أساليب الكذب
بقلم: حسن بوجعادة
كان الكذب عند العرب قبل مجيء الإسلام من أقبح الصفات وأخبث الطباع، حيث كان يأنف أحدهم أن يتلفظ بكلمة تغير الحقائق وتجانب الصدق.
وكم قرأنا في كتب التاريخ عن أقوام في ذلك العصر آثروا الصدق على الكذب حتى في معرض حديثهم عن ألد أعدائهم، لأنهم كانوا يعتبرون ذلك من شيم الرجال ومن الخصال التي تميز الإنسان العربي.
ولما جاء الإسلام أقرهم على خلق الصدق وحببه إلى نفوسهم لأنه يعتبره في حالات كثيرة عنوان شجاعة المرء.
وبالمقابل بغض إليهم الكذب وبين لهم عواقبه في الدنيا والآخرة واعتبره من صفات المنافقين الذين يلبسون للناس جلود الضأن من الأنعام.
وفي عصرنا الحاضر تعاظم خطر الكذب وتعددت صوره وتنوعت أساليبه حتى صار عند الكثيرين وسيلة لتحقيق مآربهم ومنهجا لتنفيذ برامجهم.
والسؤال الذي يطرح نفسه: كيف يمكن للكذب أن يؤدي إلى تفسخ الأخلاق وانحراف المجتمع بعد أن صار أمرا مألوفا عند الكثيرين وعادة قليل من يستنكرها؟
يتطلب الأمر قبل الإجابة عن هذا السؤال معرفة صور الكذب وحكم الكذب على الله عز وجل وعلى رسوله بحيث يؤدي الكذب في هاتين الحالتين إلى تغيير أحكام الشرع وتحريف مبادئه وقواعده.
قال الامام النووي : “الكذب هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه عمدا كان أو سهوا” (شرح مسلم 94/1)
وقد تتعدد صور الكذب وتختلف حالاته غير أن حقيقته لا تتغير وإن تغيرت الألفاظ الدالة عليه.
ومن صور الكذب التي تدل على مخالفة القول للواقع نذكر على سبيل المثال:
- الافتراء: أبشع صور الكذب، وهو أن تقول على الله ما لم يقم عليه دليل إما تحريما أو تحليلا قال تعالى: “ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون” سورة “النحل 116”.
- البهتان: قال القرطبي “وحقيقة البهتان أن يقال في الإنسان ما ليس فيه” (الجامع لأحكام القرآن-12/205)
- الترقيش: هو نقل الكلام كذبا قصد الوشاية، قال الحارث ابن كلدة:
أيها الناطق المرقش عنا *** عند عمرو وهل لذا كبقاء
- التزوير: وهو تزيين الكلام بالكذب، قال الأصمعي: «التزوير تهيئة الكلام وتقديره، والإنسان يزور كلاما وهو أنيق وهو يتقنه قبل أن يتكلم” (لسان العرب ابن منظور 4/337)
- التزخرف: “هو القول المزين بالباطل المحسن بالكذب” (أيسر التفاسير 2/106).
قال تعالى: “يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا” (الأنعام 112).
- الخوض: “اللبس في الأمر والخوض من الكلام ما فيه الكذب والباطل” أي أن يخلط بين الكذب والباطل. (لسان العرب 7-147)
- الإفك: قال الخطابي: “سمي الكذب إفكا لأنه قلب عن الحق إلى الباطل، وسميت مدائن قوم لوط المؤتفات لانقلابها”. (الخطابي 1-680)
ويصبح الكذب أخبث كلمة ترددها الألسن عندما يتعلق الأمر بالكذب على الله عز وجل، وهو أقبح أنواع الكذب، ويتخذ صورا متعددة، وقد وصف الله عز وجل كل الذين كذبوا عليه بأوصاف مذمومة وتوعدهم بالخزي في الدنيا والعذاب الشديد في الآخرة، والآيات في ذلك كثيرة:
فمن ذلك قوله تعالى: “وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم” التوبة الآية 30.
