، ويظل يقفز في صراعاتِ التيه ولا تتزن له نفسه أبدًا في معايشتها مع الحياةِ، وأقل نائبة ممكن أن تنهيه وتقضي عليه نهائيًا.
وفي النهاية فليعلم كل فليسوف يريد أن يتنطّع علينا بمنطقه أنّ أمر الرسول ﷺ لنا خيرٌ وفيه من الرحمةِ ما لا يُضاهيه أمرٌ آخر، ولو تحدّثنا من ناحية النظرة البعيدة على طولِ حياة المسلم وشمول المقتضيات في مراحلنا المختلفة واقعيًا ونفسيًا وعمليًا ندركْ الإعجاز في هذا الحديث، وسبحان من علّم رسولنا ﷺ البيان، وعلى الرغم من كل هذا التحليل السابق لفائدة حديث الرسول ﷺ لا أبرر أمر الرسول ﷺ لنا بأن أستنبط منه الحكمة، ولكن نفعل ما يأمرنا به الله ورسوله؛ لأنه أمر الله ورسوله وفقط، وليس لأننا وجدنا فيه الحكمة، وإن وُجدت الحكمة ففضلٌ من الله ونعمة.