وقوله :”كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا” الكهف الآية5 .
وقوله :”فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا” هود الآية. 18
وقوله :”إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون” النحل الآية 105.
وقوله: “ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون” (النحل 116)
فقد كذب الذين اعتبروا أن الله عز وجل اتخذ ولدا فأوقعهم الكذب في الكفر.
وكذب الذين بدلوا وغيروا دين الله عز وجل ووضعوا لأنفسهم أحكاما ما أنزل الله بها من سلطان، ثم جعلوا من الكذب وسيلة لإضلال الناس فوقعوا في أعظم الظلم.
وكذب الذين أحلوا وحرموا تبعا لأهوائهم.
وإذا كان الكذب في مدلوله العام يؤدي إلى تغيير الحقائق بشكل يؤدي إلى حصول مفاسد كثيرة، فإن الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم هو تغيير وتبديل في شرع الله عز وجل، بحيث أن الكاذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع للناس أحكاما ما أنزل الله بها من سلطان.
والأحاديث التي ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم تبين الجزاء الذي سيلقاه كل من كذب عليه معتمدا.
فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: “لا تكذبوا علي فإنه من يكذب علي يلج النار“مسلم1/1.
وقوله: “من كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار” مسلم 1/3.
ومع تطور وسائل الإعلام وتنوعها، صار الكذب منهجا وأسلوبا لدى الكثير من الذين ضربوا بالأخلاق عرض الحائط.
فاستعمل الكذب كسلاح للطعن في أعراض الناس وتتبع عوراتهم، فتارة يأتون بالإفك في أقبح صوره ،وتارة يخوضون في الكلام حتى يصبح مجرد حديث يتناوله ذوو القلوب المريضة.
ويستعمل الكذب كأسلوب في الجدال والنقاش في المناظرات يراد منه نشر مذهب منحرف وترسيخ أفكار ضالة فيظهر أثر ذلك على الأجيال القادمة.
ويستعمل الكذب من طرف الدول كأسلوب لتمويه الرأي العام وإخفاء الحقائق التي تخالف توجهاتها وتعارض مصالح أصحاب القرار في تلك الدول، فلا تظهر حقيقة ما تم الترويج له إلا بعد مرور مدة طويلة.
أما في المجال السياسي، يعتبر الكذب وسيلة للوصول إلى السلطة ومراكز القرار بغية تحقيق مآرب شخصية فيعتمدون البرامج الكاذبة والخطابات ذات العبارات الرنانة والكلمات الطنانة.
وكتب التاريخ مليئة بالأكاذيب التي وضعت أراذل الناس فوق قمم الجبال وصنعت منهم أبطالا أنجزوا الملاحم وحققوا المنجزات.
وفي نفس الوقت شوهت صور الفضلاء وخونت الأمناء واتهمت الأبرياء.
ويتضح مما سبق أن الكذب هو تلك الكلمة التي تجتاز حدود الزمان والمكان؛ قد تظهر الكذبة في وسط معين، ويتلقفها الوشاة ومروجو الاشاعات فيطيرون بها في الآفاق فيجني حصادها المر كل مجتمع راجت في أرجائه تلك الكلمة.
وكلما بقي الكذب ساري المفعول معمولا به لدى أرباب الكذب وصناع التضليل إلا وكان للأجيال القادمة نصيب من آثاره وعواقبه.
المراجع:
- صحيح مسلم: الجزء الاول لابي الحسين مسلم القشيري النيسابوري
- ابو عبيد الله القرطبي (ت671هـ)-الجامع لأحكام القرطبي الجزء :12
- ابو عبد الله الزوزني- شرح المعلقات السبع
- ابن منظور- لسان العرب- الجزء الرابع.
- ابو بكر جابر الجزائري – أيسر التفاسير- الجزء الثاني.
- ابو سليمان الخطابي – غريب الحديث- الجزء الأول.
- د. الدكتور مصطفى مراد – خلق المؤمن.